ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} أَيْ: ثمَّ حوَّلَ اللهُ ـ تَعَالى، "النُطْفَةَ" إِلَى عَلَقَةٍ مِنْ الدَمٍ. فقولُهُ "ثُمَّ" هُوَ هُنَا لِلتَّرْتِيبِ الرُّتْبِيِّ، لأَنَّ خَلْقَ النُّطْفَةِ عَلَقَةً أَعْجَبُ مِنْ خَلْقِ النُّطْفَةِ نفسِهَا. فقَدْ صَيَّرَ ـ سُبْحانَهُ، الْمَاءَ السَّائِلَ دَمًا جَامِدًا، فَتَغَيَّرَتْ كَثَافَتُهُ، وَتَبَدَّلَ لَوْنُهُ، وذلكَ بِعَوَامِلَ أَوْدَعَهَا اللهُ ـ تَعَالَى فِي الرَّحِمِ، وَهُوَ ـ جلَّ، الفاعلُ بِهَا وكلِّ خلْقِهِ.
وَهَذَا مِنْ الإِعْجَازِ الْعِلْمِيِّ في هَذَا الكِتَابِ العَزيزِ (الْقُرْآنِ الكريمِ)، لأَنَّ تَسْمِيَةَ هَذَا الْكَائِنِ في هَذِهِ المَرْحَلَةِ مِنْ مَرَاحِلِ خَلْقِهِ وَتَطْويرِهِ بِهَذا الاسْمِ "عَلَقَة" وَضْعٌ بَدِيعٌ لِهَذَا الِاسْمِ، فَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ التَّشْرِيحِ، ثمَّ بالتَّصْويرِ بِـ (الإيكو) حديثًا، أَنَّ هَذَا الْجُزْءَ الَّذِي اسْتَحَالَتْ النُّطْفةُ إِلَيْهِ هُوَ أَشْبَهُ مَا يَكونُ بِالْعَلَقَةِ، ذاكَ المَخْلوق المَعْرُوفِ الَّذي يَعِيشُ في المِيَاهِ الرَّاكِدَةِ كالآبارِ واليَنَابِيعِ.
قولُهُ: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} أَيْ: ثُمَّ صَيَّرَ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، العَلَقَةَ مُضْغَةً، أَيْ قِطْعَةً مِنْ لَحْمٍ بِقَدَرِ مَا يَمْضَغُهُ الإنسانُ في فَمِهِ عادَةً، ثُمَّ أَعْطَى هَذِهِ المُضْغَةَ شَكْلَ المَخْلُوقِ، فَأَخَذَ الرَّأْسُ، وَاليَدَيْنِ، والرِّجْلَيْنِ في الظُّهورِ، وَبَدَأَتْ تظهَرُ مَلاَمِحُ وَجْهِهِ، وجِنْسُهُ.
قَوْلُهُ: {فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا} أَيْ: ثُمَّ خلَقَ لهَذِهِ المُضْغةِ عِظَامَها. فَقَدْ بَيَّنَ هُنَا في هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ أَنَّهُ يَخْلُقُ لِلْمُضْغَةِ عِظَامًا، وَبَيَّنَ فِي الآيةِ: 28، مِنْ سُورَةِ (الإنْسان) أَنَّهُ يُرَكِّبُ بَعْضَ تِلْكَ الْعِظَامِ مَعَ بَعْضٍ، تَرْكِيبًا قَوِيًّا، وَيَشُدُّ بَعْضَهَا مَعَ بَعْضٍ، عَلَى أَكْمَلِ الْوُجُوهِ وَأَبْدَعِهَا، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ: {نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ}، وَالْأَسْرُ: شَدُّ الْعِظَامِ بَعْضِهَا مَعَ بَعْضٍ، وَمِنْهُ قَوْلُ حُمَيْدِ بْنِ ثَوْرٍ:
وَمَا دَخَلَتْ فِي الْخَدْبِ حَتَّى تَنَقَّضَتْ ....... تَآسِيرُ أَعْلَى قَدِّهِ وَتَحَطَّمَا
فـالتَآسِيرُ: للسَّرْجِ وَمَرْكَبُ الْمَرْأَةِ، والسُّيُورُ: ما يُشَدُّ بِهَا، قالَ الْجَوْهَرِيُّ في صِحَاحِهِ: أَسَرَ قَتَبَهُ يَأْسِرُهُ أَسْرًا شَدَّهُ بِالْأَسَارِ، وَهُوَ الْقَدُّ، وَمِنْهُ سُمِّيَ الْأَسِيرُ أَسيرًا، لأَنَّهُم كَانُوا يَشُدُّونَهُ بِالْقَدِّ، وَالْأَسْرَ هُوَ الشَّدُّ الْقَوِيُّ بِالْأَسَارِ الَّذِي هُوَ الْقَدُّ، وَهُوَ السَّيْرُ الْمَقْطُوعُ مِنْ جِلْدِ الْبَعِيرِ وَنَحْوِهِ، الَّذِي لَمْ يُدْبَغْ، وَاللهُ ـ جَلَّ جَلَالُهُ، يَشُدُّ بَعْضَ الْعِظَامِ بِبَعْضٍ، شَدًّا مُحْكَمًا مُتَمَاسِكًا كَمَا يَشُدُّ الشَّيْءَ بِالْقَدِّ، وَالشَّدُّ بِهِ قَوِيٌّ جِدًّا.
قوْلُهُ: {فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا} طورٌ آخَرُ مِنْ أَطْوارِ خلقِ الإنسانِ وتشكيلِهِ وإعطائهِ لونَهُ وَسِمَاتِهِ. وَقَدْ أَشَارَ ـ عزَّ وجَلَّ، إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ بِنَقْلِهِ الْإِنْسَانَ فِي خَلْقِهِ، فَقَالَ في الآيةَ: 6، مِنْ سورةِ آلِ عُمرانَ: {هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ}، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الحَجِّ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} الآيةَ: 5، وبيَّنَ في الآيتينِ: (13 و 14) مِنْ سورةِ نوح ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنَّهُ ـ سُبحانَهُ قَدْ نقلَهَ مِنْ طَوْرٍ إِلَى طَوْرٍ، فقَالَ: {مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ للهِ وَقَارًا * وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا}. وَقَال مِنْ سُورَةِ الزُّمَر: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ} الآيةَ: 6، أَيْ: فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عَنْ هَذِهِ الْعَجَائِبِ وَالْغَرَائِبِ، الَّتِي فَعَلَهَا فِيكُمْ رَبُّكُمْ وَمَعْبُودُكُمْ؟. وَبَيَّنَ أَنَّ انْصِرَافَ خَلْقِهِ عَنِ التَّفَكُّرِ فِي هَذَا وَالِاعْتِبَارِ بِهِ مِمَّا يَسْتَوْجِبُ التَّسَاؤُلَ وَالْعَجَبَ، وَأَنَّ مِنْ غَرَائِبِ صُنْعِهِ وَعَجَائِبِ قُدْرَتِهِ أَنْ نَقَلَهُ الْإِنْسَانَ مِنَ النُّطْفَةِ، إِلَى الْعَلَقَةِ، وَمِنَ الْعَلَقَةِ إِلَى الْمُضْغَةِ إِلَخْ .. .
ثُمَّ ذَكَرَ الْحِكْمَةَ مِنْ ذلكَ فَقَالَ في الآيَةِ: 5، مِنْ سُورَةِ الحَجِ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ}، أَيْ: لِنُظْهِرَ لَكُمْ بِذَلِكَ عَظَمَتَنَا، وَكَمَالَ قُدْرَتِنَا، وَانْفِرَادَنَا بِالْإِلَهِيَّةِ وَاسْتِحْقَاقِنا للْعِبَادَةِ، وَقَالَ فِي الآيةِ: 67، مِنْ سُورَةِ الْمُؤْمِنِ: {هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا}. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ القيامَةِ: {أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى * فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى} الآياتِ: (36 ـ 40). وَغيرِها مِنَ الْآيَاتِ.
قولُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} أَيْ ثُمَّ جَعَلَ هَذَا المخلوقَ الجَنْينَ خَلْقًا آخَرَ بَعْدَ وِلاَدَتِهِ، فجعَلَ لَهُ سَمْعًا وَبَصَرًا ولِسَانًا، وَلَهُ صَوْتٌ وَحَرَكَةٌ وحِسٌّ وَإِدْرَاكٌ، وَعَقْلٍ وَتَفْكِيرٍ، فَأَصْبَحَ مَغايِرًا تَمَامًا لِمَا كَانَ عَلَيْهِ فِي بَدْءِ تَكَوِينِهِ، ثُمَّ يَتَطَّورُ فِي نُمُوِّهِ، وَيَتَغَيَّرُ شَكْلُهُ وحالُهُ، وَتَتَغيَّرُ أَوصافُهُ كُلَّمَا تَقَّدَمَ الزَّمَنُ وَطَالَ بِهِ العُمُرُ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تفسيرِ هَذِهِ الْجملَةِ: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ" أَيْ: خَلْقًا مُبَايِنًا لِلْخَلْقِ الْأَوَّلِ مُبَايَنَةً مَا أَبْعَدَهَا، حَيْثُ جَعَلَهُ حَيَوَانًا وَكَانَ جَمَادًا، وَنَاطِقًا وَكَانَ أَبْكَمَ، وَسَمِيعًا وَكَانَ أَصَمَّ، وَبَصِيرًا وَكَانَ أَكْمَهَ، وَأَوْدَعَ بَاطِنَهُ وَظَاهِرَهُ، بَلْ كُلَّ عُضْوٍ مِنْ أَعْضَائِهِ، وَجُزْءٍ مِنْ أَجْزَائِهِ، عَجَائِبَ فِطْرَةٍ، وَغَرَائِبَ حِكْمَةٍ، لَا تُدْرَكُ بِوَصْفِ الْوَاصِفِ، وَلَا بِشَرْحِ الشَّارِحِ.
وَقَدِ اخْتُلِفَ العُلَماءُ فِي "الْخَلْقِ الْآخَرِ" الْمَذْكُورِ هُنَا، فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَالشَّعْبِيُّ، وَأَبُو الْعَالِيَةِ، وَالضَّحَّاكُ، وَابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ: (هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ فِيهِ بَعْدَ أَنْ كَانَ جَمَادًا).
فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قالَ في قولِهِ ـ تَعَالَى: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ"، قَالَ: نَفَخَ فِيهِ الرُّوحَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سيِّدِنا عَلِيٍّ أَميرِ المُؤْمنينَ ـ كرَّمَ اللهُ تَعَالَى وجْهَهُ، ورَضِيَ عَنْهُ وأَرْضاهُ، أَنَّهُ قَالَ: إِذَا نَمَتِ النُّطْفَةُ أَرْبَعَةَ أَشْهَرٍ بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَنَفَخَ فِيهَا الرُّوحَ فِي الظُّلُمَاتِ الثَّلَاثِ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ـ تَبَارَكَ تَعَالَى: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ"، يَعْنِي نَفَخَ الرُّوحَ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ الرِّياحيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ"، قَالَ: جَعَلَ فِيهِ الرُّوحَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، وَعِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُما قالَا في قولِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ"، مِثْلَ ذلِكَ.
وَقَالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: خُرُوجُ الْأَسْنَانِ، وَنَبَاتُ الشَّعْرِ.
فقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْهُ: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ" قَالَ: الْأَسْنَانُ وَالشَّعْرُ. قَيلَ لَهُ أَلَيْسَ قَدْ يُولَدُ وَعَلَى رَأْسِهِ الشَّعْرُ؟. قَالَ: فَأَيْنَ الْعَانَةُ والإِبِطُ.
وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَبَاتُ شَعْرِهِ. فَقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ وَابْنُ جَريرٍ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ": يَقُولُ بَعْضُهُم هُوَ نَبَاتُ الشّعْرِ، وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: هُوَ نَفْخُ الرُّوحِ.
وَقَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَمَالُ شَبَابِهِ. فقد أَخْرَجَ عنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَنَّهُ قالَ: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ": حِينَ اسْتَوَى بِهِ الشَّبَابُ.
وَرُوِيَ في الصَّحِيحِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قالَ: هُوَ عَامٌّ فِي هَذَا وَفِي غَيْرِهِ مِنَ النُّطْقِ وَالْإِدْرَاكِ، وَتَحْصِيلِ الْمَعْقُولَاتِ إِلَى أَنْ يَمُوت. أَيِ: الْمُقَدِّرِينَ، وَالْعَرَبُ تُطْلِقُ الْخَلْقَ وَتُرِيدُ التَّقْدِيرَ، وَمِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى:
وَلَأَنْتَ تَفْرِي مَا خَلَقْتَ وَبَعْــــــ ............ ــــضُ الْقَوْمِ يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي
فَقَوْلُهُ: "يَخْلُقُ ثُمَّ لَا يَفْرِي"، أَيْ: يُقَدِّرُ الْأَمْرَ ثُمَّ لَا يُنَفِّذُهُ لِعَجْزِهِ عَنْهُ، كَمَا هُوَ مَعْلُومٌ.
وَرُويَ عَنِ ابْنِ عباسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: خُرُوجُهُ إِلَى الدُّنْيَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ"، يَقُولُ: خَرَجَ مِنْ بَطْنِ أُمِّهِ بَعْدَ مَا خُلِقَ فَكَانَ مِنْ بَدْءِ خَلْقِهِ الآخَرِ أَنِ اسْتُهِلَّ ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ دَلَّهُ عَلَى ثَدْيِ أُمِّهِ، ثُمَّ كَانَ مِنْ خَلْقِهِ أَنْ عُلِّمَ كَيْفَ يَبْسُطُ رِجْلَيْهِ، إِلَى أَنْ قَعَدَ، إِلَى أَنْ حَبَا، إِلَى أَنْ قَامَ عَلَى رِجْلَيْهِ، إِلَى أَنْ مَشَى، إِلَى أَنْ فُطِمَ، تَعَلَّمَ كَيْفَ يَشْرَبُ وَيَأْكُلُ مِنَ الطَّعَامِ إِلَى أَنْ بَلَغَ الْحُلُمَ، إِلَى أَنْ بَلَغَ، وأَنْ يَتَقَلَّبَ فِي الْبِلَادِ.
قولُهُ: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} أَيْ: تَنَزَّهَ اللهُ ما أَعْظَمَ هَذِهِ القُدْرَةَ، وَما أَجْمَلَ هَذَا الخَلْقَ. وإنَّما قالَ "أَحْسَنُ الخَالِقِينَ"، لِأَنَّ الخَلْقَ "صُنْعٌ" وإِنَّ خَلْقَهُ مَنْ يَصْنَعُ بإذْنِهِ، ويخلُقُ بأَمْرِهِ لحكمةٍ يريدُها، فقَدْ كانَ سيُّدُنا عيسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، يخْلُقُ بإِذْنِهِ ـ تَعَالَى، ويُحْيِ المَوتَى بإذْنِهِ، ويَشْفِي الأمراضَ المُسْتعْصِيَةَ، مُعجزَةً لَهُ، أَيَّدَهُ اللهُ بِهَا، كَمَا أْيَّدَ سائرَ الأَنْبِيَاءِ ـ عليْهِم الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، دَلِيلًا عَلى صِدْقِهِمْ فِيمَا يُبَلِّغُونَهُ لِلنَّاسِ مِنْ رِسَالَاتٍ أَرْسَلَهُمْ بِهَا رَبُهُمْ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" قَالَ: عِيسَى بْنُ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، يَخْلُقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ" قَالَ: يَصْنَعُونَ وَيَصْنَعُ اللهُ، وَاللهُ خَيْرُ الصَّانِعِينَ.
وبَعْدُ فإنَّ هَذِهِ الجُملةَ الكَرِيمَةَ هِيَ واحِدَةٌ مِنْ أَرْبِعٍ مَمَّا اتَّفَقَ فيهُ قولُ سيِّدِنا عُمَرَ بْنَ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، معَ قوْلِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، حَيَثُ، أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ صَالِحٍ أَبي الْخَلِيلِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنَهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ "ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ". فَقَالَ عُمَرُ بْنُ الخطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"، فَقَالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنَّهَا خُتِمَتْ بِالَّذِي تَكَلَّمْتَ يَا عُمَرُ)).
وَأَخْرَجَ الطَّيَالِسِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: قَالَ: قَالَ عُمَرُ بْنُ الخطابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:: وَافَقتُ رَبِّي فِي أَرْبَعٍ:
ـ قُلْتُ: يَا رَسُول اللهِ لَوْ صَلَّيْتَ خَلْفَ الْمَقَامِ. فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالى: {وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلَّى} الْآيَةَ: 125، مِنْ سورةِ الْبَقَرَة.
ـ وَقُلْتَ: يَا رَسُولَ اللهِ لَوِ اتَّخَذْتَ عَلَى نِسَائِكَ حِجَابًا فَإِنَّهُ يَدْخُلُ عَلَيْكَ الْبَرُّ وَالفَاجِرُ. فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: {وَإِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِن وَّرَاءِ حِجَابٍ} الْآيَةَ: 53، مِنْ سورةِ الأَحْزَابِ.
ـ وَقُلْتُ: لِأزْوَاجِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَتَنْتَهُنَّ أَوْ لَيُبَدِّلَنَّهُ اللهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ. فَأُنْزِلَتْ {عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا} الْآيَةَ: 5، مِنْ سُورَةِ التَّحْرِيم.
ـ وَنَزَلَتْ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} فَقُلْتُ أَنَا: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فَنَزَلَتْ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".
وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَمَّا نَزَلَتْ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ}، قَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فَنَزَلَتْ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ فِي (الْأَوْسَط)، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: أَمْلَى عَلَيَّ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذِه الْآيَةَ: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ} إِلَى قَوْلِهِ: {خَلْقًا آخَرَ}. فَقَالَ مُعَاذُ بْنُ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ. فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ لَهُ مُعَاذٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: مَا أَضْحَكَكَ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: إِنَّهَا خُتِمَتْ "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ في التَّفْسيرِ، وَأَبُو الشَّيْخِ فِي العَظَمَةِ، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: خَلَقَ اللهُ آدَمَ كَمَا شَاءَ، وَمِمَّا شَاءَ، فَكَانَ كَذَلِكَ: "فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ"، خُلِقَ مِنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ فَمِنْهُ شَعْرُهُ وَلَحْمُهُ وَدَمُهُ وَعِظَامُهُ وَجَسَدُهُ، فَذَلِكَ بَدْءُ الْخَلْقِ الَّذِي خَلَقَ اللهُ مِنْهُ ابْنَ آدَمَ. ثُمَّ جُعِلَتْ فِيهِ النَّفْسُ، فِيهَا يَقُومُ وَيَقْعُدُ وَيَسْمَعُ وَيُبْصِرُ، وَيَعْلَمُ مَا تَعْلَمُ الدَّوَابُّ وَيَتَّقِي مَا تَتَّقِي. ثُمَّ جُعِلَتْ فِيهِ الرُّوحُ، فَبِهِ عَرَفَ الْحَقَّ مِنَ الْبَاطِلِ، والرُّشْدَ مِنَ الغَيِّ، وَبِهِ حَذِرَ، وَتَقَدَّمَ وَاسْتَتَرَ، وَتَعَلَّمَ وَدَبَّرَ الْأُمُورَ كُلَّهَا. فَمِنَ التُّرَابِ يُبُوسَتُهُ، وَمِنَ المَاءِ رُطُوبَتُهُ، فَهَذَا بَدْءُ الْخَلْقِ الَّذِي خَلْقَ اللهُ مِنْهُ ابْنَ آدَمَ كَمَا أَحَبَّ أَنْ يَكونَ، ثُمَّ جُعِلَتْ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الْفِطَرِ الْأَرْبَعِ أَنْواعًا مِنَ الْخَلْقِ أَرْبَعَةً فِي جَسَدِ ابْنِ آدَمَ، فَهِيَ قِوَامُ جَسَدِهِ ومَلَاكُهُ بِإِذْنِ اللهِ. وَهِيَ: الْمِرَّةُ السَّوْدَاءُ، والْمِرَّةُ الصَّفْرَاءُ، وَالدَّمُ، وَالبَلْغَمُ. فَيُبُوسَتُهُ وَحَرَارَتُهُ مِنَ النَّفْسِ، وَمَسْكَنُهَا فِي الدَّمِ، وَبُرُودَتُهُ مِنْ قِبَلِ الرُّوحِ، وَمَسْكَنُهُ فِي البَلْغَمِ، فَإِذَا اعْتَدَلَتْ هَذِهِ الْفِطَرُ فِي الْجَسَدِ فَكَانَ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ رُبُعٌ، كَانَ جَسَدًا كَامِلًا، وَجِسْمًا صَحِيحًا، أَوْ إِنْ كَثُرُ وَاحِدٌ مِنْهَا عَلى صَاحِبِهِ، قَهَرَهَا وَعَلَاهَا وَأَدْخَلَ عَلَيْهَا السَّقَمَ مِنْ ناحِيَتِهِ. وَإِنْ قَلَّ عَنْهَا وَأَخَذَ عَنْهَا، غَلَبَتْ عَلَيْهِ وَقَهَرَتْهُ، وَمَالَتْ بِهِ وَضَعُفَتْ عَنْ قُوَّتِهَا، وَعَجَزَتْ عَنْ طاقَتِهَا، وَأُدْخِلَ عَلَيْهَا السَّقَمُ مِنْ نَاحِيَتِهِ، فَالطَّبيبُ الْعَالِمُ بِالدَّاءِ، يَعْلَمُ مِنَ الْجَسَدِ حَيْثُ أُتِي سَقَمُهُ أَمِنْ نُقْصَانٍ أَمْ مِنْ زِيَادَةٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: قَالَ عُزَيْرٌ: يَا رَبِّ أَمَرْتَ الْمَاءَ فَجَمَدَ فِي وَسَطِ الْهَوَاءِ، فَجَعَلْتَ مِنْهُ سَبْعًا وَسَمَّيْتَهَا السَّمَوَاتِ، ثُمَّ أَمَرْتَ الْمَاءَ يَنْفَتِقُ مِنَ التُّرَابِ، وَأَمَرْتَ التُّرَابَ أَنْ يَتَمَيَّزَ مِنَ الْمَاءِ، فَكَانَ ذَلِكَ، فَسَمَّيْتَ جَمِيعَ ذَلِكَ الأَرَضِينَ، وَجَمِيعَ الْمَاءِ الْبِحَارَ". ثُمَّ خَلَقْتَ مِنَ المَاءِ أَعْمَى عَيْنٍ بَصَّرْتَهُ، وَمِنْهَا أَصَمَّ آذَانٍ أَسْمَعْتَهُ. وَمِنْهَا مَيَّتَ أَنْفُسٍ أَحْيَيْتَهُ، خَلَقْتَ ذَلِك بِكَلِمَة وَاحِدَةٍ، مِنْهَا مَا عَيْشُهُ المَاءً، وَمِنْهَا مَا لَا صَبْرَ لَهُ عَلَى المَاءِ، خَلْقًا مُخْتَلِفًا فِي الْأَجْسَامِ والأَلْوَانِ، جَنَّسْتَهُ أَجْنَاسًا، وَزَوَّجْتَهُ أَزْوَاجًا، وَخَلَقْتَ أَصْنَافًا وَأَلْهَمْتَهُ الَّذِي خَلَقْتَهُ، ثُمَّ خَلَقْتَ مِنَ التُّرَابِ وَالْمَاءِ دَوَابَّ الأَرْضَ وَمَا شِيَتَهَا وَسِبَاعَهَا، {فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُم مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ} الْآيَةَ: 45، مِنْ سورةِ الرُّوم. وَمِنْهُمُ الْعَظْمُ الصَّغِيرُ، ثُمَّ وَعَظْتَهُ بِكِتَابِكَ وَحِكْمَتِكَ، ثُمَّ قَضَيْتَ عَلَيْهِ الْمَوْتَ لَا مَحَالَةَ. ثُمَّ أَنْتَ تُعِيدُهُ كَمَا بَدَأْتَهُ.
وَقَالَ عُزَيْرٌ أَيضًا: اللَّهُمَّ بِكَلِمَتِكَ خَلَقْتَ جَمِيعَ خَلْقِكَ، فَأَتَى عَلَى مَشِيئَتِكَ، ثُمَّ زَرَعْتَ فِي أَرْضِكَ كُلَّ نَبَاتٍ فِيهَا بِكَلِمَة وَاحِدَةٍ وَتُرابٍ وَاحِدٍ، وَتُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ، فجَاءَ عَلى مَشِيئَتِكَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَلَوْنُهُ وَرِيحُهُ وَطَعْمُهُ، وَمِنْهُ الحُلْوُ، وَمِنْهُ الحَامِضُ وَالمُرُّ، وَالطَّيِّبُ رِيحُهُ وَالْمُنْتِنُ، والقَبيحُ وَالْحَسَنُ.
وَقَالَ عُزَيْرٌ: يَا رَبُّ إِنَّمَا نَحْنُ خَلْقُكَ وَعَمَلُ يَدَيْكَ، خَلَقْتَ أَجْسَادَنَا فِي أَرْحَامِ أُمَّهاتِنَا، وَصَوَّرْتَنَا كَيفَ تَشَاءُ بِقُدْرَتِكَ. جَعَلْتَ لَنَا أَرْكَانًا، وَجَعَلْتَ فِيهَا عِظَامًا، وَفَتَقْتَ لَنَا أَسْمَاعًا وَأَبْصَارًا، ثُمَّ جَعَلْتَ لَنَا فِي تِلْكَ الظُلْمَةِ نُورًا، وَفِي ذَلِكَ الضِّيقِ سَعَةً، وَفِي ذَلِكَ الْفَمِ رُوحًا، ثُمَّ هَيَّأْتَ لَنَا مِنْ فَضْلِكَ رِزْقًا مُتَفَاوِتًا عَلَى مَشِيئَتِكَ. لَمْ تَأْنِ فِي ذَلِكَ مُؤُنَةً، وَلَمْ تَعْيَ مِنْهُ نَصَبًا، كَانَ عَرْشُكَ عَلَى المَاءِ، والظُّلْمَةُ عَلَى الْهَوَاءِ، وَالْمَلَائِكَةُ يَحْمِلُونَ عَرْشَكَ وَيُسَبِّحونَ بِحَمْدِكَ، وَالْخَلْقُ مُطِيعٌ لَكَ، خَاشِعٌ مِنْ خَوْفِكَ، لَا يُرَى فِيهِ نُورٌ إِلَّا نُورُكَ، وَلَا يَسْمَعُ فِيهِ صَوتٌ إِلَّا سَمْعُكَ، ثُمَّ فَتَحْتَ خِزَانَةَ النُّورِ، وَطَرِيقَ الظُّلْمَةِ، فَكَانَا لَيْلًا وَنَهَارًا يَخْتَلِفانِ بِأَمْرِكَ.
قولُهُ تَعَالَى: {ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. وَ "خَلَقْنَا" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. وَ "النُّطْفَةَ" مفعولُهُ الأَوَّلُ منصوبٌ بِهِ. و "عَلَقَةً" مَفْعُولُهُ الثَّاني مَنْصوبٌ بِهِ أَيْضًا، فَقَدْ ضُمِّنَ "خَلَقَ" مَعْنَى "جَعَلَ" التَّصْيِيرِيَّةِ ولذلكَ تَعَدَّتْ لِاثْنَيْنِ كَمَا تَضَمَّنَ "جَعَلَ" مَعْنَى خَلَق فتَعَدَّى لِوَاحِدٍ، نَحْوَ قولِهِ ـ تَعَالى، في الآيةِ: 1، مِنْ سورةِ الأنعام: {وَجَعَلَ الظُلُمَاتِ وَالنُّورَ}. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطٌوفَةٌ عَلى جُمْلَةَ {جَعَلْنَاهُ} على كونِها مَعْطُوفَةً عَلى جُمْلَةِ {خَلَقْنَا}، عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا للْقَسَمِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً} الفاءُ: للعَطْفِ والتَّعْقيبِ. وجملةُ "خَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً" مثْلُ جملةِ "خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً" معطوفةٌ عَلَيْها وَلَهَا مِثلُ إعرابها. وَكذلكَ جملةُ قولِهَ: "فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا" وَجُمْلَةُ قَولِهِ: "فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا" كُلَّها معطوفاتٌ لَهَا نفسُ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ} ثُمَّ: حَرْفٌ للعَطْفِ والتَّراخي. و "أَنْشَأْنَاهُ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. و "خَلْقًا" منصوبٌ على الحالِ مِنْ ضميرِ المَفْعولِ بِهِ في "أَنْشَأْنَاهُ". و "آخَرَ" صِفَةُ "خَلْقًا" منصوبةٌ مِثْلُهُ. والجملةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جملةِ "فَكَسَوْنَا" ولها مِثْلُ إِعْرَابِها.
قوْلُهُ: {فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ} الفاءُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. و "تَبَارَكَ" فعلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "أَحْسَنُ" بَدَلٌ مِنِ اسْمِ الجَلَالَةِ مرْفوعٌ مِثْلُهُ، وَلَيْسَ بِصِفَةٍ لَهَا؛ لِأَنَّهَا نَكِرَةٌ، وَتَمْيِيزٌ اسْمِ التفضيلِ "أَحْسَنٌ" مَحْذوفٌ، لِلْعِلمِ بِهِ، والتَّقديرُ: خَلْقًا. وَهُوَ مُضافٌ، و "الْخَالِقِينَ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَعَلَامَةُ جرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ. والجملةُ مُسْتَأْنَفةٌ للاعتراضِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
وَقَدِ اخْتَلَفَ النَّحْوِيِّينَ فِي صِيغَةِ التَّفْضِيلِ هَذِهِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى مَعْرِفَةٍ، هَلْ إِضَافَتُهَا إِضَافَةٌ مَحْضَةٌ، أَوْ لَفْظِيَّةٌ غَيْرُ مَحْضَةٍ، كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحَلِّهِ؟ فَمَنْ قَالَ: هِيَ مَحْضَةٌ أَعْرَبَ قَوْلَهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ نَعْتًا لِلَفْظِ الْجَلَالَةِ، وَمَنْ قَالَ: هِيَ غَيْرُ مَحْضَةٍ أَعْرَبَهُ بَدَلًا، وَقِيلَ: خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: هُوَ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ.
قَرَأَ العامَّةُ" {عِظامًا} و {العِظَامَ} بالجَمْعِ فيهِما. وقرَأَ ابْنُ عَامِرٍ، وأَبُو بَكِرٍ عَنْ عَاصِمٍ: "عَظْمًا" وَ "العَظْمَ" بِالإِفْرادِ فِيهِمَا. وقرأَ أبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُ، وَالأَعْرَجُ، والأَعْمَشُ الأَوَّلَ بالإفْرَادِ، والثاني بالجَمْعِ. وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ، وَمُجَاهِدُ، وَإِبْرَاهِيمُ ابْنُ أَبي بَكْرٍ بِالعَكْسَ فَجَمَعُوا الأَوَّلِ وَأَفْرَدوا الثاني.
فالجَمْعُ عَلَى الأَصْلِ لَأَنَّهُ مُطابِقٌ لِما يُرادُ بِهِ، وَالإِفْرادُ للجِنْسِ، فيكونُ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْها السَّلامُ: {قالَ رَبِّي إِنِّي وَهَنَ العَظْمُ مِنِّي} الآيَةَ: 4.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَضَعَ الواحِدَ مَوْضِعَ الجَمْعِ لِزَوَالِ اللَّبْسِ، لِأَنَّ الإِنْسَانَ ذُو عِظامٍ كَثِيرَةٍ.
وقالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأندلُسِيُّ: هَذَا عِنْدَ سِيبَوَيْهِ وَأَصْحَابِهِ لَا يَجُوزُ إِلَّا فِي ضَرُورَةٍ وَقد أَنْشَدُوا عَلَى ذَلِكَ:
كُلوا في بَعْضِ بَطْنِكُم تَعِفُّوا ................. فَإِنَّ زَمَانَكُمْ زَمَنٌ خَمِيصُ
وَإِنْ كَانَ مَعْلومًا أَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ لَهُ بَطْنٌ. فَهُوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {عَلَى سَمْعِهِمْ} الآيَةَ: 7. قَالَ شِهَابُ الدَّينِ: وَمِثْلُهُ:
لا تُنْكِرُوا القَتْلَ وقَدْ سَبَيْنَا .............. فِي حَلْقِكُمْ عَظْمٌ وَقَدْ شَجَيْنَا
البيتُ للشَّاعِرِ المُسَيَّبِ بْنِ زَيْدِ مَنَاةَ الغَنَوِيِّ، وَيُريدُ "فِي حُلوقِكُمْ" ومِثْلُهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ علقمةَ بْنِ عَبْدَةَ:
بِهَا جِيَفُ الحسْرَى فأَمَّا عِظَامُهَا ........... فَبِيضٌ وأَمَّا جِلْدُهَا فَصَلِيبُ
وأَمَّا الثاني فَعَلَى أَنَّهُ نَعْتٌ لاسْمِ الجَلَالَةِ، وَهُوَ أَوْلَى مِمَّا قَبْلَهُ؛ لِأَنَّ البَدَلَ بِالْمُشْتَقِ يَقِلُّ.
الثالث: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ أَيْ: هُوَ أَحْسَنُ. وَالأَصْلُ عَدَمُ الإِضْمَارِ. وَقَدْ مَنَعَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ أَنْ يَكونَ وَصْفًا، لِكوْنِهِ نَكِرَةً، وَإِنْ أُضِيفَ لِمَعْرِفَةٍ؛ لِأَنَّ المُضافَ إِلَيْهِ عِوَضٌ مِنْ "مِنْ" وهَكَذا جَمِيعُ صيغِ "أَفْعَل منك".
قالَ السَّمينُ الحلبيُّ: وَهَذَا مِنْهُ بِنَاءً عَلَى أَحَدِ القَوْلَيْنِ فِي "أَفْعَل" التَّفْضِيلِ إِذَا أُضيفَ: هَلْ إِضَافَتُهُ مَحْضَةٌ أَمْ لَا؟ وَالصَّحِيحُ الأَوَّلُ.
وَالمُمَيِّزُ لـ "أَفْعَل" مَحْذوفٌ لِدَلَالَةِ المُضَافِ إِلَيْهِ عَلَيْهِ، والتقديرُ: أَحْسَنُ الخَالِقِينَ خَلْقًا أَيْ: أحسَنُ المُقَدِّرينَ تَقْديرًا، كما في قولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الحَجِّ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ} الآيةَ: 39، أَيْ: أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ فِي القِتال، فقد حُذِفَ المَأْذُونُ فِيهِ لِدَلَالَةِ الصِّلَةِ عَلَيْهِ.