وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ
( قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} وَقَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها} الآيةَ: 58، وَقَالَ مِنْ سُورةِ الأَنْفَالِ: {يا أَيُّها الَّذينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللهَ والرَّسولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ وأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الْآيةَ: 27.
وهَذِهِ صِفَةٌ كَرِيمَةٌ أُخْرَى مِنْ صِفَاةِ المُؤْمِنينَ المُفْلِحِينَ، وهيَ أَنَّهم إِذَا ائْتُمِنُوا عَلى شَيْءٍ حَرصوا عَلَيْهِ وَلَمْ يُضَيِّعوهُ، وَحَافَظُوا عَلَى الأَمانَةِ أَنْ تَطَالَها يَدٌ بِسُوءٌ أَوْ فَسَادٌ وأَدَّوْهَا في وَقْتِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّهَا كَمَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهَا. وفَي الغالبِ فإنَّ الْأَمَانَةُ تَكُونُ مِنَ النَّفَائِسِ الَّتِي يَخْشَى صَاحِبُهَا عَلَيْهَا التَّلَفَ، فَيَجْعَلُهَا عِنْدَ مَنْ يَظُنُّ فِيهِ حِفْظَهَا، وَغَالِبًا ما يَكُونُ ذَلِكَ عَلَى انْفِرَادٍ بَيْنَ الْمُؤْتَمِنِ وَالْمُؤْتَمَنِ، فَقَدْ تُغْرِي الْأَمِينَ عَلَيْهَا لِنَفَاسَتِهَا بِأَنْ لَا يَرُدَّهَا، وَبِأَنْ يَجْحَدَهَا رَبَّهَا، وَلِكَوْنِ دَفْعِهَا فِي الْغَالِبِ لَا إِشْهَادَ عليْهِ لفرطِ الثِّقَةِ فَلِذَلِكَ جَعَلَ اللهُ رَدَّهَا مِنْ شُعَبِ الْإِيمَانِ، ولذلكَ قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ البقرةِ: {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللهَ رَبَّهُ} الآيَةَ: 283. وَقَدْ جَاءَ فِي الْحَدِيثِ الشَّريفِ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَدَّثَنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَدِيثَيْنِ قَدْ رَأَيْتُ أَحَدَهُمَا، وَأَنَا أَنْتَظِرُ الْآخَرَ: حَدَّثَنَا ((أَنَّ الْأَمَانَةَ نَزَلَتْ فِي جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ نَزَلَ الْقُرْآنُ، فَعَلِمُوا مِنَ الْقُرْآنِ، وَعَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ)). ثُمَّ حَدَّثَنَا عَنْ رَفْعِ الْأَمَانَةِ، قَالَ: ((يَنَامُ الرَّجُلُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْوَكْتِ، ثُمَّ يَنَامُ النَّوْمَةَ فَتُقْبَضُ الْأَمَانَةُ مِنْ قَلْبِهِ، فَيَظَلُّ أَثَرُهَا مِثْلَ الْمَجْلِ كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ، فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا، وَلَيْسَ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ أَخَذَ حَصًى فَدَحْرَجَهُ عَلَى رِجْلِهِ. فَيُصْبِحُ النَّاسُ يَتَبَايَعُونَ لَا يَكَادُ أَحَدٌ يُؤَدِّي الْأَمَانَةَ، حَتَّى يُقَالَ إِنَّ فِي بَنِي فُلَانٍ رَجُلًا أَمِينًا، حَتَّى يُقَالَ لِلرَّجُلِ مَا أَجْلَدَهُ، مَا أَظْرَفَهُ، مَا أَعْقَلَهُ، وَمَا فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ مِنْ إِيمَانٍ، وَلَقَدْ أَتَى عَلَيَّ زَمَانٌ وَمَا أُبالِي أَيَّكم بايَعْتُ، لَئِنْ كَانَ مُسْلِمًا لَيَرُدَّنَهُ عَلي دينِهِ، وَلَئنْ كَانَ نَصْرَانِيًا أَوْ يَهُودِيًّا لَيَرُدَّنَهُ عَلَى سَاعِيهِ. وَأَمَّا الْيَوْمُ فَمَا كُنْتُ لِأُبَايِعَ مِنْكُمْ إِلَّا فُلَانًا وَفُلَانًا)). أَخْرَجَهُ الأَئِمَّةُ: الطَّيَالِسِيُّ: (ص: 57، بالرَّقَمِ: 424)، وأَحْمَدُ: (5/383، بالرَّقم: 23303)، وَالبُخَارِيُّ: (5/2382، بالرَّقَمِ: 6132)، وَمُسْلِمٌ: (1/126، بالرَّقم: 143)، وَالتِرْمِذِيُّ: (4/474، بالرَّقم: 2179) وقال: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَابْنُ مَاجَهْ: (2/1346، بالرَّقم: 4053)، وأَبُو عُوَانَةَ: (1/55، بالرَّقم: 141)، وابْنُ حِبَّانَ: (15/164، بالرَّقَم: 6762).
قَوْلُهُ: الْوَكْتُ: الْأَثَرُ الْيَسِيرُ. وَيُقَالُ لِلْبُسْرِ إِذَا وَقَعَتْ فِيهِ نُكْتَةٌ مِنَ الْإِرْطَابِ: قَدْ وَكَّتَ، فَهُوَ مُوَكِّتٌ. وَالْمَجْلُ: أَنْ يَكُونَ بَيْنَ الْجِلْدِ وَاللَّحْمِ مَاءٌ، وَقَدْ فَسَّرَهُ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: (كَجَمْرٍ دَحْرَجْتَهُ) أَيْ: دَوَّرْتَهُ عَلَى رِجْلِكَ فَنَفِطَ. و (فَتَرَاهُ مُنْتَبِرًا) أَيْ: مُرْتَفِعًا، وهذا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ كُلَّهُ مَحْسُوسٌ فِي الْقَلْبِ يَفْعَلُ فِيهِ، وَكَذَلِكَ الْخَتْمُ وَالطَّبْعُ، وَاللهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
وَالأَمَانَةُ فِي الأَصْلِ مَصْدَرٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى الشَّيْءِ المُؤْتَمَنِ عَلَيْهِ. كَما قَالَ في الآيةِ: 5، منْ سورةِ النِّساءِ: {إنَّ اللهَ يأْمُرُكمْ أَنْ تُؤَدُّواْ الأَماناتِ إِلَى أَهْلِهَا}، وكما قالَ مِنْ سورةِ الأنفالِ: {وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} الآيةَ: 27. قالَ الزَّمَخْشَريُّ: وَإِنَّمَا يُؤَدَّى وَيُخانُ الأَعْيَانُ لَا المَعَانِي. وهذا مسلَّمٌ بِهِ في الآيَتَيْنِ الكريمتَيْنِ. أَمَّا هنا في هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ فَتَحْتَمِلُ المَصْدَرَ، وَتَحْتَمِلُ العَيْنَ. فتَحْتَمِلُ الأَمَانَاتُ: الشَّهادَةَ للهِ بالوَحْدانيَّةِ، وَالعِبَادَاتِ وَالفَرَائِضِ الَّتي فَرَضَها عَلَيْهِمْ، وَمُراعاتُها: أَداؤُها فِي أَوْقَاتِهَا، وَالعُهُودَ الَّتِي فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ رَبَّهِم وخالِقِهِمْ. ذَكَرَ الإمامُ الفَخْرُ الرَّازيُّ في تَفْسِيرِهِ "الكبير" أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، قالَ: ((أَعْظَمُ النَّاسِ خِيَانَةً مَنْ لَمْ يُتِمَّ صَلَاتَهُ)).
وَأَخْرَجَ الضَّياءُ المَقْدِسِيُّ في (المُختارة)، وَالشِّهابُ القُضَاعِيُّ فِي مُسْنَدِه، عَنْ أَنَسِ بْنِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((أَوَّلُ مَا تَفْقِدُونَ مِنْ دِينِكُمُ الْأَمَانَةُ، وَآخِرُ مَا تَفْقِدُونَ الصَلَاةُ)) المُخْتَارَةُ: (1/495) وَمُسْنَدُ الشِّهَابِ القُضَاعِيِّ: (1/155). ولَهُ رواياتٌ كثيرةٌ موقوفًا عَلَى حُذَيْفةَ بْنِ اليمانِ، وعبدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. كَمَا تَحتملُ الأَمَانَاتِ الَّتي تُوضَعُ عِنْدَهُمْ، والعُهُودَ الَّتِي تُبرَمُ فِيمَا بَيْنَهْمِ وَبَيْنَ الخَلِقِ، وَرِعايتُهَا: حِفْظُها، وَأَدَاؤُهَا إِلَى أَرْبَابِهَا وَعدَمُ تَضْيِيعِهَا. وَمِنْ جُمْلَةِ ذَلِكَ مَا يَلْتَزِمُهُ بِفِعْلٍ أَوْ قَوْلٍ فَيَلْزَمُهُ الْوَفَاءُ بِهِ كَالْوَدَائِعِ وَالْعُقُودِ وَمَا يَتَّصِلُ بِهِمَا. وَمِنْ ذَلِكَ الأَقْوَالُ الَّتي يَحْرُمُ بِهَا الْعَبِيدُ وَالنِّسَاءُ لِأَنَّهُ مُؤْتَمَنٌ فِي ذَلِكَ، وَمِنْ ذَلِكَ أَنْ يُرَاعِيَ أَمَانَتَهُ فَلَا يُفْسِدَهَا بِغَصْبٍ أَوْ غَيْرِهِ.
وَأَمَّا الْعَهْدُ فَإِنَّهُ دَخَلَ فِيهِ الْعُقُودُ وَالْأَيْمَانُ وَالنُّذُورُ، وَإِذَا عَاهَدُوا أَحَدًا عَلَى أَمْرٍ كانُوا أَوْفِياءَ بِما عاهدوهُ عَلَيْهِ، وَحَفِظُوا عُهُودَهُمْ، وَالْتَزَمُوا بِمَا عَاهَدُوا، دُونَ أَيِّ خَلَلٍ أَوْ تَأْخِيرٍ.
وَأَوَّلُ الأَمَانَاتِ والعُهُودِ هِوَ العَهْدُ الَّذي بَيْنَ المُؤْمِنِ ورَبِّهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالى، وَهوَ عهْدُ الإِيمانِ بِاللهِ الَّذي أَخَذَهُ اللهُ عَلَى عِبَادِهِ يَوْمَ كانُوا نُطَفًا في ظَهْرِ أَبِيهِمُ آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى: {وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ، وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ؟ قَالُوا: بَلَى شَهِدْنَا، أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} الآيَةَ: 172، مِنْ سُورَةِ الأَعْرَافِ. فَبَيَّنَ ـ سُبْحَانَهُ وتَعَالَى، أَنَّ مُرَاعَاةَ هَذِهِ الْأُمُورِ وَالْقِيَامَ بِهَا مُعْتَبَرٌ فِي حُصُولِ الْفَلَاحِ.
وَالرَّاعونَ: جَمْعُ راعٍ، وَالرَّاعِي: هُوَ الْقَائِمُ عَلَى الشَّيْءِ بِالحِفْظِ وَالإِصْلَاحِ، كَرَاعِي الْغَنَمِ، وَرَاعِي الرَّعِيَّةِ، وهوَ أَمِيرُها. أَيْ: يَحْفَظُونَ مَا ائْتُمِنُوا عَلَيْهِ، وَالْعُقُودُ الَّتِي عَاقَدُوا النَّاسَ عَلَيْهَا، يَقُومُونَ بِالْوَفَاءِ بِهَا، وَالْأَمَانَاتُ تَخْتَلِفُ فَتَكُونُ بَيْنَ اللهِ تَعَالَى وَبَيْنَ الْعَبْدِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ وَالْعِبَادَاتِ الَّتِي أَوْجَبَهَا اللهُ عَلَيْهِ، وَتَكُونُ بَيْنَ الْعَبِيدِ كَالْوَدَائِعِ وَالصَّنَائِعِ فَعَلَى الْعَبْدِ الْوَفَاءُ بِجَمِيعِهَا.
قولُهُ تَعَالى: {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، وَ "الَّذِينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ فِي مَحَلَّ الرَّفْعِ صِفَةً لِـ {الْمُؤْمِنُونَ}، وَذَلِكَ عَطفًا عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ الأَوَّلِ. و "هُمْ" ضميرٌ منفصِلٌ مَبنِيٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "لِأَمَانَاتِهِمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "رَاعُونَ"، و "أماناتِهم" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: لتذْكيرِ الجَمعِ. وَ "عَهْدِهِمْ" مَعْطوفٌ عَلَى "أَمَانَاتِهِمْ" وَلَهُ ذاتُ الإعرابِ. و "رَاعُونَ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّر السَّالمُ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {لِأَماناتِهِمْ} بِالْجَمْعِ. وَقرأَ ابْنُ كَثِيرٍ "لأَمانَتِهم" بِالْإِفْرَادِ. وَهُمَا في المَعْنَى وَاحِدٌ؛ إِذِ المُرَادُ العُمُومُ، وَالجَمْعُ أَوْفَقُ.