ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ
(15)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} بَعْدَ أَنْ عَدَّدَ اللهِ ـ تَعَالَى، في الآياتِ السَّابقةِ الدَّلَائِلَ عَلَى تَفَرُّدِهِ بِالْخَلْقِ عَلَى اخْتِلَافِ أَصْنَافِ الْمَخْلُوقَاتِ، لِإِبْطَالِ الشِّرْكِ ونَزعِهِ مِنَ القلوبِ والنُّفوسِ. ذَكَّرَ عبادَهُ بالمَوْتِ، وَكَأَنَّهُ يقولُ: ومَنْ لمْ يَتَّعظْ بكلِّ هَذِهِ الأَدِلَّةِ فليعلمْ أَنَّ مَصيرَهُ الموتُ، فإِذا ماتَ لمْ يعدْ لهُ حولٌ ولا طويلٌ ولا قوةٌ، وسيحاسِبُهُ اللهُ على ما قَدَّمَ ويَجْزَيه بما عَمِلَ، فهوَ إِذًا تهديدٌ ووعيدٌ وتحذيرٌ غيرُ مباشِرٍ بما ينتظُرُ الإنسانَ مِنْ مصيرٍ.
وقد جيءَ بحرفِ العطْفِ "ثُمَّ" وهِيَ لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لِأَنَّ أَهَمِّيَّةَ تَذْكِيرِهم بِالْمَوْتِ فِي هَذَا الْمَقَامِ أَقْوَى مِنْ أَهَمِّيَّةِ ذِكْرِ الْخَلْقِ، وَفي إِخْبَارَهم عَنْ مَصيرِهِمْ المَحْتُومِ هَذا تَوْطِئَةٌ لِلْجُمْلَةِ التَّالِيَةِ المُذَكِّرةِ لهم بِبَعْثِهِم وَهُوَ الْمَقْصُودُ.
فلَقَدْ نَعَاكَ رَبُّكِ في هَذِهِ الآيةِ المُباركةِ إِلَى نَفْسِكَ أَيُّها الإِنْسانُ، وَكُلُّ مَا هُوَ آتٍ قَرِيبٌ، فَتَنَبَّهْ مِنْ سَطْوةِ غَفْلَتِكَ، وثُبْ إلى رُشْدِكَ، وحاسِبْ نفسَكَ قبلَ أَنْ تُحاسَبَ، واعملْ بوصِيَّةِ أميرِ المُؤمنينَ عمرَ بْنِ الخطَّابِ ـ رضي اللهُ عَنْهُ، الَّذي كَانَ يَقولُ: (حَاسِبُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تَحَاسَبُوا، وَزِنُوا أَنْفُسَكُمْ قَبْلَ أَنْ تُوزَنُوا، فَإِنَّهُ أَخَفُّ عَلَيْكُمْ فِي الْحِسَابِ غَدًا، أَنْ تُحَاسِبُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ، وَتَزَيَّنُوا لِلْعَرْضِ الْأَكْبَرِ، يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ). أَخْرَجَهُ ابْنُ المُبَارَكِ في "الزُّهْد": (1/103، رقم: 306)، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (7/96، رقم: 34459)، والترمذِيُّ: (4/638)، وَأَبُو نُعَيْمِ في "الحِلْيَة": (1/52)، وابْنُ عَسَاكِرَ: (44/314). وَالْمَيِّتُ ـ بِالتَّشْدِيدِ، وَالمَائِتُ: هوَ الَّذِي لَمْ يَمُتْ بَعْدُ وَسَيَمُوتُ، وَالْمَيِّتُ ـ بِالتَّخْفِيفِ: هوَ مَنْ مَاتَ، وَلِذَلِكَ لَمْ يَجُزِ التَّخْفِيفُ فيها هَاهُنَا.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وترتيبٍ وَتَرَاخٍ. و "إِنَّكُمْ" إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوْكِيدِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ، والميمُ علامةُ تذْكيرِ الجَمعِ. و "بَعْدَ" منصوبٌ على الظَّرفيَّةِ الزَّمانيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَيِّتُونَ"، ولا تمنَعُ لامُ الابتِداءِ مِنْ ذلك، أَوْ يتعلَّقُ بِحَالٍ مِنْ كَافِ المُخَاطَبِينَ، وهوَ مُضافٌ، وَ "ذَلِكَ" ذا: اسْمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخطابِ. أَيْ: بَعْدَمَا ذُكِر، وَلِذَلِكَ أُفْرِدَ اسْمُ الإِشارَةِ. و "لَمَيِّتُونَ" اللَّامُ: هِيَ المُزَحلقةُ للتَّوْكيدِ (حرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "مَيِّتُونُ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفُوعٌ بها، وعلامةُ رفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّلمُ، والنونُ عِوَضٌ مِنَ التنوينِ في الاسْمِ المُفْرَدِ، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" معَ اسْمِها وخبرِها مَعْطُوفَةٌ عَلَى جٌمْلَةِ {أَنْشَأْنَاهُ} عَطْفَ جملةٍ إِسْمِيَّةٍ عَلَى جُمْلَةٍ فِعْلِيَّةٍ، وَمَا بَيْنَهُمَا اعْتِرَاضٌ. وَجملةُ {أَنْشَأْناهُ} معطوفةٌ على جملةِ {فكسونا} عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا للْقَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {لَمَيِّتُونَ}، وَقَرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا، وابْنُ أَبي عَبْلَةَ، وَابْنُ مُحَيْصِنٍ: "لَمائِتون" وَالفرقُ بَيْنَهُما: أَنَّ المَيِّتَ يَدُلُّ عَلَى الثُّبُوتِ والاسْتِقْرَارِ، والمَائِتَ يدُلُّ عَلَى الحُدُوثِ، كَضِيِّقٍ وَضَائِقٍ، وَفَرَحٍ وفارِحِ. فَيُقالُ لِمَنْ سَيَمُوتُ: مَيِّتٌ وَمَائِتٌ، وَلِمَنْ مَاتَ: مَيِّتٌ فَقَط. دَونَ "مائتٍ" لِاسْتِقْرارِ الصَّفَةِ وَثُبُوتِها، فَإِنْ قِيلَ: "المَوْتُ" لِمَ يَخْتَلِفْ فيه اثنان، وكم مِنْ مُخَالِفِ فِي البَعْثِ، فَلِمَ أَكَّد المُجْمَعَ عَلَيْهِ أَبْلَغَ تَأْكِيدٍ، وَتُرَكَ المُخْتَلَفَ فِيهِ مِنْ تِلْكَ المُبَالَغَةِ فِي التَأْكِيدِ؟ فَالجَوَابُ: إِنَّهُ لَمَّا تَظَاهَرَتْ أَدِلَّةُ البَعْثَ، وَتَضَافَرَتْ أَبْرَزَ في صُورَةِ المُجْمَعِ عَلَيْهِ المُسْتَغْني عَنْ ذَلِكَ، وَأَنَّهم لَمَّا لَمْ يَعْمَلُوا للْمَوْتِ، وَلَمْ يَهْتَمُّوا بِأَمُورِهِ، نُزِّلُوا مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُهُ، فَأَبْرَزُهُمْ فِي صُورَةِ المُنْكَرِ الَّذي اسْتَبْعَدَوهُ كُلَّ الاسْتِبْعَادِ.
وأَجابَ عَنْ ذَلِكَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلَسِيُّ فَقالَ: إِنَّ اللّامَ تُخَلِّصُ المُضَارِعَ لِلْحَالِ غَالِبًا، وَلَا يُمْكِنُ دُخُولُهَا فِي "تُبْعَثُون" لِأَنَّهُ مُخَلِّصٌ للاسْتِقْبالِ، لِعَمَلِهِ فِي الظَّرْفِ المُسْتَقْبَلِ. وَاعْتَرَضَ عَلَى نَفْسِهِ بِقَوْلِهِ: {وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة} الآيةَ: 124، مِنْ سورةِ النَّحْلِ، فإِنَّ اللَّامَ دَخَلَتْ عَلَى المُضَارِعِ العَامِلِ فِي ظَرْفٍ مُسْتَقْبَلٍ، وَهُوَ يَوْمُ القِيامَةِ. وَأَجَابَ عَنِ اعتراضِهِ هذَا بِأَنَّ هَذَا خَرَجَ بِقَوْلِهِ: "غَالِبًا"، أَوْ بِأَنَّ العامِلَ فِي "يَوْمَ القِيَامِةِ" مُقَدَّرٌ. وَفِيهِ نَظَرٌ لَا يَخْفَى على ذي نَظَرٍ؛ إِذْ فِيهِ تَهْيِئَةُ العاملِ للعَمَلِ وَقَطْعُهُ عَنْهُ.