الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 30
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} الْإِشَارَةُ بِـ "ذلكَ" إِلَى مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهِ في الآياتِ السابِقَةِ مِنْ قِصَّةِ سَيِّدِنا نُوحٍ ـ علَيْهِ السَّلامُ، مَعَ قَوْمِهِ وَمَا فِيهَا مِنَ الْآيَاتِ وَالدَّلَالَاتِ، وهِيَ كَثِيرَةٌ، فَمِنْهَا مَا هُوَ دَالٌّ عَلَى صِدْقِ نُوحٍ فيما ادَّعاهُ مِنْ إرسالِ رَبِّهِ إيَّاهُ رَسُلًا إلى قومِهِ، وَمِنْ تِلْكَ الآياتِ إِجَابَةُ دَعْوَتِهِ، حينَ دعا عَلَى قومِهِ بالهلاكِ، حيثُ صَدَّقَ اللهُ رِسَالَتَهُ، وأَجَابَ دُعاءهُ وَأَهْلَكَ مُكَذِّبِيهِ، وَمِنْهَا آيَاتٌ لِأَمْثَالِ قَوْمِ نُوحٍ مِنَ الْأُمَمِ الْمُكَذِّبَةِ لِرُسُلِها، وَمِنْهَا آيَاتٌ عَلَى عَظِيمِ قُدْرَتِهِ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالَى، فِي إِحْدَاثِ الطُّوفَانِ، وَإِنْزَالِ مَنْ فِي السَّفِينَةِ مَنْزِلًا مُبَارَكًا، وَمِنْهَا آيَاتٌ دالَّةٌ عَلَى عِلْمِ اللهِ وَحِكْمَتِهِ إِذْ قَدَّرَ لِتَطْهِيرِ الْأَرْضِ مِنَ الشِّرْكِ مِثْلَ هَذَا الِاسْتِئْصَالِ الْعَامِّ للكَفَرةِ وَأَهْلِ الشِّركِ. وَتَقْديرهُ هَذا الصُّنْعَ لِإِبْقَاءِ الْأَنْوَاعِ إِذْ نَجَّى مِنْ كُلِّ نَوْعٍ زَوْجَيْنِ لِيُعَادَ التَّنَاسُلُ، وتَسْتَمِرَّ الحياةُ على الأَرْضِ.
قولُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} أَيْ: وَمَا كُنَّا إِلَّا مُخْتَبْرينَ إِيَّاهُمْ حينَ أَرْسَلْنا نَوحًا إِلَيْهِم فوَعَظَهم وذَكَّرَهُم، وكَذلكَ كانَ الشَّأْنُ مَعَ باقي الْأُمَمِ مِنْ قَبْلَكُمْ، حَيْثُ اخْتَبَرْنَاهم بِإِرْسَالِ الرُّسُلِ إِلَيْهِمْ لِيَظْهَرَ الْمُطِيعُ وَالْعَاصِي فَيَتَبَيَّنَ لِلْمَلَائِكَةِ حَالُهُمْ، لَا أَنْ يَسْتَجِدَّ الرَّبُّ عِلْمًا، أوْ يُزادَ شيْءٌ على عِلْمِهِ، ولنقيمَ الحُجَّةَ على الكافرينَ منهم والمُكَذِبينَ.
وَالجملةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ" لِأَنَّ مَضْمُونَ "وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ" يُفِيدُ مَعْنَى: إِنَّ فِي ذَلِكَ لِبَلْوَى، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَابْتِلَاءٍ، وَكُنَّا مُبْتَلِينَ، أَيْ: وَشَأْنُنَا ابْتِلَاءُ أَوْلِيَائِنَا. فَإِنَّ الِابْتِلَاءَ مِنْ آثَارِ الْحِكْمَةِ الْإِلَهِيَّةِ لِتَرْتَاضَ بِهِ نُفُوسُ أَوْلِيَائِهِ وَتُظْهِرَ مُغَالَبَتَهَا لِلدَّوَاعِي الشَّيْطَانِيَّةِ فَتَحْمَدُ عَوَاقِبَ الْبَلْوَى، وَلِتَتَخَبَّطَ نُفُوسُ الْمُعَانِدِينَ وَيَنْزَوِي بَعْضُ شَرِّهَا زَمَانًا، وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَآمَنَ معَ نُوحٍ قَوْمُهُ، وَلَوْ شَاءَ لَنَصَرَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ كَذَّبوهُ فيهِ، وَلكِنَّها سُنَّةُ ولَكنَّها سُنَّةُ اللهِ في خلقِهِ، وحكمتُهُ ـ جلَّ وَعَلَا. وَفِي هَذَا الْمَعْنَى مَا جَاءَ فِي حَدِيثِ أَبِي سُفْيَانَ حينَ قَالَ لَهُ هِرَقْلُ: (وَكَذَلِكَ الْأَنْبِيَاءُ تُبْتَلَى، ثُمَّ تَكُونُ لَهُمُ الْعَاقِبَةُ)، كما قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الْقَصَصِ: {وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ } الآيَةَ: 83.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "إِنَّ فِي ذَلِك لآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ" قَالَ: أَيْ: ابْتَلَى النَّاسَ قَبْلَكُمْ.
وَفِيها تَسْلِيَةٌ للنَّبِيِّ الكريمِ مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ وآلِه أَفْضَلُ الصَّلاةِ وَأَكْمَلُ التَّسْليمِ، عَمَّا كانَ يَلْقَاهُ وأَصْحابُهُ مِنَ أَذَى الْمُشْرِكِينَ، وَفيها أَيْضًا تَهْدِيدٌ لِمُشْرِكِي قُريشٍ بِأَنَّ مَا يُوَاجِهُونَ بِهِ دعوةَ رَسُولهم ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، زائلٌ لَا بَقَاءَ لَهُ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْتلاءٌ للمُؤمِنينَ، وَقَدْ أَكَّدَ اللهُ ـ تَعَالَى ذَلكَ بـِ "إِنَّ" الْمُخَفَّفَةِ وَبِفِعْلِ "كُنَّا"، والحمدُ للهِ رَبِّ العالمينَ.
قولُهُ تَعَالَى: {إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ} إِنَّ: حَرْفٌ ناصِبٌ، نسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوكيد. و "فِي" حرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "إِنَّ" مُقَدَّمًا على اسْمِها، و "ذَلِكَ" ذا: اسمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "لَآيَاتٍ" اللَّامُ: هِيَ المُزَحْلَقَةُ للتَّوكيدِ، (حَرْفٌ ابْتِدَاءٍ). و "آياتٍ" اسْمُ "إِنَّ" المُؤَخَّرُ منصوبٌ بِهَا، وعلامةُ النَّصْبِ الكَسْرُ عِوَضًا عنِ الفتحِ لأنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالمُ. وَالجُمْلةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخَبَرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعرابِ.
قوْلُهُ: {وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. وَ "إِنْ" هيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ، حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ، وَاسْمُهَا ضَمِيرُ الشَّأْنِ. و "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رَفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نَا" ضميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، و "نا" التعظيمِ هَذِا ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ". و "لَمُبْتَلِينَ" اللَّامُ: هِيَ الفارِقَةُ بَيْنَ (إِنَّ) الْمُؤَكِّدَةِ الْمُخَفَّفَةِ عِنْدَ إِهْمَالِ عَمَلِهَا وَبَيْنَ "إِنْ" النَّافيَةِ. وَقِيلَ: هيَ النَّافيَةُ، وَاللَّامُ بِمَعْنَى "إِلَّا"، وَ "مُبْتَلِينَ" خَبَرُ "كَانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَالجُمْلَةُ مِنْ "كانَ" واسْمِها وخبرِها في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنْ" المُخَفَّفَةِ، وَجُمْلَةُ "إِنْ" المُخَفَّفَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "إِنَّ" الأُولَى على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَقيلَ بأنَّها في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ، أَيْ: وَإِنَّ الشَّأْنَ كُنَّا مُصِيبِينَ قَوْمَ نُوحٍ بِبَلاءٍ عَظيمٍ، وَعِقَابٍ شَديدٍ، أَوْ مُخْتَبِرينَ بِهَذِهِ الآياتِ عِبَادَنَا لِلنَّظَرِ مَنْ يَعْتَبِرُ وَيَتَذَكَّرُ، فيكونُ كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ القَمَر: {وَلَقَدْ تركناها ءايَةً فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ} الآيةَ: 15. واللهُ أعلمُ.