وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ
(78)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} الْجِهَادُ الْحَقُّ ما كانَ فِي قِتَالِ أَعْدَاءِ اللهِ ورَسُولِهِ وَالْمُسْلِمِينَ ذَوْدًا عَنْ حياضِ الدِّينِ، وَإِعْلَاءً لِكَلِمَةِ الْتَّوْحيدِ، ودِفاعًا عَنْ دِماءِ المُسْلمينَ وَأَعْرَاضِهِمْ وأَمْوالِهِم. كَمَا جاءَ فِي الصَّحِيحَيْنِ وَغَيْرِهِمَا مِنْ حَدِيثِ أَبِي مُوسَى الأَشْعَريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ ـ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، سُئِلَ عَنِ الرَّجُلِ يُقَاتِلُ غَضَبًا وَحَمِيَّةً، وَيُقَاتِلُ رِيَاءً، وَفِي رِوَايَةٍ لِلْمَغْنَمِ وَلِلذِّكْرِ، أَيُّ ذَلِكَ فِي سَبِيلِ اللهِ؟ فَقَالَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((مَنْ قَاتَلَ لِتَكُونَ كَلِمَةُ اللهِ هِيَ الْعُلْيَا فَهُوَ فِي سَبِيلِ اللهِ)). مُتَّفقٌ عَلَيْهِ. أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/392، رقم: 19511)، وَالبُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ: (6/2714، رقم: 7020)، وَمُسْلِم في صحيحهِ: (3/1513، رقم: 1904)، وَأَبُو دَاوُدَ في سُننِهِ: (3/14، رقم: 2517)، وَالتِّرْمِذِيُّ في جامِعِهِ: (4/179، رقم: 1646)، وَقالَ: حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَالنَّسَائِيُّ في سُنِنِهِ: (6/23، رقم: 3136)، وَابْنُ مَاجَهْ في سُنَنِهِ: (2/931، رقم: 2783). وَأَخْرَجَهُ أَيْضًا: الطَّيَالِسِيُّ: (ص 66، رقم: 486)، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: (ص: 195، رقم: 553)، وَالبَزَّارُ في مُسْنَدِهِ: (8/30، رقم: 3010)، وَأَبُو يَعْلَى في مُسْنَدِهِ: (13/234، رقم: 7253)، وَأَبُو عُوَانَةَ في مُسْتَخْرَجِهِ: (4/487، رقم: 7435)، وَابْنُ حِبَّانَ في صحيحِهِ: (10/493، رَقم: 4636)، وَالبَيْهَقِيُّ فِي السُّنَنِ الكُبْرَى: (9/167، رقم: 18325)، وَفِي شُعَبِ الإِيمانِ: (4/30، رقم: 4263).
ومِنْ بابِ الْمُشَاكَلَةِ أُطْلِقَ الْجِهَادُ أَيْضًا عَلَى مَنْعِ دَاعِي النَّفْسِ إِلَى الْمَعْصِيَةِ، ومُدَافَعَتُهَا، ومُحاولةُ ثَنْيِها عنْ شهواتِها المُخالِفةِ لتعاليمِ الشَّريعةِ الإسلاميةِّ الغرَّاءِ، وَعُدَّ الجهادَ الأَكْبَرَ لأَنَّهُ أَصْعَبُ وأَدَقُّ. فَقدَ رَوى البيهقِيُّ في "الزُّهْدِ"، والخَطيبُ البَغْدادِيُّ فِي تَاريخهِ: (13/493) مِنْ حَديثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ الأَنْصارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ حِينَ قَفَلَ راجِعًا مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ قَالَ لِأَصْحَابِهِ: ((رَجَعْنَا مِنَ الْجِهَادِ الْأَصْغَرِ إِلَى الْجِهَادِ الْأَكْبَرِ)). وفَسَّرَهُ لَهُمْ بِأَنَّهُ هُوَ مُجَاهَدَةُ هَوَىَ النَّفسِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ فُضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: ((الْمُجَاهِدُ مَنْ جَاهَدَ نَفْسَهُ فِي طَاعَةِ اللهِ)).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ" قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيُجَاهِدُ فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَمَا ضَرَبَ بِسَيْفٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ" يَعْنِي الْعَمَلَ أَنْ يَجْتَهِدُوا فِيهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ" قَالَ: يُطَاعُ فَلَا يُعْصَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ" لَا تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ.
وَحَقُّ الجِهادِ في سَبِيلِ اللهِ أَنْ يَكونَ خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، لَا يَشُوبَهُ رياءٌ البَتَّةَ، وأَنْ يُبْذَلَ فيهِ الوسْعُ مِنَ المالِ والجُهْدِ، دونَ بُخْلٍ أَوْ فُتُورٍ أَوْ تَقْصِيرٍ.
قولُهُ: {هُوَ اجْتَبَاكُمْ} أَيْ: هُوَ اخْتَارَكُمْ مِنْ بَيْنِ خَلْقِهِ مِنَ العَالَمِينَ نُصراءَ لِنَبِيِّهِ الخاتَمِ سَيِّدِنا محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، و حمَلَةً لِرِسالَتِهِ لِتُبِلِّغُوها مِنْ بَعْدِهِ للعَالَمِ. فَالِاجْتِبَاءُ: هُوَ الِاخْتِيَارُ والِاصْطِفَاءُ.
وَهَذَا خطابٌ مُوَجَّهٌ لِأَصْحَابِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَصَالَةً، وَيَعُمُّ كُلُّ مَنْ جَاءَ بِعْدَهُمْ بِحُكْمِ مِنْ المُسْلمينَ أَتْباعِ هَذا الدِّينِ باتِّحَادِ الْوَصْفِ فِي الْأَجْيَالِ كَمَا هُوَ الشَّأْنُ فِي غَيْرِه مِنْ المُخَاطِبَاتِ الأُخرى في أُمُورِ التَّشْرِيعِ.
وَالاجْتِباءُ هُنَا مَحْمُولٌ عَلَى مَعْنَى التَّفْضِيلِ، فقدْ فضَّلَ هَذِهِ الأُمَّةِ عَلَى سَائِرِ الْأُمَمِ بِمَا تَحْمِلُ مِنْ رِسالَةِ الإِسْلَامِ، وَنَظيرُهَا قَوْلُهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ آلِ عِمرَانَ: {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالْمَعروفِ وتَنْهَوْنَ عَنِ المُنْكَرِ وتُؤْمِنونَ باللهِ} الآيَةَ: 110.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: لَا تَخَافُوا فِي اللهِ لَوْمَةَ لَائِمٍ "هُوَ اجْتَبَاكُمْ" قَالَ: اسْتَخْلَصَكُمْ.
قَوْلُهُ: {وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ} فِي: هَهُنَا مَعْنَاهَا التَّعْلِيلُ، أَيْ لِأَجْلِ اللهِ، وَنَصْرِ دِينِهِ، كَمَا أَنَّهَا في قولِكَ: أَنَا في البَيْتِ تحملُ معنى الظَّرْفيَّةِ المَكَانِيَّةِ، وتَحْمَلُ مَعْنَى الظرْفيَّةِ الزَّمَانيَّةِ في قولِكَ: نَحْنُ في فصِلِ الرَّبيعِ. وَمثلُها في التعليلِ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِيمَا أَخْرَجَهُ الإمامُ مالكُ بْنُ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنْ حَديثِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((دَخَلَتِ امْرَأَةٌ النَّارَ فِي هِرَّةٍ رَبَطَتْهَا (وَفِي رِوَايَةٍ حَبَسَتْها) فَلاَ هِيَ أَطْعَمَتْهَا، ولاَ هِيَ أَطْلَقَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الأَرْضِ)). أَيْ: دخلتِ النارَ لِأَجْلِ هِرَّةٍ، أَيْ لِعَمَلٍ يَتَعَلَّقُ بِهِرَّةٍ كَمَا بَيِّنَهُ بِقَوْلِهِ: ((رَبَطَتْهَا لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا هِيَ أَطْلَقَتْهَا تُرَمِّمُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ حَتَّى مَاتَتْ هَزْلًا)).
وَالْحَرَجُ: الضِّيقُ، وأُطْلِقَ عَلَى العُسْرِ في الْأَفْعَالِ تَشْبِيهًا لِلْمَعْقُولِ بِالْمَحْسُوسِ، ثُمَّ شَاعَ ذَلِكَ حَتَّى صَارَ حَقِيقَةً عُرْفِيَّةً كَمَا هُوَ هُنَا. وَقِيلَ: الحَرَجُ هُوَ أَضْيَقُ الضِّيقِ.
فقد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَنِ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وأَرْضَاهَا، أَنَّهَا سَأَلَتِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرجٍ"، قَالَ: مِنْ ضِيقٍ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، مِنْ طَرِيقِ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاس ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، سُئِلَ عَنِ الْحَرَجِ فَقَالَ: ادْعُوا لِي رَجُلًا مِنْ هُذَيْلٍ، فَجَاءَهُ، فَقَالَ: مَا الْحَرَجُ فِيكُم؟ فَقَالَ: الحَرِجَةُ مِنَ الشَّجَرِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَخْرَجٌ. فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: هَذَا الْحَرَجُ: الَّذِي لَيْسَ لَهُ مَخْرَجٌ. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنَهِ، مِنْ طَرِيقِ عُبَيْدِ اللهِ بْنِ أَبي يَزِيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، سُئِلَ عَنِ الْحَرجِ فَقَالَ: هَهُنَا أَحَدٌ مِنْ هُذَيْلٍ؟ فَقَالَ رَجُلٌ: أَنَا. فَقَالَ: مَا تَعُدُّونَ الحَرِجَةَ فِيكُمْ قَالَ: الشَّيْءَ الضَّيِّقَ. قَالَ: هُوَ ذَاكَ. وَيَقَالُ: حَرِجَ فُلانٌ إِذَا قَلِقَ وَضَاقَ صَدْرُهُ.
وَأَخْرَجَ مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى الذُّهْلِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ ابْنِ شِهَابٍ، قَالَ: سَأَلَ عَبْدُ الْمَلِكِ بْنُ مَرْوَانَ عَليَّ بْنَ عَبْدِ اللهِ عَنْ هَذِهِ الْآيَةِ: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرجٍ"، فَقَالَ عَليُّ بْنُ عَبْدِ اللهِ: الْحَرَجُ الضِّيقُ، جَعَلَ اللهُ الْكَفَّارَاتِ مَخْرَجًا مِنْ ذَلِكَ. سَمِعْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يَقُولُ ذَلِكِ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُحَمَّدَ بْنِ زَيْدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: قَرَأَ أَميرُ المُؤمنينَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، هَذِهِ الْآيَةَ: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرجٍ"، ثُمَّ قَالَ: ادْعُوا لِي رَجُلًا مِنْ بَنِي مُدْلِجٍ. قَالَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مَا الْحَرجُ فِيكُم؟ قَالَ: الضِّيقُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: الْحَرَجُ: الضِّيقُ لَمْ يَجْعَلْهُ ضَيِّقًا، وَلَكِنَّهُ جَعَلَهُ وَاسِعًا، فقد أَحَلَّ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ {مَثْنَى وَثَلَاثَ وَرُبَاعَ}، وَ {مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} الآيةَ: 3، مِنْ سُورةِ النِّساءِ، وَ {حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ} الآيةَ: 173، منْ سُورةِ البَقَرَةِ.
وَالحَرَجُ: الإِثمُ أَيْضًا، والمَوْضِعُ الكثيرُ الشَّجَرِ الذي لا تَصِلُ إِلَيْهِ الرَّاعِيَةُ، وَبِهِ فَسَّرَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَوْلَهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ الأَنْعَامِ: {وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ} الآيَةَ: 125.
وَالحرجُ: الإِصْرُ، فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ محمَّدِ بْنِ إسحاقٍ أَنَّ أَبا هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ لِابْنِ عَبَّاس ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَمَا عَلَيْنَا فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ فِي أَنْ نَسْرِقَ أَوْ نَزْنِي؟ قَالَ: بَلَى. قَالَ: "وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرجٍ"، قَالَ: الإِصْرُ الَّذِي كَانَ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ وُضِعَ عَنْكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ حَيَّانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ في الدِّينِ مِنْ حَرجٍ" يَقُولُ: لَمْ يُضَيِّقِ الدِّينَ عَلَيْكُم، وَلَكِنْ جَعَلَهُ وَاسِعًا لِمَنْ دَخَلَهُ، وَذَلِكَ أَنَّهُ لَيْسَ مِمَّا فَرَضَ عَلَيْهِم فِيهِ إِلَّا سَاقَ إِلَيْهِم عِنْد الِاضْطِرَارِ رُخْصَةً وَالرُّخْصَةُ فِي الدُّنْيَا فِيهَا وِسْعٌ عَلَيْهِمْ رَحْمَةً مِنْهُ، إِذْ فَرَضَ عَلَيْهِمُ الصَّلَاةَ فِي الْمقامِ أَرْبَعَ رَكْعَاتٍ، وَجَعَلَهَا فِي السَّفَرِ رَكْعَتَيْنِ، وَعِنْدَ الْخَوْفِ مِنَ الْعَدُوِّ، رَكْعَةً، ثُمَّ جَعَلَ فِي وِجْهَةٍ رُخْصَةً أَنْ يُومِئَ إِيمَاءً إِن لَّمْ يَسْتَطِعِ السُّجُودَ فِي أَيِّ نَحْوٍ كَانَ وَجَهُهُ، وتَجَاوَزَ عَنِ السَّيِّئَاتِ مِنْهُ وَالْخَطَأِ، وَجَعَلَ فِي الْوُضُوءِ وَالْغِسْلِ رُخْصَةً إِذَا لَمْ يَجِدِ المَاءَ أَنْ يَتَيَمَّمُوا الصَّعِيدَ، وَجَعَلَ الصِّيَامَ عَلى الْمُقِيمِ وَاجِبًا، وَرَخَّصَ فِيهِ للْمَرِيضِ وَالْمُسَافِرِ عدَّةً مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ، فَمَنْ لَمْ يُطِقْ فَإِطْعَامُ مِسْكينَ مَكَانَ كُلِّ يَوْمٍ، وَجَعَلَ فِي الْحَجِّ رُخْصَةً إِن لَّمْ يَجِدْ زَادًا، أَوْ حُمْلانًا، أَوْ حُبِسَ دُونَهُ، وَجَعَلَ فِي الْجِهَادِ رُخْصَةً إِن لَّمْ يَجِدْ حُمْلانًا أَوْ نَفَقَةً، وَجَعَلَ عِنْدَ الْجُهْدِ وَالاضطِّرارِ مِنَ الْجُوعِ: أَنْ رَخَّصَ فِي الْميتَةِ وَالدَّم ِوَلَحْمِ الْخِنْزِيرِ قَدْرَ مَا يَرُدُّ نَفْسَهُ، لَا يَمُوتُ جُوعًا، وَفِي أَشْبَاهِ هَذَا فِي الْقُرْآنِ وَسَعَةِ اللهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ رُخْصَةً مِنْهُ سَاقهَا إِلَيْهِم.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: غَابَ عَنَّا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمًا فَلَمْ يَخْرُجْ حَتَّى ظَنَنَّا أَن لَّنْ يَخْرُجَ، فَلَمَّا خَرَجَ سَجَدَ سَجْدَةً فَظَنَنَّا أَنَّ نَفْسَهُ قَدْ قُبِضَتْ، فَلَمَّا رَفَعَ رَأْسَهُ قَالَ: إِنَّ رَبِّي ـ عَزَّ وَجَلَّ اسْتَشَارَني فِي أُمَّتِي، مَاذَا أَفْعَلُ بِهِمْ؟ فَقُلْتُ: مَا شِئْتَ، أَيْ رَبُّ، هُمْ خَلْقُكَ وَعِبادُكَ، فَاسْتَشَارَني الثَّانِيَةَ فَقُلْتُ: لَهُ كَذَلِكَ. فَقَالَ: لَا أُخْزيكَ فِي أُمَّتِكَ يَا مُحَمَّدُ، وَبَشَّرَني: إِنَّ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلِ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي مَعِي سَبْعُونَ أَلْفًا، مَعَ كُلِّ أَلْفٍ سَبْعُونَ أَلْفًا لَيْسَ عَلَيْهِم حِسَاب.
ثُمَّ أَرْسَلَ إِلَيَّ: اُدْعُ تُجَبْ، وَسَلْ تُعْطَ. فَقُلْتُ لِرَسُولِهِ: أَوَ مُعْطِيَّ رَبِّي سُؤْلِي؟. قَالَ: مَا أَرْسَلَنِي إِلَيْكَ إِلَّا لِيُعْطِيكَ. وَلَقَد أَعْطَانِي رَبِّي ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَلَا فَخْرُ، وَغَفَرَ لِي مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِي وَمَا تَأَخَّرَ، وَأَنَا أَمْشِي حَيَاءً، وَأَعْطَانِي أَن لَّا تَجُوعَ أُمَّتِي وَلَا تُغْلَبَ، وَأَعْطاني الْكَوْثَرَ فَهُوَ نَهْرٌ فِي الْجَنَّةِ يَسيلُ فِي حَوْضِي، وَأَعْطَانِي الْعِزَّ وَالنَّصْرَ وَالرُّعْبَ يَسْعَى بَيْنَ يَدَيْ أُمَّتِي شَهْرًا، وَأَعْطَانِي: أَنِّي أَوَّلُ الْأَنْبِيَاءِ أَدْخُلُ الْجَنَّةَ، وَطَيَّبَ لِي وَلِأُمَّتي الْغَنِيمَةَ، وَأَحَلَّ لَنَا كَثيرًا مِمَّا شَدَّدَ عَلَى مَنْ قَبْلنَا، وَلَمْ يَجْعَلْ عَلَيْنَا مِنْ حَرَجٍ، فَلَمْ أَجِدْ لِي شُكْرًا إِلَّا هَذِهِ السَّجْدَةَ.
وأخرجَ الشَّيخانِ في صحيحيهِما أَنَّهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، قَالَ لِمُعاذِ بْنِ جبلٍ، وَأَبي مُوسَى الأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، حِينَ بَعَثَهُمَا أَمِيرَيْنِ إِلَى اليَمَنِ: ((بَشِّرَا وَلَا تُنَفِّرَا، وَيَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا)) صحيح البخاري، برَقم: (3038)، وصحيحُ مُسْلم، برقم: (1732).
وأخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ وغيرُهُ مِنْ حَديثِ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قالَ: ((بُعِثْتُ بِالحَنِيفِيَّةِ السَّمْحَةِ)) المُسْنَدُ: (5/266). وَصَحِيحُ البُخارِيِّ بِرَقَمْ: (4341 ، 4342)، وَصَحيحُ مُسْلِمْ بِرَقم: (1733).
وَأَيْضًا فالحِرْجُ، والحَارِجُ الآثِمُ، وَالحَرَجُ والحَرِجُ وَالمُتَحَرِّجُ: الكافُّ عَنِ الإِثْمِ، المُقْلِعُ عَنْهُ، وَالمُتَحَرِّجُ: هوَ يُلْقِي الحَرَجَ عنْ نَفْسِهِ، كَ "مُتَأَثِّمٍ" وَ "مُتَحَوِّبٍ" وَ "مُتَحَنِّثٍ"، وهوَ مَنْ يلقي الإثمَ، أَوِ الحُوبَ، أَوِ الحِنْثَ عَنْ نَفْسِهِ.
قولُهُ: {مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ} الْمِلَّةُ: الشَّرِيعَةُ و الدِّينُ. كما قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفًا} الآيةَ: 123. وَقَالَ في الآيُةِ: 38، مِنْ سورةِ يوسُفَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي}.
وَفي قَوْلِهِ: "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ" زِيَادَةٌ فِي التَّنْوِيهِ بِهَذَا الدِّينِ، وَتَحْضِيضٌ عَلَى الْأَخْذِ بِهِ، لِمَا فيهِ مِنْ خُصوصِيَّةٍ بِأَنَّ هذا الدِّينَ قد جَاءَ بِهِ رَسُولَانِ كريمانِ هما إِبْرَاهِيمُ وَمُحَمَّدٌ ـ عليْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَهَذَا ما لَمْ يَكُنْ لِدِينٍ آخَرَ البتَّةَ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما رَوَاهُ أَبو داودَ الطَّيالِسِيُّ عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: ((أَنَا دَعْوَةُ أَبِي إِبْرَاهِيمَ)). يَعني قَوْلَهُ مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ: {رَبَّنا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ} الْآيةَ: 129، فَمَحْمَلُ الْكَلَامِ أَنَّ هَذَا الدِّينَ هوَ دِينُ إِبْرَاهِيمَ، أَيْ: أَنَّ الْإِسْلَامَ احْتَوَى عَلَى دِينِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ.
وَمَعْلُومٌ أَنَّ لِلْإِسْلَامِ أَحْكَامًا كَثِيرَةً فقدِ اشْتَمَلَ عَلَى مَا لَمْ يَشْتَمِلْ عَلَيْهِ غَيْرُهُ مِنَ الأَدْيانِ الْأُخْرَى بِمَا في ذَلِكَ دِينِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ، ولذلك فقد جُعِلَ كَأَنَّهُ مِلَّةُ إِبْرَاهِيمَ بِالذَّاتِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِلَّةَ أَبِيكمْ إِبْرَاهِيمَ"، قَالَ: دِينَ أَبِيكُمْ.
وَبِهَذَا الِاعْتِبَارِ يَكُونُ نَصْبُ "مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ" عَلَى الْحَالِ مِنَ الدِّينِ، لأَنَّ الْإِسْلَامَ حَوَى فيما حَوَى مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيهِ السَّلامُ.
ثُمَّ إِنْ كَانَ النَّسَبُ هُوَ المَقصود بِالْخِطَابِ بِـ "أَبِيكُمْ" وهوَ مُوَجَّهٌ إِلَى أَصْحابِ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، المُهَاجِرينَ مِنْ قُريشٍ بِاعْتِبَارِهم غَالِب الْأُمَّةِ حينَها، لِأَنَّ غَالِبَ الْأُمَّةِ يَوْمَئِذٍ مِنَ الْعَرَبِ الْمُضَرِيَّةِ، فَإِنَّ الْأَنْصَارُ ـ وَإِنْ كانُوا مِنَ الْعَرَبِ الْقَحْطَانِيِّينَ إلَا أَنَّ أَكْثَرَهُمْ كَانَ لَهُ صِلَةٌ بإِبْرَاهِيمَ مِنْ قِبَلِ أُمَّهَاتِهِمْ.
وَإِنْ كَانَ هذا الْخِطَابُ لِعُمُومِ الْمُسْلِمِينَ، كَانَتْ إِضَافَةُ أُبُوَّةِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَليْهِ السَّلامُ، لَهُمْ عَلَى مَعْنَى التَّشْبِيهِ فِي الْحُرْمَةِ وَاسْتِحْقَاقِ التَّعْظِيمِ كَما في قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سورةِ الأحزابِ: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} الْآيةَ: 6، وَلِأَنَّهُ أَبُو النَّبِيِّ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَسيَّدُنا مُحَمَّدٌ لَهُ مَقَامُ الْأُبُوَّةِ للْمُسْلِمِينَ. وَقَدْ قُرِئَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: {وَأَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ} بِزِيَادَةِ: وَهُوَ أَبُوهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: لَمْ يَذْكُرِ اللهُ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ غَيْرَ هَذِهِ الْأُمَّةِ، ذُكِرَتْ بِهِمَا جَمِيعًا، وَلَمْ يُسْمَعْ بِأُمَّةٍ ذُكِرَتْ بِالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ غَيْرُهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْخِطَابُ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، عَلَى طَرِيقَةِ التَّعْظِيمِ كَأَنَّهُ قَالَ: مِلَّةَ أَبِيكَ إِبْرَاهِيمَ.
قولُهُ: {هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ} الضَّمِيرُ هُنَا كَالضَمِيرِ في قولِهِ قَبَلَ ذلِكَ: "هُوَ اجْتَباكُمْ"، فَهُمَا عَائِدانِ عَلَى اسْمِ الجَلالَةِ وَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ ثَانٍ، وَالمَعْنَى: هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَخَصَّكُمْ بِهَذَا الِاسْمِ الْجَلِيلِ، فَلَمْ يُعْطِهِ غَيْرَكُمْ. وقدْ وَرَدَ هذا فيِ آثارَ كثيرةٍ مِنْهَا: مَا أَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ ـ مِنْ طُرَقٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قبْلُ"، قَالَ: اللهُ جَلَّ جلالُهُ، "سَمَّاكُم".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْن الْمُنْذر وَابْن أبي حَاتِم عَن مُجَاهِد ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنٌ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: الله.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَن سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ أَيْضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ"، قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَقدْ خالفَ ابْنْ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، غيْرَهُ مِنَ المُفَسِّرينَ فقالَ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ" قَالَ: إِبْرَاهِيمُ: أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ} الْآيَةَ: 128، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ. أَخْرِجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبِي حَاتِمٍ.
قولُهُ: {مِنْ قَبْلُ وفي هذا} الْإِشَارَةُ بِـ "هَذَا" إِلَى الْقُرْآنِ الكَريمِ، كَمَا هُوَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الْأَحْقَافِ: {ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ} الآيَةَ: 4.
وَقَدْ بُنِيَ "قَبْلُ" عَلَى الضَّمِّ إِشْعَارًا بِالْمُضَافِ إِلَيْهِ. وَالتَّقْدِيرُ: مِنْ قَبْلِ الْقُرْآنِ، وَالْقَرِينَةُ قَوْلُهُ: "وَفِي هَذَا"، أَيْ: وَفِي هَذَا الْقُرْآنِ. وَالِاسْمُ الَّذِي أُضِيفَ إِلَيْهِ "قَبْلُ" مَحْذُوفٌ، فَإِنَّهُ إِذَا بُنِيَ "قَبْلُ" عَلَى الضَّمِّ كَانَ ذلِكَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ إِلَيْهِ مَنَوِيٍّ بِمَعْنَاهُ دُونَ لَفْظِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ قَبْلُ" قَالَ الْكُتُبُ كُلُّهَا، وَفِي الذِّكْرِ. وَ "وَفِي هَذَا" قَالَ: الْقُرْآنَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله: "وَفِي هَذَا" أَيْ: فِي كِتَابِكُمْ.
وَأخرج أَبو داودَ الطَّيَالِسِيُّ وَأَحْمَدُ ـ والنَّصُّ لَهُ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وسعيدُ بْنُ منصورٍ، وَالنَّسَائِيُّ، وأَبو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ، وَابْنُ خُزَيْمَةَ، وَابْنُ حِبَّانَ، والبَاوَرْدِيُّ، وَابْنُ قَانِعٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإيمانِ عَن الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا ـ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، وَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ، وَتَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ، وَإِمَّا أَنْ أُبَلِّغَهُنَّ، فَقَالَ يَا أَخِي إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ، أَوْ يُخْسَفَ بِي. قَالَ فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ، فَقُعِدَ عَلَى الشُّرَفِ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ، أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ، أَوَّلُهُنَّ: أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ لَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ أَوْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي غَلَّتَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ، فَأَيُّكُمْ سَرَّهُ أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ؟ وَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، فَاعْبُدُوهُ، وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا، وَآمُرُكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا، وَآمُرُكُمْ بِالصِّيَامِ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ، كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ عِنْدَ اللهِ أَطْيَبُ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ، وَآمُرُكُمْ بِالصَّدَقَةِ فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ، فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ، وَقَدَّمُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ، فَقَالَ هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ، فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ، حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ، وَآمُرُكُمْ بِذِكْرِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنُ مَا يَكُونُ مِنْ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ: فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللهُ، أَمَرَنِي بِهِنَّ: بِالْجَمَاعَةِ، وَالسَّمْعِ وَالطَّاعَةِ، وَالْهِجْرَةِ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ، فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنْ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَةَ الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ، وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَاءِ جَهَنَّمَ، قَالُوا يَا رَسُولَ اللهِ وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى؟ قَالَ وَإِنْ صَامَ وَإِنْ صَلَّى وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِأَسْمَائِهِمْ، بِمَا سَمَّاهُمْ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدَ /ط/ دار الرِّسالَة: (28/406 ـ 407) ومُسْنَدُ أبي داودَ الطَّيَالِسِيِّ: (1161 ـ 1162)، وطبقاتُ ابْنِ سَعْدٍ: (4/359)، وجامعُ التِّرْمِذِيِّ: (2863 ـ 2864)، و "السُّننُ الكُبْرَى" للنَّسَائيِّ: (11349)، ومُسْنَدُ أَبي يَعْلَى: (1571)، وصحيحُ ابْنِ خُزَيْمَةَ: (1895)، وصحيحُ ابْنِ حِبَّانَ: (6233)، و "الشَّريعَةُ" للآجُري: (ص: ، والمُعْجَمُ الكبيرُ للطَّبرانيِّ: (3428)، وَ "الإيمانُ" لِابْنِ مَنْدَهْ: (212)، ومُستدْرَكُ الحَاكِمِ النَّيْسابورِيِّ بِمَوَافَقَةِ الذَّهَبيِّ: (1/421، 212)، و "الأَسْمَاءُ وَالصِّفاتُ" لِلْبَيْهَقِيِّ: (ص: 304). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْله: "مِنْ قَبْلُ" قَالَ: الْكُتُبُ كُلُّهَا، وَفِي الذِّكْرِ، و "وَفِي هَذَا" قَالَ: الْقُرْآن.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَفِي هَذَا" قَالَ: فِي التَّوْرَاة وَالْإِنْجِيل.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا" أَيْ فِي كِتَابِكُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ يَزِيدٍ الْأَنْصَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، قَالَ: تَسَمُّوا بِأَسْمَائِكُمُ الَّتِي سَمَّاكُمُ اللهُ بِهَا: بِالْحَنَيفِيَّةِ وَالْإِسْلَامِ وَالْإِيمَانِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَإِسْحَق بْنُ رَاهَوَيْهِ فِي مُسْنَدِهِ، عَن مَكْحُولٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: تَسَمَّى اللهُ باسْمَيْنِ سَمَّى بِهِمَا أُمَّتِي: هُوَ السَّلَامُ وَسَمَّى أُمَّتِي الْمُسْلِمِينَ، وَهُوَ الْمُؤْمِنُ وَسَمَّى أُمَّتِي الْمُؤْمِنِينَ. وَالله تَعَالَى أَعْلَمُ.
قوْلُهُ: {لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ} يَجُوزُ أَنْ تَكونَ اللّامُ في "لِيَكُونَ" مُتَعَلِّقَةً بِقَوْلِهِ: {ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، أَيْ: ارْكَعُوا واسْجُدوا لِيَكُونَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ـ عَلَيْهِ الصَّلَاة وَالسَّلَامُ، شَهِيدًا عَلَيْكُمْ. يُؤَيِّدُهُ مَا أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُم" قَالَ: بِأَعْمَالِكُمْ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ اللَّامُ مُتَعَلِّقةً بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنَ الْآيَةِ الَّتي قَبْلَها نَفْسِها: {اجْتَبَاكُمْ}. أَيْ: لِيَكُونَ رَسُولُنَا مُحَمَّدٌ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، شَهِيدًا عَلَى أُمَّتِهِ الْإِسْلَامِيَّةِ بِأَنَّهُ قَدْ بَلَّغَهَا الرِّسالةَ، وَأَنَّهَا قَدْ آمَنَتْ بِهِ وَبِرِسَالَتِهِ. فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَة ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُم"، أَنَّهُ قَدْ بَلَّغَكُمْ.
قولُهُ: {وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ} أَيْ: وَتَكُونُ الْأُمَّةُ الْإِسْلَامِيَّةُ شَاهِدَةً عَلَى النَّاسِ مِنَ الْأُمَمِ السَّابقةِ بِأَنَّ الأَنْبِيَاءَ والمُرْسَلِينَ الذينَ أَرْسَلَهُمُ اللهُ مِنْ قَبْلُ إِلَى تِلْكَ الأُمَمِ قدْ بلَّغَ كلٌّ منهم الرِّسالةَ التي كُلِّفَ بها إِلَى أُمَّتِهِ، وأَنَّهُم، حَرَّفُوا مِنْ بعْدِهِمْ وَغَيَّرُوا وبدَّلوا سِيَّما ما يَتَعَلَّقُ بالرَّسولِ محمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، مِنْ صِفاتِهِ ووجوبِ الإيمانِ بهِ حِينَ يُبعَثُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَتَكونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ" أَنَّ رُسَلَهُمْ قَدْ بَلَّغَتْهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سُفْيَان ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْله: "وتكونوا شُهَدَاء على النَّاس" قَالَ: عَلَى الْأُمَمِ بِأَنَّ الرُّسُلَ قَدْ بَلَّغَتْهُمِ.
قولُهُ: {فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ} وإِقامةُ الصَّلاةِ أَداؤُهَا في وَقْتِها وَعَلَى وَجْهِهَا التَّامِّ مِنْ طَهَارةٍ وَقِراءَةٍ وَرُكوعٍ وَسُجُودٍ وحضورٍ وَخُشُوعٍ بحَسَبِ ما بيَنَتْهُ الشَريعةُ الغَرَّاءُ. وَقَدْ سُمِّيتِ الصَّلاةُ بِهَذا الاسْمِ لأنَّها صلةٌ بَيْنَ العَبْدِ وربِّهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى.
قولُهُ: {وَآتُوا الزَّكَاةَ} كاملةً عَلَى تَمَامِهَا إِلَى مُسْتَحِقِّيهَا، وقدْ حدَّدتِ الشَّريعَةُ الإسلاميةُ نِصَابَهَا ومقاديرَها وهو مُبَيَّنٌ في كُتُبِ الفِقْهِ التي أَلَّفَهَا الفُقَهَاءُ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالَى، وقدْ سُمِّيتْ زَكَاةً لأَنَّها تُطَهِرُ النَّفسَ مِنْ الشُّحِّ والبُخلِ.
قولُهُ: {وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ} أَيْ: اجْعَلُوا اللهِ مَلْجَأَكُمْ وَمَنْجَاكُمْ. مِنْ: عَصَمَ يَعْصِمُ إذا اكتَسَبَ، وَمَنَعَ، وَوَقَى، وَالعِصْمَةُ: الحِفْظُ، والمنعُ. وَعَصَمَهُ الطعامُ: مَنَعَهُ مِنَ الجُوعَ. واعْتَصَمَ بالله، امْتَنَعَ بلُطْفِهِ مِنَ المَعْصِيَةِ ومِنْ كلِّ ضُرٍّ وَشَرٍّ. وعَصَمَ يَعْصِمُ عَصْمًا: اكْتَسَبَ. وقولُهُ تَعَالَى: {لَا عَاصِمَ اليَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} يَجُوزُ أَنْ يُرَادَ لَا مَعْصُومَ، أَيْ: لَا ذَا عِصْمَةٍ، فَيَكُونُ "فاعلٌ" بِمَعْنَى مَفْعُولٍ. والعُصْمَةُ القِلَادَةُ، وَالجْمَعُ الأَعْصَامُ. وَالمِعْصَمُ: مَوْضِعُ السِّوَارِ، مِنَ اليَدِ أَوِ اليَدُ، وَالأَعْصَمُ مِنَ الوُعُولِ والظِّبَاءِ: الَّذي فِي ذِرَاعَيْهِ بَيَاضٌ. والاسْمُ العُصْمَةُ. وَالوُعُولُ عُصْمٌ. وَعَنْزٌ عَصْماءُ. والعِصامُ: رِبَاطُ القِرْبَةِ وَسَيْرُهُا ووِكاؤُها الَّذي يُشَدُّ عَلَى فمها أَوْ تُحْمَلُ بِهِ. قالَ الشَّاعِرُ أَبو كَبيرٍ الهُذَلِيِّ:
وقِرْبَةِ أَقْوامٍ جَعَلْتُ عِصَامَهَا ............... عَلَى كَاهِلٍ مِنِّي ذَلُولٍ مُرَحَّلِ
وَأَعْصَمْتُ القِرْبَةَ: جَعَلْتُ لَهَا عِصَامًا. واعْتَصَمَ بِهِ وَاسْتَعْصَمَ. وأَعْصَمَ بِصَاحِبِهِ: لَزِمَهُ. والِاعْتِصَامُ: افْتِعَالٌ مِنَ الْعَصْمِ، وَهُوَ الْمَنْعُ مِنَ الضُّرِّ وَالنَّجَاةُ، قَالَ تَعَالَى: قالَ ابْنُ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ} قالَ: {لَا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللهِ} الآيةَ: 43، منْ سورةِ هود، وَقَالَ النَّابِغَةُ:
يَظَلُّ مِنْ خَوْفِهِ الْمَلَّاحُ مُعْتَصِمًا ........... بِالْخَيْزُرَانَةِ بَعْدَ الْأَيْنِ وَالنَّجَدِ
قولُهُ: {هُوَ مَوْلَاكُمْ} أَيْ: هُوَ رَبُّكمْ وَسَيِّدُكُمْ الَّذِي يَحْرُسُكُم ويَحْفَظُكمْ ويَحْمِيكمْ وَيُرَعَاكم، ويدَبِّرُ لَكُمْ أُمورَكم وَشُؤُونَكمْ، وَيَرْعَى مَصَالِحَكم، ويَتكَفَّلُ لَكُمْ بِحَاجَاتِكُمْ.
قولُهُ: {فَنِعْمَ الْمَوْلَى} يعلِّمُنا مَولانا أنْ نُثْني عليْهِ بما هوَ أَهْلُهُ بِأَنَّهُ أَحْسَنُ مَوْلًى وَأَحْسَنُ نَصِيرٍ لِعِبَادِهِ. أَيْ: فهو ـ سُبْحانهُ، نِعْمَ الْمَوْلَى لَكُمْ، ونِعْمَ الْمُدَبِّرُ لِشُؤُونِكُم.
قولُهُ: {وَنِعْمَ النَّصِيرُ} وَاللهُ ـ عَزَّ وجَلَّ، نِعْمَ النَّاصِرُ لَكُمْ النَّصِيرُ. وَنَصِيرٌ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ فِي النَّصْرِ. وَأَمَّا الْكَافِرُونَ والمُشْرِكونَ فَلَا يَتَوَلَّاهُمْ تَوَلِّي الْعِنَايَةِ وَلَا يَنْصُرُهُمْ.
وَالْآيَةُ أَمْرٌ بِالْجِهَادِ في سبيلِ اللهِ ـ تَعَالَى، وَلَعَلَّهَا أَوَّلُ آيَةٍ جَاءَتْ فِي الْأَمْرِ بِالْجِهَادِ لِأَنَّ بعضَ هَذِهِ السُّورَةِ مَكِّيٌّ، وَبَعْضَهَا الآخَرَ مَدَنِيٌّ وَلِأَنَّهُ تَقَدَّمَ آنِفًا في الآيةِ: 60، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى جَدُّهُ: {ذلِكَ وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ}، فَهَذَا الْآنَ أَمْرٌ بِالْأَخْذِ فِي وَسَائِلِ النَّصْرِ، وَقَدْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ قَبْلَ وَقْعَةِ بِدْرٍ لَا مَحَالَةَ.