فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
الشاعر عبد القادر الأسود
الجزءُ الثامنَ عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الخامسُ وَالثلاثونَ
سُورَةُ المؤمنونَ الآية: 22
وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
قولُهُ ـ تعالى شَأْنُهُ: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} الفُلْكُ هِيَ السُّفُنُ، فَقدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي صَالِحٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَال عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَعَلى الْفُلْكِ"، قَالَ: السُّفُنِ. أَيْ: وَتُحْمَلونَ عَلَيْهَا فِي البَرِّ أَنتُمْ، ومَتَاعُكم وَأَثْقَالُكُمْ، وَفِي البَحْرُ تُحْمَلُونَ عَلَى السُّفُنِ أَنْتُم وَأَثْقَالُكُمْ. كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} الآيةَ: 7، ثُمَّ قالَ في الآيةِ: 14، مِنْهَا: {وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ} الآيةَ: 14، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الإسْراءِ: {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} الآيةَ: 70. وَقَالَ مِنْ سورةِ الحجِّ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} الآيةَ: 65، وَقَالَ فِي سُورةِ يس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُم مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} الآيتانِ: (41 و 42)، وَقَالَ بعدَ ذلك فِي الْسُّورةِ نفسَها: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ} الآيتانِ" (71 و 72)، وَقَالَ مِنْ سورةِ غافر: {اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} الآيتانِ: (79 و 80)، وَقَال أَيْضًا فِي الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَعًا: {وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ} الآياتِ: (12 ـ 14) مِنْ سورةِ الزُّخرُف. وَالْآيَاتُ في هَذَا كَثِيرَةٌ.
وَالضَّميرُ في "عَلَيْهَا" عائدٌ إِلى "الأَنْعَامِ" المَذْكورةِ في الآيةِ التي قبلَها بقولِه: {وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ..}، وَلَا يَتَحَقَّقُ الحَمْلُ عَلَى جَمِيعِ أَنْوَاعِهَا بَقَوْلِها "عَلَيْهَا"، بَلْ يَتَحَقَّقُ بِالْحَمْلِ عَلَى بَعْضِها كَالإِبِلِ وَنَحْوِهَا، مِثْلَ الخَيْلِ وَالبِغَالِ وَالحَمِيرِ، يؤَيِّدُ ذلكَ قولُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّحلِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآياتِ: (5 ـ
.
وقدْ تَقَدَّمَ أَنَّ "الأَنْعَامَ" هيَ الإبِلُ عِنْدَ مُعْظَمِ القَبَائلِ العَرَبِيَّةِ، لأنَّها وَحَدَها المَركوبةُ والمَحمولُ عَلَيْهَا عندهم. وتَدْخُلُ في حُكْمِها الخُيُولُ وَالبِغَالُ وَالحَمِيرُ لِأَنَّها تُرْكَبُ أَيْضًا ويُحْمَلُ عَلَيْهَا، أَمَّا الأَبْقَارُ، فإنَّها تَخُلُ في حُكْمِ الإبِلِ فيما يخُصُّ الهَدْيَ والأَضَاحِي، ولا تَدْخُلُ في حُكْمِهَا هَهُنا في رُكوبِها والحَمْلِ عَلَيْهَا، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ رَجُلًا فِي الزَّمَانِ الْأَوَّلِ رَكِبَ بَقَرَةً فَأَنْطَقَهَا اللهُ ـ تَعَالَى، فَقَالَتْ لَهُ: (إِنَّا لَمْ نُخْلَقْ لِهَذَا! وَإِنَّمَا خُلِقْتُ لِلْحَرْثِ). والحَديثُ مَشْهورٌ رَوَاهُ البُخَارِيُّ فِي "صَحِيحِهِ" كتابُ: الحَرْثِ، بابُ: اسْتِعْمَالِ البَقَرِ للحِرَاثَةِ: (5/
، وَمُسْلِمٌ فِي "صَحِيحِهِ" كتابُ: فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ، بَابُ: مِنْ فَضْلِ أَبي بَكْرٍ الصِّدِّيق: (4/1855).
وَقِيلَ المُرَادُ بالأَنْعامِ الإِبِلُ خَاصَّةً لِأَنَّهَا هِيَ المَحْمُولُ عَلَيْهَا عِنْدَ العَرَبِ، وهيَ المُنَاسِبُ لِلْفُلْكِ فَإِنَّها سَفَائِنُ البَرِّ، كما قَالَ ذُو الرُّمَّةِ
أَلَا خُيِّلَتْ مِنِّي وَقَدْ نَامَ صُحْبَتِي ........... فَمَا نَفَرَ التَّهْوِيمَ إِلَّا سَلَامُهَا
طَرُوقًا وَجُلَبُ الرَّحْلِ مَشْدُودَةٌ بِهَا ........ سَفِينَةُ بَرٍّ تَحْتَ خَدِّي زِمَامُهَا
وَالفُلْكُ سُفُنُ البَحْرِ. فإِنَّ وَجْهَ الِانْتِفَاعِ بِالْإِبِلِ فِي الْمَحْمُولَاتِ عَلَى الْبَرِّ بِمَنْزِلَةِ الِانْتِفَاعِ بِالْفُلْكِ فِي الْبَحْرِ، وَلِذَلِكَ فَقد جَمَعَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ فِي إِنْعَامِهِ لِكَيْ يُشْكَرَ عَلَى ذَلِكَ وَيُسْتَدَلَّ بِهِ عَلَى عَظَمَةِ قُدْرَتِهِ، وعَظِيمِ إِنْعامِهِ.
وَالآيَةُ الكريمةُ هَذِهِ: إِدْمَاجٌ فيما قبلَها مِنْ آيٍ، وَتَهْيِئَةٌ لِمَا يأْتي بعدَها لِلتَّخَلُّصِ إِلَى قِصَّةِ نُوحٍ ـ علَيْهِ السَّلامُ، حيثُ سَتَكُونُ قِصَّتَهُ موضوعَ الآياتِ التاليةِ، لأنَّهُ لَمَّا كانَ الكَلَامُ هُنَا عَنِ الفُلْكِ فَقَدْ نَاسَبَ الحديثُ عَمَّنْ لَهُ صِلَةٌ بِالفُلْكِ، وَهيَ قِصَّتُهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فهُوَ أَوَّلُ مَنْ عَلَّمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى، صِنَاعَةَ الفُلْكِ، وأَوَّلُ مَنْ رَكِبَها وحَمَلَ عَلَيْها.
قولُهُ تعالى: {وَعَلَيْها وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ} الوَاوُ: عاطفَةٌ، و "عَلَيْها" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُحْمَلُونَ"، و "ها" وَ "هَا" ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحَرْفِ الجَرِّ. و "وَعَلَى" الواوُ: للعطْفِ، و "عَلى" حرفُ جَرٍّ مَعْطوفٍ عَلَى الجَارِّ قَبَلَهُ مُتَعلِّقٌ بما تعلَّقَ بِهِ، و "الْفُلْكِ" مَجْرُورٌ بِحَرِفِ الجَرِّ. و "تُحْمَلُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مبنيٌّ للمجهولِ، مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجَازِمِ، وعَلَامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النَّونِ في آخِرِهِ، لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ. وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالنيابةِ عَنْ فَاعِلِهِ، وقَدْ بُنِيَ الفِعْلُ هُنَا عَلَى المَفْعولِ تَعْظيمًا لِلْفَاعِلِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِيمُ، فالفاعِلُ مَعْلُومٌ وإِنْ جُهِّلَ الفاعِلُ، إِذْ لَا فاعِلَ في الوُجودِ ـ عَلَى وجْهِ الحقيقةِ سِواهُ ـ عَزَّ وجَلَّ. وَالجُمْلَةُ الْفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "نُسْقِيكُمْ" أَيْضًا، التي هِيَ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.