الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 79
وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} اسْتِدْلَالٌ آخَرُ عَلَى انْفِرَادِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، بِالْإِلَهِيَّةِ امْتِنَانٌ بِنِعْمَةِ الْإِيجَادِ والإمْدادِ بِالْحَيَاةِ، وَالتَّمْكينِ في الْأَرْضِ بِإِكْثَارِ النَّوْعِ. وَفيهِ دَليلٌ عَلَى الْبَعْثِ لِأَنَّ الَّذِي خَلَقَ النَّاسَ مِنْ عَدَمٍ وَمَنَحَهُمُ الحَيَاةَ قَادِرٌ عَلَى إِحْيَائِهِمْ مَرَّةً ثانيةً، وإنْ تَقَطَّعَتْ أَوْصَالُهُمْ وأَرِمَتْ أَجسادُهُمْ وَتَفرَّقتْ أَجْزَاؤهُمْ.
والذَّرْأُ: الخَلْقُ والتَّكْتيرُ وَالْبَثُّ، فقد ذَرَأَ الهُث الخلْقَ يَذْرَؤُهُمْ ذَرْءًا. خَلَقَهُمْ، وبثَّهُمْ في الأَرْضِ. وَمِنْهُ: الذُرِّيَّةُ، أَيْ: النَّسْلُ، وَالجَمْعُ: الذَّرارِيُّ. وَفِي الحَديثِ الشَّريفِ قولُهُ ـ صلَّى الهُِ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((ذَرْءَ النَّارِ))، أَيْ: أَنَّهُمْ خُلِقُوا لَهَا، فَقَدْ أَخْرَجَ الإمَامُ أحمدُ في مُسْنَدِهِ عَنْ أَبِي التَّيَّاحِ، قَالَ: قُلْتُ لِعَبْدِ الرَّحْمَانِ بْنِ خَنْبَشٍ التَّمِيمِيِّ، وَكَانَ كَبِيرًا، أَدْرَكْتَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؟. قَالَ: نَعَمْ, قَالَ: قُلْتُ: كَيْفَ صَنَعَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَيْلَةَ كَادَتْهُ الشَّيَاطِينُ, فَقَالَ: ((إِنَّ الشَّيَاطِينَ تَحَدَّرَتْ تِلْكَ اللَّيْلَةَ عَلَى رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, مِنَ الأَوْدِيَةِ وَالشِّعَابِ, وَفِيهِمْ شَيْطَانٌ بِيَدِهِ شُعْلَةُ نَارٍ, يُرِيدُ أَنْ يُحْرِقَ بِهَا وَجْهَ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فَهَبَطَ إِلَيْهِ جِبْرِيلُ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ, فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ, قُلْ, قَالَ: مَا أَقُولُ؟ قَالَ: قُلْ: أَعُوذُ بِكَلِمَاتِ اللهِ التَّامَّةِ, مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ, وَذَرَأَ, وَبَرَأَ, مِنْ شَرِّ مَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ, وَمِنْ شَرِّ مَا يَعْرُجُ فِيهَا, وَمِنْ شَرِّ فِتَنِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ, وَمِنْ شَرِّ كُلِّ طَارِقٍ, إِلَّا طَارِقًا يَطْرُقُ بِخَيْرٍ, يَارَحْماَنُ, قَالَ: فَطُفِئَتْ نَارُهُمْ, وَهَزَمَهُمْ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ: (3/419، رقم: 15539 و:15540)، قَالَ الحافظُ المُنْذِرِيُّ: (2/303): رَوَاهُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَلِكُلٍّ مِنْهُما إِسْنَادٌ جَيِّدٌ مُحْتَجٌّ بِهِ. وَقالَ ابْنُ حَجَرٍ الهَيْثَمِيُّ: (10/127): رَوَاهُ أَحْمَدُ وَأَبُو يَعْلَى وَالطّبَرَانَىُّ بَنَحْوِهِ، وَرِجَالُ أَحَدِ إِسْنَادَيْ أَحَمَدَ وَأَبِى يَعْلَى وَبَعْضِ أَسَانِيدِ الطَّبَرانيِّ رِجَالُ الصَّحيحِ. وأَخْرَجَهُ أيضًا ابْنُ السنيِّ: (ص: 238 رَقم: 641). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ.
وَمَنْ قَالَ: ذَرْوَ النَّارِ ـ بِغَيْرِ هَمْزٍ: أَرَادَ أَنَّهُمْ يُذْرَوْنَ فِي النَّارِ، أَيْ يُنْثَرُونَ فيها. وَالذَرَأُ ـ بالتَّحْريك: الشَيْبُ يكونُ في مُقَدَّمِ الرَّأْسِ. فتقولُ: رَجُلٌ أَذْرَأُ، وَامْرَأَةُ ذَرْآءُ. وَذَرِئَ شَعْرُهُ، وَذَرَأَ لُغَتَانِ.
قَالَ الرَّاجْزُ أَبُو مُحَمَّدٍ الفَقْعَسِيُّ:
قالَتْ سُلَيْمى إِنَّني لَا أَبْغِيَهْ
أَراهُ شَيْخًا عَارِيًا تَراقِيَهْ
مُحْمرَّةً مِنْ كِبَرٍ مآقِيَهْ
مُقَوَّسًا قَدْ ذَرِئَتْ مَجالِيَهْ
يَقْلِي الغَوانِيَ والغَوانِي تَقْلِيَهْ
والاسم الذُرْأَةُ بالضَّمِّ. وَقالَ أَبُو نُجَيْلَةَ السَّعْدِيُّ:
وَقَدٍ عَلَتْني ذُرْأَةٌ بادي بَدِي ................. وَرَثْيَةٌ تَنْهَضُ في تَشَدُّدي
وَذَرَأْ الأَرْضَ: بَذَرَها، وَزَرْعٌ ذَريءٌ. قالَ عُبَيْدُ بْنُ مَسْعُودٍ:
شَقَقْتِ الْقَلْبَ ثُمَّ ذَرَرْتِ فِيهِ ................ هَوَاكِ فَلِيمَ فَالْتَأَمَ الْفُطُورُ
تَغَلْغَلَ حَيْثُ لَمْ يَبْلُغْ شَرَابٌ ................ وَلَا سَكَرٌ وَلَمْ يَبْلُغْ سُرُورُ
وَيُرْوَى ثُمَّ ذَرَرْتِ، وذَرَيْتِ ـ غَيْرَ مَهْمُوزٍ، وَهُوَ الصَّحِيحُ.
وَمِنْ صِفَاتِ الهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، الذَّارِئُ، وَهُوَ الَّذي ذَرَأَ الخَلْقَ، أَيْ: خَلَقَهُمْ، قالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ} الآيةَ: 179، مِنْ سورةِ الأعرافِ، أَيْ: خَلَقْنَا. وقال مِنْ سُورَةِ الشُّورى: {فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ} الآيةَ: 11، أَي يُكثِّرُكُمْ بِجَعْلِهِ مِنْكُمْ وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْواجًا. وَفِي الحَديثِ: ((أَعُوذُ بكَلِماتِ اللهِ التَّامَّاتِ مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ وَذَرَأَ وَبَرَأَ)). وكأَنَّ الذَّرْء مُخْتَصٌّ بخَلْقِ الذُّرِّيَّةِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فِيهِ مِنَ المُحَسِّناتِ البَديعِيَّةِ الطِّبَاقُ. فَقَدْ قُوبِلَ الذَّرْءُ بالْحَشْرِ وَهُوَ ضِدُّهُ، فَإِنَّ الْحَشْرَ يَجْمَعُ كُلَّ مَنْ كَانَ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْبَشَرِ. وَالْمَقْصُودُ مِنْ هَذِهِ الْمُقَابَلَةِ الرَّدُّ عَلَى مُنْكِرِي الْبَعْثِ، وَتَقْدِيمُ الْجارِّ تَعْرِيضٌ بِالمُشْركينَ وتَهْدِيدٌ لَّهُمْ بِأَنَّهُمْ مَحْشُورُونَ إِلَى اللهِ ـ تَعَالى، وَهُوَ مُجازيهِمْ بأعْمالِهِم.
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي} الواوُ: حرفٌ للعَطْفِ، و "هوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ في مَحلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "الذي" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ، وَهذهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ منَ الآيةِ الَّتي قَبْلَها: {وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ} عَلَى كَوْنِها جملَةً مُسْتَأْنَفةً لَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ} ذَرَأَ: فعلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ، وفاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ "هوَ" يَعُودُ عَلَى الهَِ ـ تَعَالى. وَكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذكَّرِ. و "في" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ذَرَأَ"، و "الأرضِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوصولِ "الذي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "إِلَيْهِ" إِلَى: خرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُحْشَرُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "تُحْشَرُونَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ، مبنيٌّ للمَجْهُولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الَّناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنيابةِ عَنْ فاعِلِهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ معطوفَةٌ على جُمْلَةِ الصِّلةِ السَّابقةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.