الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 56
نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
قَوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} مَعْنَى الْمُسَارَعَةِ في الأَمْرِ التَّعْجِيلُ فيَهِ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ يَجْرِي فِي حُظُوظِكَ. وَهِيَ مُسْتَعَارَةٌ هُنَا لِتَوَخِّي الْمَرْغُوبِ وَالْحِرْصِ عَلَى تَحْقِيقِ المَطْلوبِ. ومِنْهُ قولُ أُمِّ المُؤْمِنِينَ السِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهاـ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ) أَيْ: يُعْطِيكَ مَا تُحِبُّهُ لِأَنَّ الرَّاغِبَ فِي إِرْضَاءِ شَخْصٍ يَكُونُ مُتَسَارِعًا فِي إِعْطَائِهِ مَرْغُوبَهِ. فقدْ أَخْرَجَ أَئمَةُ الحديثِ في الصَّحِيحِ مِنْ حديثِ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهما، عَنْ خَالَتِهِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْها. أَنَّها قَالَتْ: (كُنْتُ أَغَارُ عَلَى الَّلاتِي وَهَبْنَ أَنْفُسَهُنَّ لِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَأَقُولُ: أَتَهَبُ الْمَرْاةُ نَفْسَهَا؟ فَلَمَّا انْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {تُرْجِئُ مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكَ} الآيةَ: 51، مِنْ سُورةِ: الأَحْزَابِ، قُلْتُ: مَا أَرَى رَبَّكَ إِلَّا يُسَارِعُ فِي هَوَاكَ). وَفِي رِوايةٍ: (أَمَا تَسْتَحْيِي امْرَاةٌ تَهَبُ نَفْسَهَا لِرَجُلٍ؟ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ .. ). والآيَةُ نزلتْ في أمِّ المُؤمنينَ السَّيدةِ صَفِيَّةَ بِنْتِ الحارثِ ـ رَضِيَ اللهُ عنها. أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ أَحْمَدُ: (6/134 و 158 و 261). والبُخَارِي: (6/147 و 7/15). وَمُسْلِم: (4/174). وَابْنُ مَاجَةَ: (2000). وَالنَّسَائي في سُنَنِهِ: (6/54) والحاكِمُ وَغَيْرُهُم.
وَمُتَعَلِّقُ "نُسارِعُ" هُنَا مَحْذُوفٌ والتَقْدِيرُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، وذلكَ بِمَا نَمُدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ. وَقد حُذِفَ لِدَلَالَةِ {نُمِدُّهُمْ} بِهِ عَلَيْهِ.
والضَّميرُ فِي "لَهُم" عائدٌ لِمُشْرِكِي قُرَيْشٍ فَمَا يَزَالُ الحَديثُ عَنْهُم، فقَد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ} مِنَ الآيةِ السَّابقةِ، أَنَّهُ قَالَ: قُرَيْش. فإنَّ الآيَةُ السَّابِقَةُ تَحَدَّثَتِ عَنْ تَوَهُّمِ المُشْركينَ وَظَنِّهِمْ بأَنَّ ما يُسْبِغُهُ اللهُ ـ تَعَالَى، عَلَيْهِمْ مِنْ نِعِمٍ في المالِ والولَدِ أَنَّ هَذَا الإِمْدَادَ لحُظُوةٍ لَهُمْ عندَ اللهِ ـ تَعَالَى، لأَنَّهُ سَدَنَةُ بَيْتِهِ، كَمَا كانَ اليَهُودُ والنَّصارَى يظُنُّونَ بِأَنَّ اللهَ يُحِبُّهُمْ قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ المائدةِ: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَللهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ} الآيةَ: 18.
وقدْ شابَهَ مُشْركو قريشٍ كَفَرةَ اليهودِ والنَّصَارَى في وَهْمِهِمْ وَزَعْمِهِم، حِينَ ظَنَّوا أَنَّ ما يمدُّهُمْ بِهِ رَبُّهُم مِنْ نِعَمٍ مَقْصُودٌ بِهِ المُسَارَعَةُ لَهُمْ بِالخَيْرَاتِ والرَّخاءِ، وَإِيثَارُهُمْ عَلَى غَيْرِهِمْ بِالنِّعَمِ وَالعَطَاءِ، وَإِنَّ الأَمْرَ لَيْسَ كَمَا يَتَوَهَّمُونَ، فَالحَقِيقَةُ أَنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتعالى، يَبْتَليهِم بذلكَ وَيَفْتِنَهُمْ فيهِ، وَيَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حيثُ لَاَ يَشْعُرُونَ كما قالَ مِنْ سورةِ الأعرافِ: {وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} الآيتانِ: (182 و 183)، وقالَ مِنْ سورةِ القلمِ: {فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ * وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} الآيتانِ: (44 و 45). فهم غافلونَ عَمَّا يَنْتَظِرُهُمْ وَرَاءَ ذَلِكَ مِنْ سُوءِ المَصِيرِ، وَالشَّرِّ المُسْتَطِير. لِأَنَّ اللهَ يعطي الدُّنيا مَنْ أَحَبَّ ومَنْ لمْ يحبَّ، ولا يُعْطِي الآخرةَ إلَّا لِمَنْ أَحَبَّ، كَمَا قالَ رَسُولُنَا الأَعْظَمُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ، فيما أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((إِنَّ اللهَ قَسَمَ بَيْنَكُم أَخْلاَقَكُم كَمَا قَسَمَ بَيْنَكم أَرْزَاقَكُمْ، وإِنَّ الله يُعْطِي الدُّنْيَا مَنْ يُحِبُّ وَمَنْ لاَ يُحِبُّ، وَلاَ يُعْطِي الدِّينَ إِلاَ لِمَنْ أَحَبَّهُ، فَمَنْ أَعْطَاهُ اللهُ الدِّينَ فَقَدْ أَحَبَّهُ، والذي نَفْسُ مُحَمَّدِ بِيَدِهِ لاَ يُسْلِمُ عَبْدُ حَتَّى يُسْلِمَ قَلْبُهُ وَلِسَانُهُ، وَلاَ يُؤْمِنُ حَتَّى يَأْمَنَ جَارُهُ بَوَائِقَهُ)). مُسْنَدُ الإمامِ أحمدٍ: (6/189، برقم: 3672)، وَمِنْ طَريقَهِ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الحِلْيَةِ": (4/166)، وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا ابْنُ أبِي شَيْبَةَ في مُسْنَدِهِ: (1/354)، والحَاكِمُ فِي مُسْتَدْرَكِهِ:(1/34 ـ 33) و (2/447)، وَصَحَّحَهُ، وَوَافَقَهُ الذَّهَبِيُّ، والبَيْهَقِيُّ فِي "القَضَاءُ والقَدَرُ": (264 رقم: 376) وَصَحَّحَهُ، والبَغَوِيُّ فِي "شَرْحِ السُّنَّةِ": (8/10 رقم: 2030) كُلُّهم عنِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْفُوعًا.
ورَوَاهُ مَوْقُوفًا عَلَيْهِ: المَرْوَزِيُّ فِي زَوَائِدِ "الزُّهْدِ" لِابْنِ المُبَارَكِ: (339 رقم: 1134)، والبُخَارِيُّ في "الأَدَبِ المُفْرَدِ": (101 رقم: 27)، وأبو داودَ في "الزُّهْدِ": (164 رقم: 137)، والطَّبَرانِي فِي "الكَبِير": (9/203 رقم: 8990)، والبَيْهَقِيُّ في "شُعَبُ الإيمانِ": (2/119 رقم: 599)، وفي "القَدَرِ": (265 رقم: 368). قَالَ ابنُ حَجَرٍ الهَيْثَمِيُّ فِي "المَجْمَعِ": (10/90): "رِجَالُهُ رِجَالُ الصَّحِيحِ". فَإِنَّ الدُنيا لا تُساوي شَيْئًا في مِيزانِ الحَقَّ ـ عَزَّ وجَلَّ، فنعيمُها زائلٌ، وسُرورُها إلى انقضاءٍ، وَلِذلكَ قالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَلامُ: ((لَوْ كَانَتِ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ ماءٍ)) أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَةَ: (4110)، وَالتِّرْمِزِيُّ: (2320)، عنْ سَهلِ ابْنِ سَعْدٍ، ولَهُ روايةٌ عَنْ أَبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: {أَيَحْسَبُونَ} قَالَ: قُرَيْش. وَ {إِنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ} قَالَ: نُعْطِيهِمْ. و {مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخيرَاتِ" نَزيدُ لَهُمْ فِي الْخَيْرِ، بَلْ نُمْلِي لَهُمْ فِي الْخَيْرِ "وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، عَنْ قَتَادَةَ ـ رضيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ قالَ: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُم فِي الْخيرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ"، قَالَ: مَكَرَ اللهُ بِالْقَوْمِ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادِهمْ فَلَا تَعْتَبِرُوا النَّاسَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَوْلَادهمْ، وَلَكِن اعْتَبِرُوهُم بِالإِيمانِ وَالْعَمَلِ الصَّالِحِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ أَميرَ المُؤمنينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أُتِيَ بِفَرْوَةِ كِسْرَى فَوُضِعَتْ بَيْنَ يَدَيْهِ، وَفِي الْقَوْمِ سُرَاقَةُ بْنُ مَالِكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فَأَخَذَ عُمَرُ سِوَارِيْهِ فَرَمَى بِهِمَا إِلَى سُرَاقَةَ، فَأَخَذَهُمَا فَجَعَلَهُمَا فِي يَدَيْهِ، فَبَلَغَتَا مَنْكِبَيْهِ فَقَالَ: الْحَمْدُ للهِ، سِوَارَا كِسْرَى بْنِ هُرْمُزٍ فِي يَدَيْ سُرَاقَةَ بْنِ مَالِكِ بْنِ جَعْشَمٍ أَعْرَابيٍّ مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ.
ثَمَّ قَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ عَلِمْتُ أَنَّ رَسُولَكَ قَدْ كَانَ حَرِيصًا عَلَى أَن يُّصِيبَ مَالًا يُنْفِقُهُ فِي سَبِيلِكِ وَعَلَى عِبَادَكَ، فَزَوَيْتَ عَنْهُ ذَلِكَ نَظَرًا مِنْكَ وَخِيارًا، اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ يَكونَ هَذَا مَكْرًا مِنْكَ بِعُمَرَ ثُمَّ تَلَا: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ يَزِيد بْنِ مَيْسَرَةَ بْنِ حَلْبَسَ، أَبي حَلْبَسٍ، الدِّمَشقِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَجِدُ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلى مُوسَى: (أَيَفْرَحُ عَبْدِي أَنْ أَبْسُطَ لَهُ الدُّنْيَا وَهُوَ أَبْعَدُ لَهُ مِنِّي، وَيَجْزَعُ أَنْ أَقْبِضَ عَنْهُ الدُّنْيَا وَهُوَ أَقْرَبُ لَهُ مِنِّي). {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ".
وَ "في الخَيْرَاتِ" الْخَيْرَاتُ: جَمْعُ خَيْرٍ بِالْأَلِفِ وَالتَّاءِ، وَهُوَ من الْجُمُوعِ النَّادِرَةِ، مِثْلَ سُرَادِقَاتٍ. وَالظَرْفِيَّةُ هُنَا مَجَازِيَّةٌ. فقدْ جُعِلَتِ "الْخَيْراتِ" بِمَنْزِلَةِ الطَّرِيقِ الَّذي تَكونُ فِيهِ الْمُسَارَعَةُ بِالْمَشْيِ، فَإِنَّ "فِي" ـ هُنَا، قَرِينَةٌ مَكْنِيَّةٌ. كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ المائدَةِ: {يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ} الْآيةَ: 41، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 52، مِنْهَا: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ}، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ الأَنْبِياءِ: {إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ} الْآيَةَ: 90.
قوْلُهُ: {بَلْ لَّا يَشْعُرُونَ} هُوَ إِضْرَابُ انْتِقَاليٌّ عَنِ الحُسْبَانِ المُسْتَفْهَمِ عنْهُ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها بقولِهِ: {أَيَحْسَبُونَ}، وَلَيْسَ هَذا الاسْتفهامً عَلَى سَبِيلِ الظَّنِّ ـ كَمَا هُوَ ظَاهِرٌ بِالْقَرِينَةِ، وَالمَعْنَى: لَسْنَا نُسَارِعُ لَهُمْ بِالْخَيْرَاتِ كَمَا يَظَنُّونَ، بَلْ لَا يَشْعُرُونَ بِالحِكْمَةِ مِنْ ذَلِكَ الْإِمْدَادِ، وَأَنَّهُ لِاسْتِدْرَاجِهِمْ وَفَضْحِهِمْ وَإِقَامَةِ الْحجَّة عَلَيْهِم، وتراكُمِ آثامِهِمْ لِمُضَاعَفَةِ العَذابِ لَهِمْ في الآخرَةِ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} نُسَارِعُ: فِعُلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نَحْنُ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُسَارِعُ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ الجمعِ المُذَكَّرِ. و "فِي" حَرْفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نُسَارِعُ" أَيْضًا، و "الْخَيْرَاتِ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ" مِنَ الجملةِ السَّابقةِ، وَالرَّابِطُ بَيْنَ هَذِهِ الجُمْلَةِ، وَاسْمِ "أَنَّ" مَحْذوفٌ، والتقديرُ: نُسَارِعُ لَهُمْ بِهِ، أَوْ فِيهِ، إِلَّا أَنَّ حَذْفَ مِثْلِهِ قَلِيلٌ، وَقِيلَ: الرَّابِطُ بَيْنَهُمَا هُوَ اسْمُ الظّاهِرِ الَّذي قَامَ مُقَامَ المُضْمَرِ، مِنْ قَوْلِهِ: "فِي الْخَيْرَاتِ"، وَهَذَا يَتَمَشَّى مَعَ مَذْهَبِ الأَخْفَشِ، فإِنَّهُ يَرَى الرَّبِطَ بالأَسْمَاءِ الظَّاهِرَةِ، وَإِن لَمْ يَكُنْ بِلَفْظِ الأَوَّلِ. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا، فِي تَأْويلِ مَصْدَر سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "حَسِبَ"، وَالتقديرُ: أَيَحْسَبُونَ مُسَارَعَتَنَا إِيَّاهُمْ فِي الخَيْراتِ، بِمَا أَمَدَدْنَاهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ.
قولُهُ: {بَلْ لَا يَشْعُرُونَ} بَلْ: حَرْفُ إِضْرَابِ انْتِقَالِيّ. و "لَا" نَافِيَةٌ. و "يَشْعُرُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ ثُبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى مُقَدَّرٍ يَنْسَحِبُ عَلَيْه الكَلامُ؛ أَيْ: لَا نَفْعَلُ ذَلِكَ، بَلْ هُمْ كَالْبَهَائمِ لَا يَشْعُرُونَ بِشَيْءٍ أَصْلًا، فَلَا فِطْنَةَ لَهُمْ، وَلَا شُعُورَ يُتِيحُ لَهُمُ التَّأَمُّلَ، فَيَعْرِفونَ أَنَّ ذَلِكَ الإِمْدَادَ مَا هُوَ إِلَّا اسْتِدْرَاجُ لَّهُمْ، واسْتِجْرَارٌ إِلَى زَيَادَةِ آثامهم.
قرأَ الجمهورُ: {نُسَارِعُ} بالنونِ، وَقَرَأَ أَبو عبدِ الرحمنِ السُّلَمِيُّ وابْنُ أَبِي بَكْرَةَ: "يُسَارِعُ" باليَاءِ وَكَسْرِ الرَّاءِ. وَفِي فاعِلِهِ حينَئذٍ وَجْهَانِ، أَحَدُهُمَا: الباري ـ تَعَالَى، والثاني: الضَميرُ في "مَا" المَوْصُولَةِ إِنْ جَعَلْناهَا بِمَعْنَى الَّذي، أَوْ عَلَى المَصْدَرِ إِنْ جَعَلْناهَا مَصْدَرِيَّةً. وَحِينَئِذٍ يَكونُ "يُسارِعُ لهم" الخَبَرَ. فَعَلَى الأَوَّلِ يُحْتَاجُ إِلَى تَقْديرِ عائدٍ، أَيْ: يُسَارِعُ اللهُ لَهُمْ بِهِ أَوْ فِيهِ. وَعَلى الثَّاني لَا يُحْتَاجُ، إِذِ الفاعِلُ هوَ الضَّمِيرُ في "مَا" المَوْصُولَةِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ: "نُسْرِعُ" بِالنّونِ مِنْ "أَسْرَعَ" وَهِيَ كَ "نُسارعُ" فِيمَا تَقَدَّمَ.