يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ
(5)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا: يُريدُ أَهْلَ مَكَّةَ. انْظُرْ (تَنْويرَ المِقْبَاسِ مِنْ تَفْسيرِ ابْنِ عَبَّاسٍ) ص: 206. وَقَدْ ذَكَرْنَا غَيْرَ مَرَّةٍ أَنَّهُ ِإِذَا جاءَ النِّداءُ الإِلَهِيُّ بِـ "يَا أَيُّهَا النَّاسُ" فَإِنَّ المَوْضُوعَ الآتي بَعْدَهُ سَيَكُونُ في أُمورِ العَقِيدَةِ والإيمانِ بِاللهِ ـ تَعَالَى، وَالدَّعْوةِ إِلى تَوْحِيدِهِ تَعَالى والإيمانِ بِما جاءَ مِنْ عِنْدِهِ. أَمَّا إِذَا كانَ المُنادى هُمُ المُؤمنونَ فَسَوفَ يَتْبَعُهُ أَمرٌ بِتَكْليفٍ، أَوْ عِبَادَةٍ، أَوْ طاعَةٍ، وَهَذا ما نَصَّ عَلَيْهِ المُفَسِّرونَ، وَرَأَيْنَاهُ وَاقعًا فيما مَضَى مِنْ كِتَابِ رَبِّ العالَمِينَ، وَآيِ الذِّكْر الحَكِيم.
فإنَّهُ بَعْدَ أَنْ أَنْذَرَهُمْ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَها بِزَلْزَلَةِ السَّاعَةِ، وَذَكَرَ أَنَّ مِنْهُمْ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، أَعَادَ الخِطَابَ هُنَا بِـ "يا أَيُّها النَّاسِ" لِلْبُرْهانِ عَلَى إِمْكَانِ الْبَعْثِ وَتَنْظِيرِهِ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ. وَهُوَ الْخَلْقُ الْأَوَّلُ للإنْسانِ. كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (ق): {أَفَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ} الآيةَ: 15. فَالَّذِي خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَدَمٍ وَجَبلَهُ مِنْ تُرَابٍ ومَاءٍ، ثُمَّ خَلَّقَهُ أَطْوَارًا عَجِيبَةً، ونَقَّلَهُ مِنْ خَلْقٍ إِلَى خلقٍ فِي جِسْمِهِ وَعَقْلِهِ وَإِدْرَاكِهِ، حَتَّى تَوَفَّاهُ، هوَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ خَلْقِهِ مِنْ بَعْدَ فَنَائِهِ، وتَلَاشِيهِ.
و "النَّاسُ": مِنَ النَّوْسِ، وهوَ التَّذَبْذُبُ الاضْطِرابُ، وقدْ يكونَ الناسُ مِنَ الإنْسِ ومِنَ الجنِّ وأَصْلُهُ "أُناسٌ" ثُمَّ خُفِّفَ فَقِيلَ "نَاسُ" قالَ الشَّاعِرُ عَبَيْدُ بْنُ الأَبْرَصِ الأَسَدِيُّ، أَوْ ذُو جَدَن الحِمْيَريُّ:
إِنَّ المَنايَا يَطَّلِعْـــ ............................. ـــن على الأُناسِ الآمِنِينا
فيَدَعْنَهم شَتَّى وَقَدْ ............................... كانُوا جَمِيعًا وَافِرِينَا
ثُمَّ أَضِيفَ إِلَيهِ عِوَضًا عَنْهَا أَلِفٌ وَلَامٌ فَصارَ "النَّاسُ". وَهِيَ لُغَةٌ في النَّاسِ. وَهُوَ الأَصْلُ مُشْتَقٌّ مِنْ الأُنْسِ الَّذي هُوَ الرُّؤْيَةُ، فَآنَسْتُ الشَّيْءَ: رَأَيْتُهُ، قالَ تَعَالَى حِكَايةً لِخِطابِ نَبِيِّهِ مُوْسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، لِأَهْلِهِ: {وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى * إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى} الآيتانِ: (9 ـ 11)، مِنْ سورةِ طَهَ. فَكَأَنَّهُمْ سُمُّوا بِذَلِكَ لِظُهُورِهِمْ، أَوْ مِنْ آنَسْتُ، أَيْ: عَلِمْتُ، سُمُّوا بِذَلِكَ لِعِلْمِهِمْ، فإِنَّ قولَ موسَى "آنَسْتُ" يَحْتَمِلُ َأنْ يكونَ معناهُ: "رأَيْتُ"، ويَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ معناه: عَلِمْتُ، والأَوَّلُ أَرْجَحُ، لِأَنَّ عِلْمَهُ بوَجودِ النَّارِ مَبْنِيٌّ عَلى رُؤْيتِها، أَيْضًا.
وقيلَ هَوَ مِنَ النِّسْيانِ لِقَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما: سُمِّيَ إِنْسَانًا لِأَنَّهُ عُهِدَ إِلَيْهِ فَنَسِيَ. كما قالَ تَعَالى في الآيةِ: 115، مِنْ سُورَةِ طَهَ: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ولمْ نجِدْ لَهُ عزمًا}، وَقال الشاعر أَبو تمَّامٍ الطائيُّ:
لَا تَنْسَيَنْ تِلْكَ الْعُهُودَ فَإِنَّمَا ................ سُمِّيتَ إِنْسَانًا لِأَنَّكَ نَاسِي
وهوَ مِنْ قصيدةٍ لَهُ مَدَحَ فِيهَا أَحْمَدَ بْنَ المُعْتَصِمِ بِحَضْرَةِ الفَيْلَسُوفِ الكِنْدِيَّ جَاءَ فيهَا:
بِكْرٌ إِذَا ابْتَسَمَتْ أَرَاكَ وَمِيضُهَا ............... نَوْرَ الأَقَاحِ بِرَمْلَةٍ مِيعاسِ
وَإِذَا مَشَتْ تَرَكَتْ بِصَدْرِكَ ضِعْفَ مَا ........ بِحُلِيِّهَا مِنْ كَثْرَةِ الوَسْوَاسِ
قَالَتْ وَقَدْ حُمَّ الفِرَاقُ فَكَأْسُهُ ......... قَدْ خُولِطَ السَاقي بِهَا والحَاسِي
لَا تَنْسَيَنْ تِلْكَ العُهُودَ فإِنَّما ................ سُمِّيِتَ إِنْسانًا لِأَنَّكَ نَاسِي
هَدَأَتْ عَلَى تَأْمِيلِ أَحْمَدَ هِمَّتِي ............. وَأَطَافَ تَقْلِيدِي بِهِ وَقِياسِي
نَوْرُ العَرَارَةِ نَوْرُهُ، وَنَسيمُهُ ............. نَشْرُ الخُزَامَى فِي اخْضِرَارِ الآسِ
إِقْدامُ عَمْرٍو فِي سَمَاحَةِ حاتِمٍ .......... فِي حِلْمِ أَحْنَفَ فِي ذَكَاءِ إِيَاسِ
فَقَالَ لَهُ الكِنْدِيُّ: مَا صَنَعْتَ شَيْئًا، شَبَّهْتَ ابْنَ أَمِيرِ المُؤْمِنِينَ وَوَلِيَّ عَهْدِ المُسْلِمِينَ بِصَعَالِيكِ العَرَبِ! وَمَنْ هَؤُلَاءِ الذينَ ذَكَرْتَ؟ وَمَا قَدْرُهُمْ؟ فَأَطْرَقَ أَبُو تَمَّام يَسيرًا، وَقَالَ:
لَاَ تُنْكِرُوا ضَرْبي لَهُ مَنْ دُونَهُ ............ مَثَلًا شَرُودًا فِي النَّدَى وَالبَاسِ
فَاللهُ قَدْ ضَرَبَ الأَقَلَّ لِنُورِهِ ................ مَثَلًا مِنَ المِشْكَاةِ وَالنِّبْرَاسِ
وَقَالَ أَبُو الفَتْحِ البَسْتِيِّ في الاعْتِذَارِ مِنَ أَمْرٍ كانَ نَسْيَهَ:
يا أَكْثَرَ النَّاسِ إِحْسَانًا إِلَى النَّاسِ ... وَأَكْثَرَ النَّاسِ إِفْضَالًا عَلَى النَّاسِ فَإِنْ نَسِيتُ عُهُودًا مِنْكَ سَالِفَةً ............ فَاغْفِرْ فَأَوَّلُ نَاسٍ أَوَّلُ النَّاسِ
يُريدُ بِأَوَّلِ النَّاسِ سَيِّدَنَا آدَمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وفيهِ إشارةٌ إلى قولِهِ ـ تَعَالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ ولمْ نجِدْ لَهُ عزمًا}. وَقِيلَ: هوَ مِنَ الأُنْسِ لِأَنَّهُ لَمَا خَلَقَ اللهُ آدَمَ آنَسَهُ بِزَوْجِهِ ولذلكَ سُمّي إِنْسَانًا.
ثُمَّ قِيلَ: "إِنْسَان" عَلَى وَزْنِ "فعْلَان" مُبَالَغَةً، وَجُمِعَ عَلَى "أَنَاسِي"، في قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الفُرقانِ: {.. وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا * لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا} الآيَتَانِ: (48 و 49). فَقَدْ قُلِبَتِ النُّونُ ياءً.
وَ "النَّاسُ" جْمَعٌ مُذَكَّرٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ"، وَيَجُوزُ تَأْنِيثُهُ إِذا أُريدَ بِهِ القَبِيلَةُ أَوِ الطائِفَةُ. وَيُصَغَّرُ "إِنْسانٌ" عَلى "أُنَيْسِيَانٍ" بِيَاءٍ بَعْدَهَا أَلِفٌ، فَدَلَّتِ الياءُ الثانِيَةُ عَلَى أَنَّ أَصْلَهُ ياءٌ، لِأَنَّ التَّصْغِيرَ يَرُدُّ الْأَشْيَاءَ إِلَى أُصُولِهَا، وَمِنْهُ قَولُ أَبي الطَّيِّبِ المُتَنَبِّي مِنْ قَصِيدَةٍ يَمْدَحُ فِيهَا عَضُدَ الدَّوْلَةِ وَوَلَدَيْهِ أَبَا دَلَفٍ وأَبَا الْفَوَارِسِ:
وَأَنْتَ الشَّمْسُ تُبْهِرُ كُلَّ عَيْنٍ ............ فَكَيْفَ وَقَدْ بَدَتْ مَعَهَا اثْنَتَانِ
فَلَمْ أَرَ قَبْلَهُ شِبْلَيْ هِزَبْرٍ ..................... كَشِبْلَيْهِ، وَلَا فَرَسَيْ رِهَانِ
فَعَاشَا عِيشَةَ القَمَريْنِ يَحْيَا .................... بِضَوْئِهِمَا وَلَا يَتَحَاسَدَانِ
إِلَى أَنْ يَقُولُ:
وكانَ ابْنَا عَدُوٍ كاثَرَاهُ ........................ لَهُ يَاءَيْ حُروفِ أُنَيْسِيَانِ
يَقُولُ: عَدُوُّكَ الَّذي لَهُ وَلَدَانِ وَكَاثَرَ بِهِمَا، كَيَاءَيْنِ زَائِدَتَيْنِ فِي "أُنَيْسِيَانِ"؛ لِأَنَّهُ إِذَا كَانَ مُكَبَّرًا، كَانَ خَمْسَةَ أَحْرُفٍ، فَإِذَا صُغِّرَ زِيدَ فِيهِ يَاءَانِ فِي عَدَدِهِ، وَنَقُصَ فِي مَعناهُ وَفَخْرِهِ، فَهُمَا زَائدَتَانِ في نَقْصِهِ. كَمَا جاءَ في الحديثِ الشَّريفِ قَوْلُهُ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ: ((انْطَلِقُوا بِنَا إِلى أُنَيْسِيانِ قَدْ رابَنا شَأْنُهُ))، واللهُ أَعْلَمَ.
قولُهُ: {إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ} إِنْ: الشَّرْطِيَّةِ هَذِهِ جَعَلَتْ رَيْبَهُمْ فِي الْبَعْثِ فَرَضًا لِأَنَّهُ لَمَّا حُفَّ بِالْأَدِلَّةِ الْباطِلَةِ على رَيْبِهِمْ نُزِّلَ مَنْزِلَةَ مَنْ لَمْ يَتَحَقَّقْ رَيْبُهُ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الزُّخْرُفِ: {أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ} الآيةَ: 5. مَعَ أَنَّ ريبَهُم مُحَقَّقٌ لَا شَكَّ فِيهِ وَلَا رَيْبَ لِأَنَّهُمْ هُمُ الذينَ صَرَّحُوا بِهِ.
وَ "فِي" هُنَا للظَرْفِيَّةٌ المَجَازِيَّةٌ. إِذْ شُبِّهَتْ مُلَابَسَةُ الرَّيْبِ إِيَّاهُمْ بِإِحَاطَةِ الظَّرْفِ بِالْمَظْرُوفِ.
قولُهُ: {فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ} لَا يَصْلُحُ لَفْظُ هَذِهِ الجُمْلَةُ الوَاقِعَةِ مَوْقِعَ جَوَابِ الشَّرْطِ لِأَنْ يَكُونَ جَوَابًا لِهَذَا الشَّرْطِ بَلْ هِيَ دَلِيلُ الْجَوَابِ، وَالتَّقْدِيرُ: فَاعْلَمُوا بِأَنَّ إِعادَةَ خَلْقِكُمْ أَمْرٌ سَهْلٌ مُمْكِنٌ، فَكَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ مِنْ التُّرَابٍ نَسْتَطيعُ خَلْقَكُمْ مَرَّةً ثانيةً مِنَ الرُّفَاتِ الَّذِي تَصِيرُ إِلَيْهِ الْأَجْسَادُ بَعْدَ الْمَوْتِ. ويجوزُ أَنْ يكونَ التَّقْدِيرُ: فَتَفَكَّروا فِي بَدْءِ خَلْقِكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، لأَنَّهُ إِنَّما خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ.
قولُهُ: {ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ} بَعْدَ أَنْ خَلَقَ اللهُ أَصْلُ النَّوْعِ مِنَ التُّرَابِ، وَهُوَ آدَمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَخَلَقَ مِنْهُ زوجَهُ حَوَّاءَ عليها السَّلامُ، خَلَقَ فيهما القُدرةَ على التَّنَاسُلِ، كما قالَ في الآيةِ: 1، مِنْ سُورَةِ النِّساءِ: {خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاء}، وذَلِكَ مِنَ النُّطْفَةِ الَّتِي تَخرُجُ مِنْ صُلْبِ الرَّجُلِ لِتَسْتَقِرَّ في رَحِمِ المَرْأَةِ، فيكوِّنُها اللهُ ـ تَعَالى، كيفما شاءَ بقدرتِهِ.
وَالنُّطْفَةُ لُغَةً: هِيَ الْمَاءُ الْقَلِيلُ، وَمِنْهُ قَوْلُ شَاعِرِ مِنْ بَنِي كِلَابٍ:
وَمَا عَلَيْكِ إِذَا أُخْبِرْتِنِي دَنِفًا ............ وَغَابَ بَعْلُكِ يَوْمًا أَنْ تَعُودِينِي
وَتَجْعَلِي نُطْفَةً فِي الْقَعْبِ بَارِدَةً .......... وَتَغْمِسِي فَاكِ فِيهَا ثُمَّ تَسْقِينِي
وَالْمُرَادُ بِالنُّطْفَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: نُطْفَةُ الْمَنِيِّ، وَتَتَكوَّنُ مِنْ مَاءِ الرَّجُلِ وَمَاءِ الْمَرْأَةِ.
وَهِيَ فِي الأَصْلِ: المَاءُ الصَّافي، وَالنُّطْفَةُ، وَالنُّطافَةُ: القَلِيلُ مِنَ المَاءِ، وَهِيَ بِوَزْنِ "فُعْلَةٍ" بِمَعْنَى "مَفْعُولٍ"، أَيْ: مَنْطُوفٍ، وَتُجْمَعُ النُّطْفَةُ عَلَى "نُطَفٍ" و "نِطافٍ. والنُّطَفَةُ: اللُّؤْلُؤَةُ الصَّافِيَةُ. وَالنَّطْفُ: الصَّبُّ، وَالْقَطْرُ، وأَنفُ نَطُوفٌ: كَثيرُ القَطَرانِ. وَنَطَفَ الدَّلْوُ وَغَيْرُهُ، يَنْطِفُ ويَنْطُفُ نَطْفًا، ونُطوفًا، وَنِطافًا، ونَطَفَانًا: قَطَرَ. وإِذا أَمْطَرَتْ السَّماءُ قالوا: لقد نَطَفَتِ السَّماءُ.
قولُهُ: {ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ} ثُمَّ: حَرْفٌ لِلْعَطْفِ وَالْتَّرْتِيبِ والتَّراخي، فَأمَّا التَّرْتِيْبُ فيَعْنِي أَنَّ مَرَاحِلَ الخَلْقِ هَذِهِ الَّتِي ذُكِرَتْ هُنَا، مُرَتَّبٌ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ بِحَسَبِ ما جاءَ في الآيةِ، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكونَ غَيْرُ ذَلِكَ، بِحَيْثُ يَسْبِقُ طَوْرٌ طَوْرًا، أَوْ تَتَقَدَّمُ مَرْحَلَةٌ عَلَى أُخْرَى. وَأَمَّا التَّرَاخِي فَيَعني أَّنَّ هناكَ فاصِلٌ زَمَنِيٌّ بينَ الطَّورِ والذي يَلَيْهِ.
وَ "مِنْ" هي حَرْفُ جَرٍ لِلِابْتِداءِ، وقدْ كُرِّرَتْ هُنَا أَرْبَعَ مَرَّاتٍ، وَهُذا التَّكْرارُ يُفِيدُ الْتَوْكِيدَ.
و "الْعَلَقَةُ" القِطْعَةُ مِنَ الدَّمِ الجَامِدِ قَبْلَ أَن يَّيْبَسَ، والجَمْعُ عَلَقٌ. قَال زُهَيْرُ بْنُ أَبي سُلْمى:
إِلَيْكَ أَعْمَلْتُهَا فُتْلًا مَرَافِقُهَا .......... شَهْرَيْنِ يَجْهُضُ مِنْ أَرْحَامِهَا الْعَلَقُ
وَسُمِّيَتْ "عَلَقَةً" لِأَنَّها تَعْلَقُ بِجَدَارِ الرَّحِمِ لِتَسْتَقِرَّ وتَسْتَقِلَّ، وَيُحيطُ بِهَا مِنْ كلِّ جانبٍ فِي رَحِمِ الأُمِّ سائلٌ يَحْمِيهَا مِنَ الصَّدَمَاتِ وَالاهْتِزَازِ وَالاضْطِّرابِ، لِتَكونَ جاهزَةً للأَطْوارِ التَّاليَةِ مِنَ الخَلْقِ وَالْتَّشْكيلِ.
قوْلُهُ: {ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ} وَالمُضْغَةُ: القِطْعَةُ مِن اللَّحْمِ قَدْرَ مَا تُمضَغُ في الفَمِ، والقَلْبُ مُضْغَةٌ مِنَ الجَسَدِ، لِقَولِهِ ـ عَلَيه الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((الْحَلَالُ بَيِّنٌ وَالْحَرَامُ بَيِّنٌ، وَبَيْنَهُمَا مُشَبَّهَاتٌ لَا يَعْلَمُهَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ، فَمَنْ اتَّقَى الْمُشَبَّهَاتِ اسْتَبْرَأَ لِدِينِهِ وَعِرْضِهِ، وَمَنْ وَقَعَ فِي الشُّبُهَاتِ كَرَاعٍ يَرْعَى حَوْلَ الْحِمَى يُوشِكُ أَنْ يُوَاقِعَهُ، أَلَا وَإِنَّ لِكُلِّ مَلِكٍ حِمًى، أَلَا إِنَّ حِمَى اللهِ فِي أَرْضِهِ مَحَارِمُهُ، أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)). أَخرَجَهُ الأئمَّةُ: الحُمَيْدِيُّ: (918). وَأَحْمَدُ: (4/269(18558). والدارِمِيُّ: (2531). والبُخَارِي: (1/20(52)، والنَصُّ لَهُ. ومسلم: (5/50، برقم: 4101). وأَبو داودَ: (3329). وابْنُ ماجَةَ: (3984). والتِّرمِذي: (1205). والنَّسائيُّ: (7/241)، وفي الكبرى: (5997)، عَنِ النُّعْمَانِ بْنِ بَشِيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وَإِذَا صَارَتِ العَلَقَةُ لَحْمَةً فَهِيَ مُضْغَةٌ. قَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ: ((أَنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يَكُونُ فِي ذَلِكَ مُضْغَةً مِثْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ يُرْسَلُ الْمَلَكُ، فَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَيُؤْمَرُ بِأَرْبَعِ كَلِمَاتٍ: بِكَتْبِ رِزْقِهِ، وَأَجَلِهِ، وَعَمَلِهِ، وَشَقِيٌّ، أَوْ سَعِيدٌ.
فَوَالَّذِي لاَ إِلَهَ غَيْرُهُ، إِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلاَّ ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، فَيَدْخُلُهَا، وَإِنَّ أَحَدَكُمْ لَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ النَّارِ، حَتَّى مَا يَكُونُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهَا إِلَّا ذِرَاعٌ، فَيَسْبِقُ عَلَيْهِ الْكِتَابُ، فَيَعْمَلُ بِعَمَلِ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيَدْخُلُهَا)). أَخْرَجَهُ الحَمِيدِيُّ: (126). وأَحْمَدُ: (1/382، برقم: 3624). وَالبُخَارِي: (4/135، برقم: 3208). ومُسْلم: (8/44، برقم: 6816). وأَبُو دَاوُدَ: (4708). وَابْنُ مَاجَةَ: (76). وَالتِّرمِذيُّ: (2137). والنَّسَائيُّ في "الكُبْرَى" (11182). مِنْ حديثِ عبدِ اللهِ ابْنِ مَسْعودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ.
وهَذِهِ الأَطوارُ في الخلْقِ إِنَّما تكونُ عنْدَ الخَلْقِ الأَوَّلِ، أَمَّا إِعَادَةُ الخَلْقِ يَوْمَ القيامَةِ فَإِنَّما يَكونُ دُفْعَةً واحدَةً بتوجُّهِ إرادَتِهِ ـ سُبحانَهُ وتَعَالَى إِلَى قَوْلِ "كُنْ" فَيَكونُ.
يُرْوَى أَنَّ العَبَّاسَ بْنَ عَبْدِ المُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ لِلنَّبِيِّ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ: يا رَسُولَ اللهِ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أَمْدَحَكَ، فَقَالَ لَهُ: قُلْ، فَقَالَ العَبَّاسُ:
مِنْ قَبْلِهَا طِبْتَ فِي الظِّلَالِ وَفِي ........ مُسْتَوْدَعٍ حَيْثُ يُخْصَفُ الوَرَقُ
ثُمَّ هَبَطْتَ البِلَادَ لَا بَشَرٌ ..................... أَنْتَ وَلَا مُضْغَةٌ وَلَا عَلَقُ
بَلْ نُطْفَةٌ تَرْكَبُ السَّفِينَ وَقَدْ .................. أَلْجَمَ نَسْرًا وَأَهْلَهُ الغَرَقُ
تُنْقَلُ مِنْ صَالِبٍ إِلَى رَحِمٍ .................... إِذَا مَضَى عَالَمٌ بَدَا طَبَقُ
حَتَّى احْتَوَى بَيْتَكَ المُهَيْمِنُ مِنْ ............ خِنْدِفَ عَلْيَاءَ تَحْتَها النُّطُقُ
وَأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أَشْرَقَتِ الـ ............... أَرْضُ وَضَاءَتْ بِنُوركَ الأُفُقُ
فَنَحْنُ فِي ذَلِكَ الضِّياءِ وَفِي النُّو ............... رِ وَسُبْلِ الرَّشَادِ نَخْتِرِقُ
فَقَالَ النَّبِيُّ: لَا يَفْضُضِ اللهُ فَاكَ.
قولُهُ: {مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ} مُخَلَّقَة: مَلْسَاءُ لَا عَيْبَ فِيهَا، مِنْ قوْلِهِمْ: صَخْرَةٌ خَلْقاءُ، أَيْ: مَلْسَاءُ. وَيَقولُونَ خَلَقْتُ السِّوَاكَ: أَيْ: سَوَّيْتُهُ وَمَلَسْتُهُ. والأَخْلَقُ: اللَّيِّنُ الأَمْلَسُ. يقولونَ: هَضبةٌ خَلْقاءُ: أَيْ مُصْمَتَةٌ مَلْساءُ لَا نَبَاتَ بهَا. وَجَبَلٌ أَخْلَقُ: لَيِّنٌ أَمْلَسُ. وَقَوْلُ أَميرِ المُؤْمِنِينَ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ ـ رَضيَ اللهُ عَنْهُ: (لَيْسَ الْفَقِيرُ الَّذِي لَا مَال لَهُ، إِنَّمَا الْفَقِير الأَخْلَقُ)، أَي: الأَمْلَسُ مِنَ الْحَسَنَاتِ.
و "غيرِ مُخَلَّقةٍ" أَيْ: غَيْرِ تَامَّةٍ، وَالْمُرَادُ: أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً، مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ، سَالِمٌ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ، وَصُوَرِهِمْ، وَطُولِهِمْ، وَقِصَرِهِمْ، وَتَمَامِهِمْ، وَنُقْصَانِهِمْ. والخالِقُ وَالخَلاَّقُ: هوَ اللهُ ـ تَعَالَى، قالَ مِنْ سُورَةِ الحِجْر: {إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم} الآيةَ: 86، وَقالَ مِنْ سُورةِ يس: {أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيم} الآيةَ: 81، وقالَ مِنْ سورةِ الحَشْرِ: {هُوَ اللهُ الخَالِقُ البارِئُ المُصَوِّرُ} الآيَةَ: 24، وهوَ من أَسْمَائِهِ الحُسْنى ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ. مِنْ خَلَقَ يَخلُقُ خَلْقًا أَيْ أَوْجَدَ مِنَ العَدَمِ. ويَكونُ "الخَلْقُ" الْمَصْدَرَ، كَمَا يَكونُ الْمَفْعُولَ، قَالَ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ} الآيةَ: 6، مِنْ سُورَةِ: الزُّمَر، أَيْ: يَخْلُقُكُمْ نُطَفًا، ثُمَّ عَلَقًا، ثُمَّ مُضَغًا، ثُمَّ عِظَامًا، ثُمَّ يَكْسُو الْعِظَام لَحْمًا، ثُمَّ يُصَوِّرُ وَيَنْفُخُ فِيهِ الرُّوحَ، وَهذَا مَعْنَى {خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ}، والظُّلُمَاتُ الثَّلَاثُ: ظُلْمَةُ الْبَطْنِ، وَظُلْمةُ الرَّحِمِ، وظُلْمَةُ المَشِيمَةِ، وَقِيلَ: هِيَ ظُلْمةُ الأَصْلابِ، وَظُلْمةُ الأَرْحامِ، وظُلمَةُ البُطُونُ، ويُجْمَعُ "خَلْقٌ" عَلَى "خُلُوق". وَ "خَلِيقَةٌ" على "خَلِيقٍ"، كَ "شَعِيرةٍ" وَ "شَعيرٍ".
وَالخَلِيقُ بَيِّنُ الخَلْقِ: أَيْ تَامٌّ مُعْتَدِلٌ حَسَنٌ، وَالْأُنْثَى خَلِيقٌ وَخَليقَةٌ، وَقَدْ خَلُقَتْ خَلاقَةً. وَالمُخْتَلَقُ كَالْخَلِيقِ، وَالْأُنْثَى مُخْتَلَقَةٌ. وَالخَلِيَقةُ: الخَلْق. وَالخَلِيَقُةُ ـ أَيْضًا: الطَّبِيعَةُ الَّتِي يُخْلَقَ بِهَا الْإِنْسَانُ، وَهَذِهِ خَلِيقَتُهُ الَّتِي خُلِقَ عَلَيْهَا، وَخُلِقَها، وَالَّتِي خُلِقَ. والخُلْقُ والخُلُقُ: الخَلِيقَةُ أَيْ الطَّبيعَةُ، قالَ: {وإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ} الآيةَ: 4، مِنْ سُورَةِ القَلَمِ.
والْجَمْعُ "أَخْلَاقٌ". وَتَخَلَّقَ بِخُلُقٍ: اسْتَعْمَلَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَكونَ مَنْ فِطْرَتِهِ وطَبْعِهِ، قَالَ الشَّاعِرُ العَرْجِيُّ وَهُوَ عَبْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ أَميرِ المُؤمنينَ عُثْمَانَ بْنِ عَفَّانٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
سَمَّيْتَنِي خَلُقًا بِخَلَّةٍ قَدُمَتْ ............. وَلَا جَدِيدَ إِذَا لَمْ يُلْبَسِ الخَلَقُ
يَا أَيُّها المُتَحَلِّي غَيْرَ شِيمَتِهِ .............. وَمِنْ خَلَائِقِهِ الإِقْصَادُ وَالمَلَقُ
اِرْجِعْ إِلَى خِيمِكَ المَعْرُوفِ دَيْدَنُهُ ......... إِنَّ التَّخَلُّقَ يَأْتي دُونَهُ الخُلُقُ
وخالِقِ النَّاسَ: عَاشَرَهُمْ عَلَى أَخْلَاقِهِمْ. قَالَ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((اتَّقِ اللهَ حَيْثُمَا كُنْتَ، وَأَتْبِعْ السَّيِّئَةَ الْحَسَنَةَ تَمْحُهَا، وَخَالِقْ النَّاسَ بِخُلُقٍ حَسَنٍ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ أحمدٌ وغيرُهُ مِنْ حديثِ أبي ذَرٍّ الغِفارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى عنْهُ. وَرَجُلٌ خَلِيقٌ وَمُخْتَلَقٌ: حَسَنُ الخُلُقِ، وَامرأَةٌ خَلِيقَةٌ وَخَلِيقٌ ومُخْتَلَقَةٌ. وَالخَلِيَقَةُ أَيْضًا: الحَفِيرَةُ المَخْلُوقَةُ فِي الأَرْضِ، أَوِ الْبِئْرُ الَّتِي لَا مَاءَ فِيهَا. والْكَذِبُ خَلْقُ، يقالُ خَلَقَ الْكَذِبَ يَخْلُقُهُ وتَخَلَّقَهُ واخْتَلَقَهُ: إذا ابْتَدَعَهُ، قَالَ تَعَالَى ـ مِنْ سُورَةِ الشُّعراءِ حاكيًا جوابَ عادٍ لنبيِّهِمْ هودٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ * إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الأَوَّلِينَ} الآيتانِ: (136 و 137)، وقرِئ "خَلْقُ الْأَوَّلِّينَ"، أَيْ: كَذِبُ الْأَوَّلينَ وَافْتِرَاؤُهمْ.
وخَلَق الشَّيْء خُلوقاً وخُلوقةً، وخَلُقَ خَلاَقةً، وخَلِقَ، وأخْلقَ، واخْلَوْلق: بَلَيَ واهتَرَأَ، ومنهُ قَولُ المُرَقِّشِ الأَكْبر رَبِيعَةَ بْنِ سَعْدِ بْنِ مَالِكٍ:
للهّ دَرُ البَيْنِ مَا يَفْعَلُ .......................... يَقْتُلُ مَنْ شَاءَ وَلَا يُقْتَلُ
هاجَ الهَوَى رَسْمٌ بِذاتِ الغَضَا ............... مُخْلَوْلِقُ مُسْتَعْجِمٌ مُحْوِلُ
وَشَيْءٌ خَلَقٌ: بَالٍ، والذَّكَرُ وَالْأُنْثَى فِيهِ سَوَاءٌ، تَقولُ: ثَوْبٌ خَلَقٌ، وَمِلْحَفَةٌ خَلَقٌ، وَجْسْمٌ خَلَقٌ، وَرُمَّةٌ خَلَقٌ، ومِنْهُ قَولُ لَبيدِ بْنِ ربيعةَ:
والنِّيبُ إِنْ تَعْرُ مِنِّي رِمَّةً خَلَقًا ............. بَعدَ المَماتِ فَإِنِّي كُنْتُ أَتَّئِرُ
وَالْجَمْعُ خُلْقانٌ وأَخْلَاقٌ، وَقَدْ يُقَالُ: ثَوْبٌ أَخْلَاقٌ، َوَمُلاءَةٌ أَخْلَاقٌ، وَأَخْلَقَ الشَّيْءَ: أَبْلَاهُ.
وخَلِقَ الشَّيْءُ خَلَقًا، وَاخْلَوْلَقَ: امْلَاسَّ وَلَانَ وَاسْتَوَى. وَقَدَحٌ مُخَلَّقٌ: مُسْتَوٍ أَمْلَسٌ مُلَيَّنٌ، وَكُلُّ مَا لَانَ وَمَلُسَ فَقَدْ خَلَقَ. وَالْخَلْقَاءُ: السَّمَاءُ، لِمُلَاسَتِهَا وَاسْتِوائِهَا.
والخَلُوقُ والخِلاَقُ: ضَرْبٌ مِنَ الطِّيبِ، وَقِيلَ: هوَ الزَّعْفَرَانُ، أنْشد أَبُو بكر بْنُ دُريدٍ:
قَدْ عَلِمَتْ إِنْ لَمْ أَجِدْ مُعِينَا ..................... لَتَخْلِطِنَّ بالخَلُوقِ طِينَا
وخَلَّقَتِ الْمَرْأَةُ جِسْمَهَا: إذا طَلَتْهُ بِالخَلُوقِ، وَخَليقٌ بِكَذَا: جَديرٌ بِهِ، يَسْتوي في ذَلِكَ المُفْرَدُ والمُثنَّى وَالجَمْعُ وَالْمُؤَنَّثُ والمُذَكَّرُ. وَالْعَرَبُ تَقُولُ: يَا خَليِقُ بِذَاكَ فَتَرْفَعُ، وَيَا خَليقَ بِذَاكَ، فَتَنْصِبُ. وَفُلانٌ خَلِيقٌ لِفُلانٍ: إِذَا كانَ شَبيهًا لَهُ. واخْلَوْلَقَتِ السَّمَاءُ أَنْ تُمْطِرَ، إذا قارَبَتْ أنْ تُمْطِرَ وشابَهَتْ، واخْلَوْلَق أَنْ تُمْطِرَ. والخَلَاقُ أَيْضًا: الْحَظُّ والنَّصيبُ مِنْ الْخَيْرِ، قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ آلِ عُمْرَانَ: {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} الآيةَ: 77.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" قَالَ: المُخَلَّقَةُ مَا كَانَ حَيًّا، و "غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" مَا كَانَ مِنْ سَقَطٍ.
وَقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُما، فِي رِوَايَةِ عَطَاءٍ عنْهُ: المُخَلَّقَةُ: مَا أُخِذَ مِنْهُ المِيثاقُ، وَغَيْرُ المُخَلَّقَةِ: مَا لَمْ يُؤْخَذْ مِنْه المَيثاقُ، وَلَا يَكونُ مَخْلُوقًا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الْعَلَقَةُ: الدَّمُ، والمُضْغَةُ: اللَّحْمُ، والمُخَلَّقَةُ: الَّتِي تَمَّ خَلْقُهَا، وَ "غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" السِّقْطُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ، وَابْنُ جَريرٍ عَنِ الإمامِ الشَّعْبِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِذَا دَخَلَ فِي الْخَلْقِ الرَّابِعِ كَانَتْ نَسْمَةً مُخَلَّقَةً، وَإِذَا قَدَّمَ فِيهَا قَبْلَ ذَلِكَ فَهِيَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" قَالَ: تَامَّةٍ وَغَيْرِ تَامَّةٍ.
وَأَخْرَجَ سَعْيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" قَالَ: السِّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ أَبي الْعَالِيَةِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" السِّقْطُ.
وَقالَ الأَئِمَّةُ الشَّعْبِيُّ، وَقَتَادَةُ، وَأَبُو العَالِيَة الرِّياحِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْهُمْ: التَّضْعيفُ فِي "مُخَلَّقَة" لِلتَّكْثِيرِ لِأَنَّ لِلإِنْسانِ أَعْضَاءٌ مُتَبَايَنَةٌ، وَخَلْقٌ مُتَفَاوِتَةٌ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ أَحْمَدُ، وَابْن مرْدَوَيْه، عَنِ ابْن عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّ النُّطْفَةَ تَكونُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا عَلَى حَالِهَا لَا تَتَغَيَّرُ، فَإِذا مَضَتِ الْأَرْبَعُونَ، صَارَتْ عَلَقَةً، ثُمَّ مُضْغَةً كَذَلِكَ، ثُمَّ عِظَامًا كَذَلِكَ، فَإِذا أَرَادَ أَنْ يُسَوِّيَ خَلْقَهُ بَعَثَ إِلَيْهِ مَلَكًا فَيَقُولُ: يَا رَبُّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ أَقَصِيرٌ أَمْ طَوِيلٌ؟ أَنَاقِصٌ أَمْ زَائِدٌ؟ قُوتُهُ، أَجَلُهُ، أَصَحِيحٌ أَمْ سَقِيمٌ، فَيَكْتُبُ ذَلِكَ كُلَّهُ.
وَأَخْرَجَ الْحَكِيمُ التِّرْمِذِيُّ فِي نَوَادِرِ الْأُصُولِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: النُّطْفَةُ إِذَا اسْتَقَرَّتْ فِي الرَّحِمِ أَخَذَهَا مَلَكٌ مِنَ الْأَرْحَامِ بِكَفِّهِ، فَقَالَ: يَا رَبُّ مُخَلَّقَةٌ أَمْ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ، فَإِنْ قِيلَ غَيْرُ مُخَلَّقَةٍ لَمْ تَكُنْ نَسْمَةً، وَقَذَفَتْهَا الرَّحِمُ دَمًا، وَإِنْ قِيلَ مُخَلَّقَةٌ، قَالَ: يا رَبُّ: أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ أَشَقِيٌّ أَمْ سَعِيدٌ؟ مَا الْأَجَلُ؟ وَمَا الْأَثَرُ؟ وَمَا الرِّزْقُ؟ وَبِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ فَيُقَالُ لِلنُّطْفَةِ: مَنْ رَبُّكِ؟ فَتَقُولُ: اللهُ. فَيُقَالُ لها: مَنْ رَازِقُكِ؟ فَتَقولُ: اللهُ. فَيُقَالُ لَهُ: اذْهَبْ إِلَى أُمِّ الْكِتَابِ فَإِنَّكَ سَتَجِدُ فِيهِ قِصَّة هَذِهِ النُّطْفَةِ. قَالَ: فَتُخْلَقُ، فَتَعيشُ فِي أَجَلِهَا، وَتَأْكُلُ فِي رِزْقِها، وَتَطَأُ فِي أَثَرِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا مَاتَتْ، فَدُفِنَتْ فِي ذَلِكَ الْمَكَانِ).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْهُ مِثْلَهُ. وَأَخْرَج أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ عَنْ أَنَسٍ عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَمُسْلِمٌ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ، عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ أُسَيْدٍ الْغِفَارِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِأُذُنَيَّ هَاتَيْنِ يَقُولُ: ((إِنَّ النُّطْفَةَ تَقَعُ فِي الرَّحِمِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً، وَفِي لَفْظٍ: إِذَا مَرَّ بِالنُّطْفَةِ اثْنَتَانِ وَأَرْبَعُونَ لَيْلَةً، بَعَثَ اللهُ إِلَيْهَا مَلَكًا، فَصَوَّرَهَا، وَخَلَقَ سَمْعَهَا وَبَصَرَهَا وَجِلْدَهَا وَلَحْمَهَا وَعَظْمَهَا، ثمَّ قَالَ: يَا رَبُّ أَذَكَرٌ أَمْ أُنْثَى؟ فَيَقْضِي رَبُّكَ مَا يَشَاءُ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبُّ: أَجَلَهُ؟ فَيَقُولُ رَبَّكَ مَا شَاءَ، وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَقُولُ: يَا رَبُّ: رِزْقُهُ؟ وَيَقْضِي رَبُّكَ مَا يَشَاءُ وَيَكْتُبُ الْمَلَكُ، ثُمَّ يَخْرُجُ الْمَلَكُ بِالصَّحِيفَةِ فِي يَدِهِ، فَلَا يَزِيدُ عَلى أَمْرِه وَلَا يُنْقُصُ. وَفِي لَفْظٍ: يَدْخُلُ الْمَلَكُ عَلَى النُّطْفَةِ بَعْدَمَا تَسْتَقِرُّ فِي الرَّحِمِ بِأَرْبَعِينَ أَوْ خَمْسٍ وَأَرْبَعينَ لَيْلَةً، فَيَقُولُ: يَا رَبُّ: أَشَقِيٌّ أَوْ سَعِيدٌ فَيُكْتَبانِ. فَيَقُولُ: أَيْ رَبِّ: أَذَكَرٌ أَوْ أُنْثَى؟ فَيُكْتَبَانَ. فَيُكْتَبُ عَمَلُهُ، وَأَثَرُهُ، وَأَجَلُهُ، وَرِزْقُهُ، ثُمَّ تُطْوَى الصُّحُفُ، فَلَا يُزَاد فِيهَا وَلَا يُنْقَصُ مِنْهَا.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ" قَالَ: السِّقْطُ مَخْلُوقٌ وَغَيْرُ مَخْلُوقٍ.
قولُهُ: {لِنُبَيِّنَ لَكُمْ} أَيْ خَلَقْنَاكُم عَلَى هَذَا النَّمَطِ البَديعِ، والطِّرازِ الرَّفيعِ الذي ذكَرنا لَكُمْ أَطوارَهُ فِيمَا تَقَدَّمَ، لِنُبَيِّنَ لَكُمْ مَا لَا يُحاطُ بِهِ وَلَا يُحْصَرُ مِنَ الحَقَائقِ والدَّقائقِ.
واخْتَلَفَ المُفسِّرونَ في مَفْعُولِ التَّبْيينِ ما هوَ المُبيَّنُ؟ فقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: لِنُبَيَّنَ لَكُمْ مَا تَأْتُونَ وَمَا تَذَرُونَ. وَقَالَ أَبو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: أَيْ: ذَكَرْنَا أَحْوَالَ خَلْقِ الإِنْسانِ لِنُبَيَّنَ لَكُمْ قُدْرَتَنَا عَلى مَا نَشَاءُ، ولِنُعَرِّفَكم ابْتِداءَنا خَلْقَكُمْ. فإِنَّ مَنْ تَأَمَّلَ التَدَرُّجَ في أَطوارِ الخَلْقِ الَّتي تقدَّمَ ذِكْرُها والتَّنْبيهُ إِلَيهَا جَزَمَ بِعَظَمَةِ ذلكَ الخَلْقِ تَيَقَّنَ مِنْ أَنَّ هَذا الخالِقَ العظيمَ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ مَا خَلَقَ مِنْ بعدِ بِلاهُ وفَنائِهِ، بَلْ إِنَّهُ فِي القِيَاسِ أَهْوَنُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "لِنُبَيِّنَ لَكُمْ" قَالَ: أَنَّكُم كُنْتُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ كَذَلِكَ.
هَذَا وَقَدْ أُغْفِلَ المَفْعُولُ بِهِ فِي هَذِهِ الجُمْلةِ الكَريمةِ تَفْخِيمًا لَهُ وتَعْظِيمًا لِشَأْنِهِ.
قولُهُ: {وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ} أَيْ: وَنُثَبِّتُ فِي الأَرْحَامِ بَعْدَ ذَلِكَ مَا نَشَاءُ أَنْ نُثَبِّتَهُ فِيهَا، إِلَى أَنْ يَحِينَ وقتُ خُروجِهِ منها وولادَتِهِ بحَسَبِ ما سَبَقَ أَنْ قدَّرْناهُ وقضَيْنا بِهِ، وَنُسِقِطُ مِنْهَا مَا نَشَاءُ إسْقاطَهُ مِمَّا لَمْ نكْتُبْ لَهُ الحياةَ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإِمامِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ"، قَالَ: هَذَا مَا كَانَ مِنْ وَلَدٍ يُولَدُ تَامًّا لَيْسَ بِسِقْطٍ. وهذا بَيَانٌ لِمَا يَكونُ مِنْ حَالِهِمْ بَعْدَ تَمَامِ خَلْقِهِمْ، وَتَوارُدِ تِلْكَ الأَطْوَارِ الَّتي سَبَقَ ذِكْرُهَا عَلَيْهِمْ.
قولُهُ: {إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى} الأجَلُ المُسَمَّى هُوَ المَوعِدُ المُحدَّدُ المَضْرُوبُ لِخُرُوجِهِمْ مِنْ أَرحامِ أُمَّهاتِهم. وهُوَ وَقْتُ الوَضْعِ وَأَدْنَاهُ سِتَّةُ أَشْهُرٍ، وأَمَّا أَقْصَاهُ فقد اخْتَلَفُوا فيهِ فقلَ بعضُهُمْ سَنَتَانِ، وَقالَ آخرونَ أَرْبَعُ سِنِينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى" قَالَ: الأَجَلُ المُسَمَّى هُوَ مُدَّةُ إِقَامَةِ الجَنِينِ فِي الرَّحِمِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْهُ.