وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ
(51)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} السَّعْيُ: الْمَشْيُ الشَّدِيدُ. وَالعدْوُ دونَ الشِّدَّةِ، مِنْ سَعَى يَسْعَى سَعْيًا. وَفِي الصحيحِ عَنْ أَبي هريرةَ، وأَبي قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، قالَ: ((إِذَا أَتَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَلَا تَأْتُوهَا وأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ، وَلكنِ ائْتُوهَا وَعَلَيكُمُ السَّكِينَةُ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فأَتِمُّوا)) مُسْنَدُ أَحْمَد: (5/306، برقم: 22982) وصحيحُ البُخاري: (1/163، برقم: 635) وصحيحُ مُسْلِمٍ: (2/100، برقم: 1304)، وَغيرُهم. وَ السَّعْيُ: القَصْدُ قال ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الجُمُعةِ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللهِ} الآيَةَ: 9، أيْ: فاقْصِدُوا. وَإِذَا كَانَ بِمَعْنَى المُضِيِّ عُدِّيَ بـ "إِلَى" فَتَقولُ: سَعَى الفَلَّاحُ إِلَى حَقْلِهِ، أَي: مَضَى إِليْهِ. فالسَّعْيُ والذَّهابُ بِمَعْنًى واحِدٍ، وَإِذَا كاَن بِمَعْنَى العَمَلِ عُدِّيَ باللَّامِ فَقُلْتَ: سَعَى لِيُعيلَ نَفْسَهُ وأَهْلَهُ، وَقالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ أَصْلُ السَّعْيِ في كَلَامِ العَرَبِ التَّصَرُّف في كُلِّ عَمَلٍ، وَمِنْهُ قولُهُ تَعَالَى: {وأَنْ لَيْسَ لِلْإنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى} الآيةَ: 39، مِنْ سورةِ النَّجْمِ، أَيْ: ليسَ لَهُ إِلَّا مَا عَمِلَ، وقولُهُ مِنْ سورةِ طه: {لِتُجْزَى كلُّ نَفْسٍ بما تَسْعَى} الآيةَ: 15، أَيْ: بمان تعملُ. وَالسَّعْيُ: الكَسْبُ، وَكُلُّ عَمَلٍ مِنْ خَيْرٍ أَوْ شَرٍّ سَعْيٌ، وسَعَى لرجُلُ لِعِيالِهِ، وَعَلَيْهِمْ عَمِلَ لَهُمْ وَكَسَبَ. وأَسْعَى غيْرَهُ جَعَلَه يَسْعَى. ويَكونُ السَّعْيُ في الصَّلاحِ، وَيَكونُ فِي الفَسَادِ أَيْضًا، قالَ ـ تعالى، مِنْ سُورةِ المائدةِ: {إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ} الآية: 33، وَالعَرَبُ تُسَمِّي العَاملينَ على حَقْنِ الدِّماءِ وإطْفاءِ الفتَنِ وإصلاحِ ذاتِ البيْنِ "سُعَاةً" ومِنْهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أبي سُلمى:
سَعَى ساعِيَا غَيظِ بنِ مُرَّةَ بَعْدَمَا ............ تَبَزَّلَ مَا بَيْنَ العَشيرَةِ بالدَّمِ
أَيْ: سَعَيَا فِي الصُّلْحِ، وَتُسَمِّي مآثِرُ أَهْلِ الشَّرَفِ والخيرِ وَالفَضْلِ "مَساعِيَ" وَاحدتُها "مَسْعاةٌ" لِسَعْيِهِم فيها كأَنَّها مَكاسِبُهُمْ، وأَعمالُهُمُ وَسَعَى بِهِ سِعَايَةً: وَشَى بِهِ إِلى سُلْطانِهِ لِيُؤْذِيَهُ.
وَالْكَلَامُ تَمْثِيلٌ، شُبِّهَتْ بِهِ هَيْئَةُ تَفَنُّنِهِمْ فِي التَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ الكَريمِ وَتَطَلُّبِ الْمَعَاذِيرِ، لِنَقْضِ دَلَائِلِهِ، وَهوَ مِنْ قَوْلِهِمْ: هُوَ سِحْرٌ، هُوَ شِعْرٌ، هُوَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ، هُوَ قَوْلُ مَجْنُونٍ، .. إلخ. وَتَعَرُّضُهِمْ بِالْمُجَادَلَاتِ وَالْمُنَاقَضَاتِ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَيْئَةِ السَّاعِي فِي طَرِيقٍ يُسَابِقُ فيهِ غَيْرَهُ لِيَفُوزَ بِالْوُصُولِ.
وَالْمُعَاجِزُ: مِنَ العَجْزِ وهوَ نَقيضُ الحَزْمِ، وَعَجَزَ عَنِ الأَمْرِ يَعْجِزُ، وعَجِزَ عَجْزًا، وَرَجُلٌ عَجِزٌ وعَجُزٌ: عاجِزٌ، وامْرَأَةٌ عَاجِزٌ عَاجِزَةٌ. وَعَجَّزَ رَأْيَ خَصْمِهِ نَسَبَهُ إِلَى العَجْزِ الذي هُوَ خِلَافُ الحَزْمِ. وَالمَعْجِزَةُ وَالمَعْجَزَة العَجْزُ، وَهُوَ المَعْجِزُ وَالْمَعْجَزُ مَصْدَرٌ، وَالعَجْزُ: الضَّعْفُ، وَعَجَزْتُ عَنْ كَذَا أَعْجِزُ، قالَ أَميرُ المُؤْمِنينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: وَلَا تُلِثُّوا بِدَارِ مَعْجِزَةٍ، أَيْ: لَا تُقِيمُوا بِبَلْدَةٍ تَعْجِزُونَ فِيهَا عَنِ الاكْتِسَاب. وفي مُسْنَدِ الإمامِ أَحْمَدٍ، عَنْ طَاوُسٍ الْيَمَانِيِّ قَالَ: أَدْرَكْتُ نَاسًا مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُونَ: كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، قَالَ: وَسَمِعْتُ عَبْدَ اللهِ بْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ شَيْءٍ بِقَدَرٍ، حَتَّى الْعَجْزُ وَالْكَيْسُ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: مَالِكُ في "المُوَطَّأِ" (2619، وأَحْمَدُ المُسْنَدِه: (2/110، برقم: 5893)، وَالبُخَارِيُّ في (خَلْق أَفْعالِ العِبَادِ): (17)، وَمُسْلِم في صَحيحِهِ: (4/2045، بِرقم: 2655)، وَغَيْرُهم. وَقِيلَ أَرَادَ بِالْعَجْزِ تَرْكُ مَا يُحَبُّ فِعْلُهُ بِالتَّسْويفِ، وَهُوَ عَامٌّ في أُمورِ الدُّنْيَا وَالدِّينِ.
وَفيما أَخْرجَ مُسلمٌ وغيرُهُ مِنْ حديثِ أبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((تَحَاجَّتْ الْجَنَّةُ وَالنَّارُ فَقَالَتْ النَّارُ: أُوثِرْتُ بِالْمُتَكَبِّرِينَ وَالْمُتَجَبِّرِينَ، وَقَالَتْ الْجَنَّةُ: فَمَا لِي لَا يَدْخُلُنِي إِلَّا ضُعَفَاءُ النَّاسِ، سَفَلَتُهُمْ وَغِرَّتُهُمْ (وفي رِوايةٍ: وَعَجَزُهُمْ)، فَقَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، لِلْجَنَّةِ: إِنَّمَا أَنْتِ رَحْمَةٌ أَرْحَمُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي. وَقَالَ لِلنَّارِ: إِنَّمَا أَنْتِ عَذَابِي، أُعَذِّبُ بِكِ مَنْ أَشَاءُ مِنْ عِبَادِي، وَلِكُلِّ وَاحِدةٍ مِنْكُمَا مِلْؤُهَا. فَأَمَّا النَّارُ فَلَا تَمْتَلِئُ حَتَّى يَضَعَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، رِجْلَهُ فَتَقُولُ: قَطْ، قَطْ، قَطْ، أَيْ: حَسْبِي، فَهُنَالِكَ تَمْتَلِئُ، وَيُزْوَى بَعْضُهَا إِلَى بَعْضٍ، وَلَا يَظْلِمُ اللهُ مِنْ خَلْقِهِ أَحَدًا، وَأَمَّا الْجَنَّةُ فَإِنَّ اللهَ يُنْشِئُ لَهَا خَلْقًا)). أَخْرَجَهُ أَحْمَد: (2/314، رقم: 8149)، والبُخَارِي: (4/1836، رَقم: 4569)، وَمُسْلِم: (4/2187، رقم: 2846)، وأَخْرجَهُ أَيْضًا: النَّسَائيُّ في "الكُبْرَى": (4/414، رقم: 7740)، وَابْنُ حِبَّانَ: (16/482، رقم: 7447)، والطَبرانيُ في مُسْندِ الشَّاميينَ. وَ "عَجَز" جَمْعُ "عَاجِزٍ" مِثْلُ "خَدَم" و "خادِمٍ". والعَجِيزُ الَّذي لَا يستطيعُ أَنْ يَأْتي النِّساءَ، وأَعْجَزَه الشيءُ عَجَزَ عَنْهُ والتَّعْجِيزُ: التَّثْبِيطُ. وعَجَّزَ الرَّجُلُ، وَعَاجَزَ، ذَهَبَ فَلَمْ يُوصَلْ إِلَيْهِ.
والمُعْجِزَةُ وَاحِدَةُ مُعْجِزاتِ الأَنْبِياءِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وأَعْجازُ الأُمُورِ أَوَاخِرُها، وَعَجْزُ الشَّيْءِ، وَعِجْزُهُ، وعُجْزُهُ، وعَجُزُهُ، وَعَجِزُهُ: آخِرُهُ، وَيُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ. قَالَ الشاعرُ المُخَضْرمُ أَبُو خَرَاشٍ الهُذَلِيُّ، خُوَيْلِدُ بْنُ مُرَّةَ، مِنْ بَنِي قِرْدِ بْنِ عَمْرٍو. يَصِفُ عُقَابًا، وَقَدْ كَانَ أَبو خَرَاشٍ مِمَّنْ يَعُدُو عَلَى قَدَمَيْهِ فَيَسْبِقُ الخَيْلَ، كَمَا كَانَ مِنْ فُتَّاكِ العَرَبِ في الجَاهِلِيَّةِ، ثُمَّ أَسْلَمَ:
بَهِيمًا غَيْرَ أَنَّ العَجْزَ مِنْهَا ...................... تَخالُ سَرَاتَهُ لَبَنًا حَلِيبا
وَالعَجُزُ هُوَ مَا بَعْدَ الظَّهْرِ، ويُجْمَعُ عَلى أَعْجَازٍ. وَعَجُزُ بَيْتِ الشِّعْرِ خَلَافُ صَدْرِهِ. وَأَيامُ العَجُوزِ خَمْسَةٌ عِنْدَ العربِ، وَقيلَ سَبْعَةٌ. وعَجِزَتِ المَرْأَةُ تَعْجَزُ عَجَزًا، وَعُجْزًا بِالضَّمِّ عَظُمَتْ عَجِيزَتُها، والجَمْعُ عَجِيزاتٌ، قَالَ جَميلُ بْنُ مُعَمَّرٍ:
هَيْفاءُ مُقْبِلَةً عَجْزاءُ مُدْبِرَةً ............. تَمَّتْ فَلَيْسَ يُرَى فِي خَلْقِها أَوَدُ
وَالْبَيْتُ مِنْ قَصِيدَةٍ لَهُ يَتَغَزَّلُ فِيهَا بِبُثَيْنَةَ، وَمِنْهَا مَطْلِعُها:
حَلَّتْ بُثَيْنَةُ مِنْ قَلْبي بِمَنْزِلَةٍ ............ بَيْنَ الجَوَانِحِ لَمْ يَنْزِلْ بِهَا أَحَدُ
وَمِنْهَا:
صَادَتْ فُؤَادِي بِعَيْنِيْهَا وَمُبْتَسِمٍ ................. كَأَنَّهُ حِينَ أَبْدَتْهُ لَنَا بَرَدُ
عَذْبٍ كَأَنَّ ذَكِيَّ المِسْكِ خَالَطَهُ ......... والزَّنْجَبيلُ وَمَاءُ المُزْنِ وَالشُّهُدُ
وَجِيدِ أَدْمَاءَ تَحْنُوهُ إِلَى رَشَأٍ ................... أَغَنَّ لَمْ يَتَّبِعْهَا مِثْلَهُ وَلَدُ
هَيْفَاءُ مُقْبِلَةً عَجْزَاءُ مُدْبِرَةً ............. تَمَّتْ فَلَيْسَ يُرَى فِي خَلْقِهَا أَوَدُ
نِعْمَ لِحَافُ الفَتَى المَقْرُورِ يَجْعَلُهَا ..... شِعَارَهُ حِينَ يُخْشَى القَرُّ وَالصَّرَدُ
يا لَيْتَنَا ـ وَالمُنَى لَيْسَتْ مُقَرِّبَةً ........... أَنَّا لَقِينَاكِ وَالأَحْرَاسُ قَدْ رَقَدُوا
فَيَسْتَفيقَ مُحِبٌّ قَدْ أَضَرَّ بِهِ ............ شَوْقٌ إِلَيْكَ وَيَشْفَى قَلْبُهُ الكَمِدُ
تِلْكُمْ بُثَيْنَةُ قَدْ شَفَّتْ مَوَدَّتُها ......... قَلْبي فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا الرُّوحُ وَالْجَسَدُ
وعَاذِلونَ لَحَوْني فِي مَوَدَّتِهَا ............ يَا لَيْتَهُمْ وَجَدُوا مِثْلَ الَّذي أَجِدُ
لَمَّا أَطَالوا عِتَابي فِيكِ قُلْتُ لَهُمْ .. لَا تُفْرِطُوا، بَعْضَ هَذَا اللَّوْمِ وَاقْتَصِدُوا
قَدْ مَاتَ قَبْلِي أَخُو هِنْدٍ وَصَاحِبُهُ ...... مُرَقِّشٌ وَاشْتَفَى مِنْ عُرْوَةَ الْكَمَدُ
وكُلُّهمْ كانَ مِنْ عِشْقٍ مَنِيَّتُهُ ......... وَقَدْ وَجَدْتُ بِهَا فَوَقَ الَّذي وَجَدُوا
إِنِّي لَأَرْهَبُ أَوْ قَدْ كِدْتُ أَعْلَمُهُ .. أَنْ سَوْفَ تُورِديني الحَوْضَ الَّذي وَرَدُوا
وَعَجُزُ الرَّجُلِ مُؤَخَّرُهُ، والجَمْعُ أَعْجازٌ، وَتَصْلُحُ هذِهِ الصِّيغَةُ لِلرَّجُلِ وَالْمَرْأَةِ، وأَمَا العَجِيزَةُ فَهِيَ للْمَرْأَةِ خَاصَّةً. وَالعَجُوزُ، وَالعَجُوزَةُ مِنَ النِّساءِ: الشَّيْخَةُ الهَرِمَةُ، والجَمْعُ عُجُزٌ، وعُجْزٌ، وَعَجَائِزٌ، وَقَدْ عَجَزَتْ تَعْجُزُ عَجْزًا، وَعُجُوزًا، وَعَجَّزَتْ، تُعَجِّزُ تَعْجِيزًا أيْ: صَارَتْ عَجُوزًا، وَهِيَ مُعَجِّزٌ وَيقالُ للخَمْرِ إِذَا عَتَقَتْ: عَجُوزٌ.
والمُعاجِزُ: الْمُسَابِقُ الطَّالِبُ عَجْزَ مُسَايِرِهِ عَنِ الْوُصُولِ إِلَى غَايَتِهِ وَعَنِ اللِّحَاقِ بِهِ، فَصِيغَ لَهُ الْمُفَاعَلَةُ لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ يَطْلُبُ عَجْزَ الْآخَرِ عَنْ لِحَاقِهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ بِعَمَلِهِمْ يُغَالِبُونَ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ أَنْ يَغْلِبُوا اللهَ وَقَدْ ظَنُّوا أَنَّهُمْ نَالُوا مُرَادَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَمْ يَعْلَمُوا مَا لَهُمْ مِنْ سُوءِ الْعَاقِبَةِ. وَقَوْلُهُ تَعَالى: مِنْ سُورَةِ سَبَأ: {والذينَ سَعَوْا في آياتِنَا مُعَاجِزِينَ}: قَالَ الزَّجَّاجُ مَعْنَاهُ ظَانِّينَ أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَنَا لِأَنَّهُمْ ظَنُّوا أَنَّهم لَا يُبْعَثُونَ. وقيلَ: "مُعَاجِزينَ" أَيْ: مُعانِدينَ. وَقُرِءِ: "مُعَجِّزين" أَيْ: يُعَجِّزُونَ مَنِ اتَّبَعَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيُثَبِّطُونَهُمْ عَنْهُ وَعَنِ الإِيمانِ بِالآياتِ. والإِعْجازِ: الفَوْتُ والسَّبْقُ، وَأَعْجَزَني: فَاتَني، وَمِنْهُ قَوْلُ الشاعرِ الأَعْشَى التَمِيميِّ:
فَذَاكَ وَلَمْ يُعْجِزْ مِنَ المَوْتِ رَبَّهُ ............ وَلَكِنْ أَتَاهُ المَوْتُ لَا يَتَأَبَّقُ
وَقِيلَ: "مُعَاجِزِينَ" أَيْ: يُعاجِزُونَ الأَنْبِيَاءَ، فَيُقاتِلونَهُمْ وَيُمانِعُونِهُمْ لِيُصَيِّرُوهم إِلى العَجْزِ عَنْ تَبْلِيغِ رِسالاتِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزينَ" قَالَ: مُبْطِّئينَ، يُبَطِّئُونَ النَّاسَ عَنِ اتِّبَاعِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَالَّذينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزينَ" قَالَ: كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللهِ، وَظَنُّوا أَنَّهُمْ يُعْجِزُونَ اللهَ، وَلَنْ يُعْجِزُوهُ.
وَأَخْرَجَ بْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: أَنَّهُ كَانَ يَعْجَبُ مِنَ الَّذينَ يَقْرَؤُونَ هَذِه الْآيَةَ: "وَالَّذينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزينَ"، قَالَ: لَيْسَ مُعَاجِزينَ مِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ، إِنَّمَا هِيَ: "مُعْجِزينَ" يَعْنِي مُثَبِّطِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُ "وَالَّذينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعْجِزينَ" يَعْنِي: مُثَبَّطِين.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "مُعَاجِزينَ"، قَالَ: مُرَاغِمِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، أَنَّهُ قَرَأَ "مُعَاجِزينَ" فِي كل الْقُرْآن يَعْنِي بِأَلِفٍ وَقَالَ: مُشَاقِّينَ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} وهؤلاءِ المُكِّذِّبِينَ المُعَاجِزينَ الذينَ يحاولونَ الوقوفَ في طريقِ انْتشارِ دَعْوَةِ التوحيدِ ويحاربونَ دينَ اللهِ ـ تَعَالَى، ويَسْعَوْنِ للقضاءِ على الإسلامُ، همْ أصحابُ نار الجَحِيمِ، الذينَ أعدَّتْ لهم ولأَمْثالِهِم.
و "الجَحِيمُ": مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ. وَهِيَ النَّارٍ العَظِيمَةٍ فِي الهُوَّةِ العميقَةِ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ الصَّافَّاتُ: {قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيانًا فَأَلْقُوهُ فِي الجَحِيمِ} الآيةَ: 97، والجاحِمُ في اللُّغَةِ العَربيَّةِ: المَكَانُ الشَّديدُ الحَرِّ. قالَ الأَعْشَى التَّمِيميِّ:
يُعِدُّونَ للْهَيْجَاءِ قَبْلَ لِقَائِهَا ........ غَدَاةَ احْتِضَارِ البَأْسِ والموتُ جاحِمُ
وَإِنَّمَا سُمِّيَتِ النَّارُ جَحِيمًا، لِكَثْرَ وَقُودِهاَ، مِنْ قَوْلِهِم: جَحَمَتِ النَّارُ، وأَجْحَمْتُهَا: إِذَا أَكْثَرَ وَقُودَها. ومِنْهَ قَوْلُ عِمْرانَ بِنِ حِطَّانَ:
يَرَى طَاعَةَ اللهِ الهُدَى، وَخِلَافَهُ ..... الضَّلَالَةَ يَصْلَى أَهْلُهَا جَاحِمَ الجَمْرِ
وقال حيَّانُ بْنُ قَيْسٍ:
تَطَاوَلَ لَيْلِي بِالغَطاطِ إِلَى الغَمْرِ ...... وَباتَ فِرَاشِي مُشْعِرًا جَاحِمَ الجَمْرِ
والجَحْمَةُ: العَيْنُ بِلُغَةِ حِمْيَرَ. وَجَحَمَ الرَّجُلُ: فَتَحَ عَيْنِيْهِ كَالشَّاخِصِ، والمَرْأَةُ جَحْماءُ. وَالعَيْنُ جَاحِمَةٌ. وَجَحَّمَنِي بِعَيْنَيْهِ تَجْحِيمًا: أَحَدَّ إليَّ النَّظَرَ. والأَجْحَمُ: الشَّديدُ حُمْرَةِ العَيْنِ مَعَ سَعَةٍ فيها؛ وَقَالُوا: جَحْمَتَا الْأَسَدِ: عَيْنَاهُ فِي كُلِّ لُّغَاتِ العَرَبِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الْعَيْنَيْنِ سِرَاجَانِ مُتَوَقِّدَانِ. قَالَ عَرَّامُ بْنُ المُنْذِرِ الطَّائِيُّ يَرْثِي امرَأَةً أَكَلَها الذِّئْبُ:
أَيَا جَحْمَتِي بَكِّى عَلَى أُمِّ وَاهِبِ ......... أَكِيلَةِ قِلَّوْبٍ بإِحْدَى المَذَانِبِ
قولُهُ تَعَالى: {وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ} الواوُ: عاطِفَةٌ، "الذينَ" اسمٌ مَوصولٌ مبنيٌّ على الفتحِ في محَلِّ الرَّفْعِ بالابتداءِ مُبْتدَأٌ أَوَّلُ. و "سَعَوْا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ المقدَّرِ عَلَى الواوِ المَحْذوفَةِ لِتَوَالِي الأَمثْالِ، وَذَلِكَ لِاتِّصالِهِ بِوَاوِ الجَمَاعةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. وَ "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَعَوْا". و "مُعَاجِزِينَ" مَنْصُوبٌ عَلى الحَالِ مِنْ ضَمِيرِ الفَاعِلِ في "سَعَوْا"، وَعَلَامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جمعُ المُذكَّرِ السَّالمُ. وَالجُمْلةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" فلَيسَ لَها مَحَلَّ مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} أُولَئِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى الكَسْرِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، مُبْتَدَأٌ ثانٍ، والكافُ للخطابِ. وَ "أَصْحَابُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وهوَ مُضافٌ. وَ "الْجَحِيمِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثّاني وَخَبَرِهِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُ الأَوَّلِ، وَجُمْلَةُ المُبْتَدَأِ الأَوَّلِ مَعَ خَبَرِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا} عَلَى كَوْنِهَا مَقُولًا لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ.
قَرَأَ الجُمْهُورُ: {مُعَاجِزِينَ} بِأَلِفٍ بَعْدَ الْعَيْنِ. والمَعْنَى: ظانِّينَ أَنَّهُمْ يَعْجِزونَنا. وَقِيلَ: مُعَانِدِينَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: عاجَزَهُ: سابَقَهُ؛ لِأَنَّ كُلَّ واحِدٍ مِنْهُمَا يجِدُّ في طَلَب إِعْجَازِ الآخَرِ عَنِ اللِّحاقِ بِهِ. فإِذَا سَبَقَهُ قيلَ: أَعْجَزَهُ وعَجَزَهُ. إذًا، فَالمَعْنَى: سابِقِينَ أَوْ مُسَابِقِين في زَعْمِهِمْ وَتَقْديرِهمْ، طامِعِينَ أَنَّ كَيْدَهُمْ للإِسْلامِ يَتِمُّ لَهُمْ. وَالمَعْنَى: سَعَوا بِالفَسَادِ في مَعْنَاهَا. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: إِنَّ مَعَاجِزينَ فِي مَعْنَى المُشَدَّدِ، مِثْلَ عَاهَدَ وعَهَّدَ. وَقِيلَ: عَاجَزَ سابَقَ، وَعَجَزَ: سَبَق.
وَقَرَأَ أَبُو عَمْرٍو بْنُ العلاءِ، وَابْنُ كَثِيرٍ "مُعَجِّزِينَ" هُنَا، وفي حَرْفَيْ سَبَأٍ، بِفَتْحِ الْعَيْنِ وَتَشْديدِ الْجِيمِ، لِلتَّكْثيرِ. وَالمَعنى: مُثَبِّطِيْنَ النَّاسَ عَنِ الإِيمانِ. أَوْ: مُحَاوِلِينَ إِعْجَازَ اللهِ تَعَالَى وَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ. وَقَالَ أَبُو عَلِيٍّ الفارِسِيُّ: مَعْنَاهُ: نَاسِبِينَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وَسلَّمَ، إِلَى العَجْزِ نَحْوَ قولِكَ: فَسَّقْتُ فلانًا إِذَا نَسَبْتَهُ إِلَى الفِسْقِ.
وَقَرَأَ الجَحْدَرِيُّ فِي جَمِيعِ القُرْآنِ كَقِراءَةِ أَبي عَمْرٍو وَابْنِ كَثيرٍ. وقرَأَ ابْنُ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما: "مُعْجِزين" بِسُكونِ العَيْنِ.