الموسوعة القرآنية
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 31
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31)
قولُهُ ـ تَعالى شأْنُهُ: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} أَيْ: ثُمَّ إِنَّ الله ـ سُبْحانه وتعالى، بَعْدَ أَنْ أَهْلَكَ قَوْمَ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، بِالطُّوفانِ العظيمِ، خَلَقَ أَوِ ابْتَدَأَ "قَرْنًا" أَيْ: جَمَاعَةً "ءاخَرِينَ"، أَوْ أُمَّةً أُخْرى، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي مَالكٍ زِيَادُ بْنُ عِلاَقَةَ بْنِ مَالِكٍ الثَّعْلَبِيُّ، فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ: "قَرْنًا ءاخَرينَ" قَالَ: أُمَّةً.
فَقِيلَ: هُمْ عَادٌ قَوْمُ هُودٍ، وَقِيلَ: هُمْ ثَمُودُ قوْمُ صَالِحٍ ـ عَلَى نَبِيِّنا وَعَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
فَمَنِ قالَ بِأَنَّهُمْ عادٌ دَعَمَ رأْيَهُ بقولِهِ ـ تَعَالَى، منْ سُورَةِ الأَعْرَافِ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِمْ، هُوْدًا ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {واذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ} الآيةَ: 69. وَبِوُرودِ قِصَّتِهم مَعَ نَبِيِّهِمْ عَلى أَثَرِ قِصَّةِ نُوحٍ فِي كُلٍّ مِنْ سُوَرِ: "الأَعْرافِ"، "هُودٍ"، "الشَّعَرَاءِ". وَقَدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ عَبِّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، وَهوَ ما عَلَيْهِ أَكْثَرُ المُفَسِّرينَ.
وَمَنْ قالَ بِأَنَّهم ثَمُودُ قَوْمُ صَالِحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، كَالطَّبَريِّ وَغَيْرِهِ، فَقَدْ دَعَّمُوا رأْيِهُم هَذا بِأَنَّهُ المُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالىُ، فِي آخِرِ قِصَّتِهم: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} الآيةَ: (41)، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، فَإِنَّ ثَمُودَ هُمُ الَّذينَ أُهْلِكُوا بِالصَّاعِقَةِ. وَقَوْلُهُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي الآيَةِ: 40، منْهَا: {قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ} يُشيرُ إلى ذَلِكَ، لأَنَّهُ قَالَ فِي الآيَةِ: 83، مِنْ سُورَةِ الْحِجْرِ: {فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ}. إِذًا فَقَدْ كَانَ هَلَاكُهُمْ فِي الصَّبَاحِ، وفي هَذا فالآيتانِ الكَريمتانِ مُتَعَاضِدَتانِ.
وَلَعَلَّ تَخْصِيصَهُمْ بِالذِّكْرِ هُنَا دُونَ (عَادٍ) ـ خِلَافًا لِمَا تَكَرَّرَ فِي غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ، لِأَنَّ الْعِبْرَةَ بِحَالِهِمْ أَظْهَرُ لِبَقَاءِ آثَارِ دِيَارِهِمْ بِالْحِجْرِ ـ يَرَاهَا النَّاسُ في غُدُوِّهِم والرَّواحِ، مَاثِلَةً أَمَامَهُمْ، لِيَعْتَبِرَ مَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ وَلُبٌ، كَمَا قَالَ ـ جَلَّ مِنْ قائلٍ: {وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ * وَبِاللَّيْلِ أَفَلا تَعْقِلُونَ} الآيتانِ: (137 و 138). مِنْ سُورةِ الصافاتِ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ تَعَالى: {ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. و "أَنْشَأْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَميرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانهُ، وَ "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ، ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ، فَاعِلُهُ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوف حَالٍ مِنْ "قَرْنًا"؛ لِأَنَّهُ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، و "بَعْدِهِمْ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ: للجَمعِ المُذَكَّرِ. و "قَرْنًا" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "آخَرِينَ" صِفَةٌ لِـ "قَرْنًا" منصوبةٌ مَثلُهُ، وعلامةُ نَصْبِهِ الياءُ لأنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّر السَّالمِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مَحْذوفٍ مَعْلومٍ مِنَ السِّيَاقِ، والتَّقْديرُ: فَأَغْرَقْنَا قَوْمَ نُوحٍ لِمَّا كَذَّبُوهُ، ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرينَ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمِينَ.