الموسوعة القرآني
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ، الآية: 54
فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ} أَيْ: فَاتْرُكْهُمْ يا رَسُولَ اللهِ فِي ضَلَالَتِهِمْ، وَدَعْهُمْ فِي عَمَاهُمْ، كَمَا قَالَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ سُورَةِ الذَّارِياتِ: {قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ * الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ} الآيَتَانِ: (10 و 11)، أَيْ: هُمْ غَافِلونَ غارِقونَ في ضَلَالَتِهم.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يُريدُ فِي ضَلَالَتِهِمْ. ذَكَرَهُ الثَّعْلَبِيُّ في تَفسيرِهِ: (3/62 أ).
وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِيمَا رَوَاهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ في "تَفْسِيرِهِ": (2/46).
وَقَالَ ابْنُ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما: عَمَاهُمْ. ذَكَرَهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسيرِهِ: (3/62 أ).
وَقَالَ مُقاتِلُ بْنُ سُلَيمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: يَعْنِي كُفَّارَ مَكَّةَ، يَقُولُ: خَلِّ عَنْهُمْ فِي غَفْلَتِهِمْ. "تَفْسِيرُ مُقَاتِل": (2/31 ب).
وَقَالَ الفَرَّاءُ ـ رَحِمَهُ اللهُ تعالى، فِي "مَعَانِي القُرْآنِ وإعرابُهُ" لَهُ: (2/238): فِي جَهَالَتِهِم.
وَقَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ في "مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" لهُ: (4/16): فِي عِمَايَتِهِمْ وَحِيرَتِهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ،
وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ". قَالَ: فِي ضَلَالَتِهِمْ.
والغَمْرةُ في اللغَةِ: الشِّدَّةُ، وغمراتُ الموتِ شَدائدُهُ وسَكَراتُهُ. قالَ تعالى مِنْ سورةِ الأنعامِ: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ} الآيةَ: 93، أَيْ: فِي شَدائدِهِ وسَكَراتِهِ. وَمِنْ دُعاءِ الفاروقِ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "اللَّهُمَّ لا تَدَعْنِي في غَمْرَةٍ، ولا تَأْخُذْني عَلَى غِرَّةِ، وَلَا تَجْعَلْنِي مِنَ الغَافِلِينَ". أَخْرَجَهُ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ: (29517، 34452).
وَأَخُرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حنبلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في مُسْنَدِهِ: (4/76، برقم: 16823)، عَنْ الصَّحابيِّ الجَليلِ الفارسِ الشَّاعِرِ ضِرَارِ بْنِ الْأَزْوَرِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: أَتَيْتُ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقُلْتُ: امْدُدْ يَدَكَ أُبَايِعْكَ عَلَى الْإِسْلَامِ، قَالَ ضِرَارٌ: ثُمَّ قُلْتُ:
تَرَكْتُ الْقِدَاحَ وَعَزْفَ الْقِيَا ................... نِ وَالْخَمْرَ تَصْلِيَةً وَابْتِهَالَا
وَكَرِّي الْمُحَبَّرَ فِي غَمْرَةٍ ................ وَحَمْلِي عَلَى الْمُشْرِكِينَ الْقِتَالَا
فَيَا رَبِّ لَا أُغْبَنَنْ صَفْقَتِي ............... فَقَدْ بِعْتُ مَالِي وَأَهْلِي ابْتِدَالَا
فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا غُبِنَتْ صَفْقَتُكَ يَا ضِرَارُ)). فقولُهُ: المُحَبَّرَ: اسْمُ حصانِهِ، وقولُهُ: في غمْرةٍ: في شِدَّةٍ. والجَمْعُ: غُمَرٌ. وَغَمَراتُ المَوْتِ: شَدائِدُهُ. والغَمْرِ: المَاءُ الكَثيرُ، فيقالُ: غَمَرَ الماءُ الشَّيْءَ، يَغمُرُهُ، إِذا عَلَاهُ وغطَّاهُ. قالَ ـ تَعالى، فِي الآيةِ: 63، مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنُونَ: {بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِّنْ هَذَا}، أَيْ في غطاءٍ.
وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في كَشَّافِهِ: وَالغَمْرَةُ: المَاءُ الَّذي يَغْمُرُ القامَةَ، فَضُرِبَتْ لَهُمْ مَثَلًا لِمَا هُمْ مَغْمُورونَ فِيهِ مِنْ جَهْلِهِمْ وَعَمَايَتَهِمْ. أَوْ شُبِّهُوا بِاللّاعِبِينَ فِي غَمْرَةِ المَاءِ؛ لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ البَاطِلِ كَقَوْلِ ذي الرُّمَّةِ:
لَياليَ اللَّهْو تَطْبِيني فَأَتْبَعُهُ ................ كَأَنَّني ضَارِبٌ فِي غَمْرَةٍ لَعِبُ
معنى تَطْبيني: تَدْعوني. وَالضَّارِبُ، وَالضَّريبُ: هُوَ صاحِبُ القِدَاحِ الَّذي يَضْرِبُ بِهَا.
وَرَجُلٌ بيِّن الغُمُورَةِ، مِنْ قَوْمٍ غِمَارٍ وَغُمُورٍ. وَغَمْرُ الرِّدَاءِ: السَّخَيٌّ مِنَ الرِّجالِ، ومِنْهُ قَولُ كُثَيِّرِ عَزَّةَ:
غَمْرُ الرِّدَاءِ إِذَا تَبَسَّمَ ضَاحِكًا ............ غَلِقَتْ لِضِحْكَتِهِ رِقَابُ المَالِ
وَبَحْرٌ غَمْرٌ، وَبِحَارٌ غِمَارٌ وغُمورٌ، وَالغَمْرَةُ: الزَّحْمَةُ مِنَ النَّاسِ وَالمَاءِ، والجَمْعُ غِمَارٌ. تقولُ: دَخَلْتُ فِي غُمَارِ النَّاسِ وَغَمَارِ النَّاسِ، أَيْ فِي زَحْمَتِهِمْ وَكَثْرَتِهِم لأَنَّ مَنْ دَخَلَهَا غَمَرَتْهُ وأَخْفَتْهُ.
وَالغُمَرُ: القَدَحُ الصَّغِيرُ، وَعَلِيْهِ قَوْلُ أَعْشَى بَاهِلَةَ في رِثَاءِ أَخيِهِ المُنْتَشِرِ الباهلِيِّ:
تَكْفِيهِ حُزَّةُ فِلْذانٍ أَلَمَّ بِهَا ............... مِنَ الشِّوَاءِ وَيَكفِي شُرْبَهُ الغُمَرُ
وَمِنْهُ التَّغَمُّرُ، وَهُوَ الشُّرْبُ دُونَ الرِيِّ. والغُمْرُ مِنَ الرِّجالِ: الذي لم يجرِّب الأُمُورَ، قالَ أَبو فراسٍ الحمدانيُّ:
أُسِرْتُ وَمَا صَحْبِي بِعُزْلٍ لَدَى الْوَغَى ....... وَلَا فَرَسِي مُهْرٌ وَلَا رَبُّهُ غَمْرُ
فهو بَيِّنُ الغمارَةِ مِنْ قَوْمٍ أَغْمَارٍ. والأنثى غُمْرَةٌ. وقد غَمُرَ بالضم يَغْمُرُ غَمارةً. وكذلك المُغَمَّرُ من الرجال. والمُغامِرُ مِنَ الرِّجالِ، الَّذي يَقْتَحِمُ المَهَالِكَ. والغِمرُ: العَطَش. والغِمْرُ: الحِقْدُ وَالْغِلُّ. وغَمِرَ صَدْرُهُ عليَّ، يَغْمَرُ غَمَرًا. وَالغامِرُ مِنَ الأَرْضِ: خِلَافُ العَامِرِ، أَوْ مَا لَمْ يُزْرَعْ مِنها لأَنَّ المَاءَ يَبْلُغُهُ فَيَغْمُرُهُ. والانْغِمارُ في الأَمْرِ: الانْغِمَاسُ فيهِ، واللهُ أعلمُ.
قولُهُ: {حَتَّى حِينٍ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: يُريدُ نُزُولَ العَذَابِ بِهِمْ بِالسَّيْفِ أَوْ بِالْمَوْتِ.
وَقالَ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِيمَا أَخْرَجَهُ عَنْهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ: "حَتَّى حِينٍ": الْمَوْت.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "حَتَّى حِينٍ": يَوْم بَدْرٍ.
وَظَاهِرُ الْكَلَامُ في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ الْمُتَارَكَةُ، وَالْمَقْصُودُ مِنْهُ إمْهالُهم واسْتِدْراجُهم والْإِمْلَاءُ لَهُمْ وَإِنْذَارُهُمْ بِمَا يَسْتَقْبِلُهُمْ مِنْ شَرِّ المَصيرِ وسُوءِ الْعَاقِبَةِ فِي وَقْتٍ مَا مُبْهَمٍ. وَلِذَلِكَ فقد نُكِّرَ لَفْظُ "حِينٍ" الْمَجْعُولُ غَايَةً لِإمهالِهِم واسْتِدْرَاجِهِمْ، أَيْ: زَمَنٌ غامِضٌ مُبْهَمٌ، كَما قَالَ ـ تَعَالَى مِنْ سورةِ الأعرافِ: {لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً} الْآيةَ: 187.
قولُهُ تَعَالى: {فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: يَا رَسُولَ اللهِ إِذَا عَرَفْتَ تَقَطُّعَهُمْ وَتَفَرُّقَهُمْ، وَفَرَحَ كُلِّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ مَا هُوَ الأَصْلَحُ، فَأَقُولُ لَكَ: ذَرْهُمْ .. . و "ذَرْهُمْ" فِعْلُ أمْرٍ مبنيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ نَصْبِ مَفْعُولِهِ الأَوَّل، وَهذا الْضَّمِيرُ عائدٌ لِكُفَّارِ مَكَّةَ، والميمُ: علامةُ جَمعِ المُذَكَّرِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ هُوَ المَفْعُولُ بِهِ الثاني، أَوْ يتَعلَّقُ بحالٍ مِنْ ضَمِيرِ المَفْعُولِ الأَوَّلِ؛ أَيْ: اتْرُكْهُمْ مُتَخَبِّطينَ فِي غَمْرَتِهِمْ، أَوْ حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَخَبِّطِينَ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ ظَرْفًا لِلتَّرْكِ، وَالْمَفْعُولُ الثَّانِي مَحْذُوفٌ. وَ "غَمْرَتِهِمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "حَتَّى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ذَرْهُمْ"، و "حِينٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قرأَ الجُمهورُ: {في غمْرَتِهِم} بالإِفرادِ، وَقَرَأَ أَمِيرُ المُؤْمِنِينَ علِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَأَبُو حَيَوَةَ، وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَمِيُّ: "في غَمَرَاتِهِمْ" بِالْجَمْعِ؛ لِأَنَّ لِكُلٍّ مِنْهُمْ غَمْرَتَهُ الخاصَّةَ بِهِ. وقراءةُ الجُمْهورِ لَا تَأْبَى هَذَا المَعْنَى، فَإِنَّهُ اسْمُ جِنْسٍ مُضَافٌ، واللهُ أَعْلَمُ.