هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ
نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ
(19)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيِّ لِبَيَانِ ما قدْ يُثِيرُهُ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى في الآيةِ التي قبلَها: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ} مِنْ سُؤَالٍ عَنْ بَعْضِ تَفَاصِيلِ صِفَةِ الْعَذَابِ الَّذِي حَقَّ عَلَى كَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ الَّذِينَ لَمْ يَسْجُدُوا للهِ ـ تَعَالى.
والخَصْمُ في الأَصْلِ: مَصْدَرٌ؛ وَلِذَلِكَ يُوحَّدُ وَيُذَكَّرُ غَالِبًا، وَمنْهُ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ (ص): {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُواْ المِحْرابَ} الآيةَ: 21. وَيَجُوزُ أَنْ يُثَنَى وَيُجْمَعَ وَيُؤَنَّثَ، وَعَلَيْهِ هَذِهِ الآيَةُ فَقَدْ ثَنَّيَ فقالَ: "خَصْمانِ"، ثُمَّ جَمَعَ فَقَالَ: "اخْتَصَمُوا" لِمَا أَنَّ كُلَّ خَصْمٍ فَرِيقٌ يَجْمَعُ طائفَةً مِنَ النَّاسِ، وهذا كَقَوِلِهِ مِنْ سُورةِ الحجرات: {وَإِنْ طَآئِفَتَانِ مِنَ المُؤْمِنينَ اقْتَتَلُوا} الآيةَ: 9، فَالْجَمْعُ لِمُراعَاةِ المَعْنَى. وَالخُصومَةُ: الجَدَلُ، فَتقولُ: خاصَمَهُ، إِذَا جادَلَهُ، وَهُوَ مِنْ خَاصَمَ، يُخاصِمُ، مُخَاصَمَةً وخِصامًا، ويُجْمَعُ الخَصْمُ عَلَى خُصَمَاءَ. وَخَاصَمَ فُلانًا فَخَصَمَهُ يَخْصِمُهُ بِالكَسْرِ، وَلَا يُقَالُ بِالضَّمِّ، وَشَديدُ الخُصُومَةِ يُقَالُ لَهُ: خَصِمٌ ـ بِكَسْرِ الصَّادِ. وَاخْتَصَمَ القَوْمُ، وَتَخَاصَمُوا، بِمَعْنَى. وَالخُصْمُ: بِضَمِّ الخاءِ: جانِبُ العِدْلِ وَزَاوِيَتُهُ. وَخُصْمُ كُلِّ شَيْءٍ: جانِبُهُ وَنَاحِيَتُهُ. وَمِنْهُ قِيلَ للخَصْمَيْنِ: خَصْمْانِ، لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا يَأْخُذُ بِشِقٍّ مِنَ الحِجَاجِ، أَوَ الدَّعْوَى. وَأَخْصَامُ العَيْنِ: مَا ضُمَّتْ عَلَيْهِ الأَشْفَارُ.
و "فِي رَبِّهِمْ" أَيْ: فِي شَأْنِ ربِّهِمْ وَصِفَاتِهِ، فَالْكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ ظَاهِرٍ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تعالى: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ"، قَالَ: مِثْلَ الْمُؤْمِنِ وَالْكَافِرِ اخْتِصَامُهُا فِي الْبَعْثِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ"، قالَ: هُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ، قَالُوا للْمُؤْمِنِينَ: نَحْنُ أَوْلَى بِاللهِ، وَأَقْدَمُ مِنْكُمْ كِتَابًا، وَنَبِيُّنَا جاءَ قَبْلَ نَبِيِّكُمْ. وَقَالَ الْمُؤْمِنُونَ: نَحْنُ أَحَقُّ، بِاللهِ آمَنَّا وَبِمُحَمَّدٍ، وَآمَنَّا بِنَبِيِّكُمْ وَبِمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنْ كِتَابٍ، وَأَنْتُمْ تَعْرِفُونَ كِتَابَنَا وَنَبِيَّنَا، ثُمَّ تَرَكْتُمُوهُ وَكَفَرْتُمْ بِهِ حَسَدًا، فَكَانَ ذَلِكَ خُصُومَتَهُمْ فِي رَبِّهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ أَبي الحَجَّاجِ مُجَاهِدِ بْنِ جَبْرٍ المَكِّيِّ الأَسْوَد، وَعَطَاءِ بْنِ أَبي رَبَاحٍ، وَالْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، أَنَّهُم قَالوا في قولِهِ: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ": هُمُ الْكَافِرُونَ والمُؤْمِنونَ اخْتَصَمُوا فِي رَبَّهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَرِيرٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَبُو عَبْدِ اللهِ القُرَشِيُّ مَوْلاَهُم ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ" قَالَ: هُمَا الْجَنَّةُ وَالنَّارُ، اخْتَصَمَتَا، فَقَالَتِ النَّارُ: خَلَقَنِي اللهُ لِعُقُوبَتِهِ. وَقَالَت الْجَنَّةُ: خَلَقَني اللهُ لِرَحْمَتِهِ.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} الْمُرَادُ بالتَّقْطِيعِ قَطْعُ شُقَّةِ الثَّوْبِ، والقَطْعُ: فَصْلُ بَعْضِ أَجْزَاءِ الشَيْءِ عَنْ بَقِيَّتِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ الَّذِي يُرِيدُ اتِّخَاذَ قَمِيصٍ، أَوْ ثوبٍ أَوْ نَحْوِ ذَلِكَ، إِنَّما يَقْطَعُ مِنْ شُقَّةِ الثَّوْبِ مَا يَكْفِي لِمَا يُرِيدُهُ لِهُ. وَالتَّقْطِعُ: مُبَالَغَةٌ في الْقَطْعِ، وَيَعْني الشِّدَّةَ في ذَلِكَ القَطْعِ وَالسُّرَعَةَ فِيهِ.
فَقدْ جِيءَ بِصِيغَةَ الشَّدَّةِ فِي الْقَطْعِ هَذِهِ لِلتَّعبيرِ عَنِ السُّرْعَةِ فِي إِعْدَادِ تِلْكَ الثِّيابِ لَهُمْ. وَلا شَكَّ في أَنَّ الثِّيَابُ مِنَ النَّارِ ثِيَابٌ مُحَرِّقَةٌ لِلْجُلُودِ، بَلْ هيَ أَشَدُّ إحراقًا وإِيلَامًا، لأَنَّ المُتَعَرِّضِ للنَّارِ يُحَاوِلُ أَنْ يَبْتَعِدَ عنها ما اسْتطاعَ، فَيذْهَبُ إلى هَذِهِ الجِهَةِ أَوْ تِلْكَ محاولًا التَّخلُّصَ منها، والابْتِعَادَ عَنْهَا، وَلِكِنْ إِذَا كانتْ النارُ مُلْتَصِقَةً بجِسْمِهِ كما يلتصِقُ بِهِ الثَّوْبُ فأنَّى لَهُ أَنْ الخَلَاصُ أوِ الابتعادُ؟ وَذَلِكَ هوَ شأْنٌ مِنْ شُؤونِ عذابهِمْ في الْآخِرَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ" قَالَ: الْكَافِرُ قُطِّعَتْ لَهُ ثِيَابٌ مِن نَّارٍ، وَالْمُؤْمِنُ يُدْخِلُهُ اللهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَباركَ وَتَعَالَى: "قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَّارٍ" قالَ: أَيْ مِنْ نُّحَاسٍ، فَإنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْآنِيَةِ شَيْءٌ إِذَا حَمِيَ اشْتَدَّ، بِأَحَرَّ مِنَ النُّحاسِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمِ بْنِ يَزِيدِ بْنِ شَرِيكٍ التَّيْمِيِّ، أَنَّهُ قَرَأَ قَوْلَهُ ـ تَعَالَى: "قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَاب مِّن نَّارٍ" فَقَالَ: سُبْحَانَ مَنْ قَطَّعَ مِنَ النَّارِ ثِيَابًا.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "الْحِلْيَة"، عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كُسِيَ أَهْلُ النَّارِ، وَالْعُرْيُ كَانَ خَيْرًا لَهُمِ، وَأُعْطُوا الْحَيَاةَ، وَالْمَوْتُ كَانَ خيْرًا لَهُم.
قَوْلُهُ: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} الْحَمِيمُ: الْمَاءُ الشَّدِيدُ الْحَرَارَةِ، يُصَبُّ فَوْقَ رُؤوسِ المُشَرِكينَ أَهْلِ النَّارِ، الذينَ اتَّخَذوا لَهُم آلِهَةً مِنْ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، وهوَ لَوْنٌ مِنْ أَلْوانِ العِذَابِ الَّذي يَنْتَظِرُهُم في الآخِرَةِ ـ والعِياذُ باللهِ ـ تَعَالَى.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ وَصَحَّحَهُ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدٍ فِي (زَوَائِدُ الزُّهْدِ)، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي (الْحِلْيَة) وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ فَقَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: إِنَّ الْحَمِيمَ لَيُصَبُّ عَلَى رُؤوسِهِمْ فَيَنْفُذُ مِنَ الجُمْجُمَةِ حَتَّى يَخْلُصَ إِلَى جَوْفِهِ، فَيَسْلُتُ مَا فِي جَوْفِهِ حَتَّى يَمْرُقَ مِنْ قَدَمِهِ، وَهُوَ الصَّهْرُ، ثُمَّ يُعَادُ كَمَا كَانَ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ"، قَالَ: النُّحَاسُ يُذابُ عَلَى رُؤُوسِهِمْ.
وَفي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكريمةِ اختلافٌ بَيْنَ الرُّواةِ، فَمِنْهُمْ مَنْ عمَّمَ ومنْهم مَّنْ خصَّصَ. فقد وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ بْنِ دِعَامَةَ السَّدُوْسِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: اخْتَصَمَ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الْكِتَابِ فَقَالَ أَهْلُ الْكِتَابِ: نَبِيُّنَا قَبْلَ نَبِيِّكُمْ، وَكِتَابُنَا قَبْلَ كِتَابِكُمْ، وَنَحْنُ أَوْلَى بِالله مِنْكُم. وَقَالَ الْمُسْلِمُونَ: إِنَّ كِتَابَنَا يَقْضِي عَلَى الْكُتِبِ كُلِّهَا، وَنَبِيَّنَا خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ، فَنَحْنُ أَوْلى بِاللهِ مِنْكُمْ. فَأَفْلَجَ اللهُ أَهْلَ الْإِسْلَامِ عَلَى مَنْ نَاوَأَهُمْ، فَأْنْزَلَ ـ تَعَالَى: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ" إِلَى قَوْلِهِ: {عَذَابُ الْحَرِيقِ}.
وأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (دَلَائِلُ النُّبوَّةِ) عَنْ أَبي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يُقْسِمُ قَسَمًا إِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ: "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ" الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الثَّلَاثَةِ وَالثَّلَاثَةِ الَّذِينَ تَبَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ، وَهُمْ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُمْ، وَعُتْبَةُ وَشَيْبَةُ ابْنَا رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، قَالَ عَلِيٌّ ـ كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ: وَأَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو فِي الْخُصُومَةِ عَلَى رُكْبَتَيْهِ بَيْنَ يَدَيِ اللهِ يَوْمَ القيامَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ، مِنْ طَرِيقِ قَيْسِ بْنِ عُبَادَةَ عَنْ أَميرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيٍّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَنَا أَوَّلُ مَنْ يَجْثُو بَيْنَ يَدَيِ الرَّحْمَنِ للخُصُومَةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.
قَالَ قَيْس: فَيِهِمْ نَزَلَتْ "هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ" قَالَ: هُمُ الَّذينَ بَارَزُوا يَوْمَ بَدْرٍ: عَلِيًّا وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ، شَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةُ بْنُ رَبيعَةَ وَالوَلِيدُ ابْنُ عُتْبَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَمَّا بَارَزَ عَلَيًّا وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ، عُتْبَةُ وَشَيْبَةُ وَالْوَلِيدُ، قَالُوا لَهُمْ: تَكَلَّمُوا نَعْرِفْكُمْ. قَالَ: أَنَا عَليٌّ وَهَذَا حَمْزَةُ وَهَذَا عُبَيْدَةُ. فَقَالُوا: أَكْفَاءُ كِرَامٌ، فَقَالَ عَلِيٌّ: أَدْعُوكُمْ إِلَى اللهِ وَإِلَى رَسُولِهِ. فَقَالَ عُتْبَةُ: هَلُمَّ لِلْمُبَارَزَةِ. فَبَارَزَ عَلِيٌّ شَيْبَةَ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ قَتَلَهُ، وَبَارَزَ حَمْزَةُ عُتْبَةَ فَقَتَلَهُ، وَبَارَزَ عُبَيْدَةُ الْوَلِيدَ فَصَعُبَ عَلَيْهِ، فَأَتَى عَلِيٌّ فَقَتَلَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: "هَذَانِ خَصْمَانِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ أَبي الْعَالِيَةَ الرِّياحيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا الْتَقَوْا يَوْم بَدْرٍ، قَالَ لَهُمْ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ: لَا تَقْتُلُوا هَذَا الرَّجُلَ، فَإِنَّهُ إِنْ يَكُنْ صَادِقًا فَأَنْتُمْ أَسْعَدُ النَّاسِ بِصِدْقِهِ، وَإِنْ يَكُنْ كَاذِبًا، فَأَنْتُمْ أَحَقُّ مَنْ حَقَنَ دَمَهُ. فَقَالَ أَبُو جَهْلٍ عَمْرُو بْنُ هِشَامٍ: لَقَدِ امْتَلَأَتَ رُعْبًا. فَقَالَ عُتْبَةُ: سَتَعْلَمُ أَيَّنَا الجَبَانُ الْمُفْسِدُ لِقَوْمِهِ.
قَالَ: فَبَرَزَ عُتْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةُ بْنُ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدُ بْنُ عُتْبَةَ، فَنَادُوا النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابَهُ، فَقَالُوا: ابْعَثْ إِلَيْنَا أَكْفَاءَنَا نُقَاتِلْهُمْ. فَوَثَبَ غَلَمَةٌ مِنَ الْأَنْصَارِ مِنْ بَنِي الْخَزْرَجِ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((اجْلسُوا. قُومُوا يَا بَنِي هَاشِمٍ)). فَقَامَ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ، وَعَلِيُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ، وَعُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ، فَبَرَزُوا لَهُمْ، فَقَالَ عُتْبَةُ: تَكَلَّمُوا نَعْرِفْكُمْ، إِنْ تَكُونُوا أَكْفَاءَنَا قاتَلْنَاكُمْ. قَالَ حَمْزَةُ: أَنَا حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، أَنَا أَسَدُ اللهِ وَأَسَدُ رَسُولِهِ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. فَقَالَ عُتْبَةُ: كُفْءٌ كَريمٌ. فَقَالَ عَلِيٌّ: أَنَا عَليُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ. فَقَالَ: كُفْءٌ كَريمٌ. فَقَالَ عُبَيْدَة أَنَا عُبَيْدَةُ بْنُ الْحَارِثِ. فَقَالَ عُتْبَةُ: كُفْءٌ كَريمٌ. فَأَخَذَ حَمْزَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأَخَذَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، عُتْبَةَ بِنَ رَبِيعَةَ، وَأَخَذَ عُبَيْدَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، الْوَلِيدَ. فَأَمَّا حَمْزَةُ فَأَجَازَ عَلى شَيْبَةَ، وَأَمَّا عَليٌّ فاخْتَلَفَا ضَرْبَتَيْنِ فَأَقَامَ فَأَجَازَ عَلَى عُتْبَةَ، وَأَمَّا عُبَيْدَةُ فَأُصِيبَتْ رِجْلُهُ.
قَالَ: فَرَجَعَ هَؤُلَاءِ، وَقُتِلَ هَؤُلَاءِ، فَنَادَى أَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابُهُ: لَنَا الْعُزَّى وَلَا عُزَّى لَكُمْ. فَنَادَى مُنَادِي النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: قَتْلَانَا فِي الْجَنَّةِ وَقَتلَاكُمْ فِي النَّارِ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالى: "هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهم".
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ لَاحِقِ بْنِ حُمَيْدٍ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ يَوْمَ بَدْرٍ: "هَذَانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهم فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِن نَّارٍ" فِي عُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَشَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ، وَنَزَلَتْ: {إِنَّ اللهَ يُدْخْلُ الَّذينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الآيَةَ: 23، إِلى قَوْلِهِ: {وُهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الحَمِيدِ} الآيَةَ: 24، فِي عَلِيِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ، وَحَمْزَةَ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم.
وَالْأَظْهَرُ أَنَّ أَبَا ذَرٍّ وغيرُهُ قد عَنَى بِنُزُولِ الْآيَةِ فِي هَؤُلَاءِ، أَنَّ أُولَئِكَ النَّفَرَ السِّتَّةَ هُمْ أَبْرَزُ مِثَالٍ، وَأَشْهَرُ فَرْدٍ فِي هَذَا الْعُمُومِ، فَعَبَّرَ عَنْ ذَلِكَ بِالنُّزُولِ، وَهُوَ يُرِيدُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ يُقْصَدُ بِمَعْنَى الْآيَةِ. وَمِثْلُ هَذَا كَثِيرٌ فِي كَلَامِ الْمُتَقَدِّمِينَ.
فَالِاخْتِصَامُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ حَقِيقِيٌّ، وَمجازيٌّ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي فَإطْلاقُ الِاخْتِصَامُ عَلَى الْمُبَارَزَةِ مِنَ المَجَازِ المُرْسَلِ لِأَنَّ الِاخْتِصَامَ فِي الدِّينِ هُوَ سَبَبُ تِلْكَ الْمُبَارَزَةِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {هَذَانِ خَصْمَانِ} هَذَانِ: الهاء: للتَّنْبيهِ، وَ "ذان" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على الألِفِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ أَوْ مرفوعٌ بالابْتِدَاءِ وعلامةُ رَفعِهِ الألِفُ لأَنَّهُ مُثنى، و "خَصْمانِ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وعلامةُ رَفْعِهِ الألِفُ لأَنَّهُ مُثنَّى، وَالجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِسَرْدِ قِصَّةِ المُتَبَارِزينَ يَوْمَ بَدْرٍ، كمَا سَبَقَ الإشارةُ إِلَيْهِ في أَسْبابِ النُّزولِ، وفي الحالينِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} اخْتَصَمُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريقِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اخْتَصَمُوا"، و "رَبِّهِمْ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضفٌ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِفَةٌ لِـ "خَصْمَانِ"، وَيَجوزُ أَنْ تكونَ خَبَرًا، وَ "خَصْمَانِ" بَدَلًا مِنْ "هَذَانِ". وَإِنَّما قَالَ: "خَصْمَانِ" ثُمَّ جَمَعَ الفِعْلَ؛ لِأَنَّ الخَصْمَ هُو مَصْدَرٌ فِي الأَصْلِ، وَلِذَلِكَ فإنَّهُ يُوحَّدُ وَيُذَكَّرُ في الغَالِبِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يُثَنَّى وَيُجْمَعَ، وذلكَ مَرَاعَاةً للمَعْنَى؛ لِأَنَّ المُتَخَاصِمِينَ هنا كَانُوا فِرَقًا شَتَّى، وَطَوائفَ كَثِيرَةً.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ كَفَرُوا} فَالَّذِينَ: الفاء: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْصِيلٍ، وَ "الذينَ" اسمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الرَّفعِ بالابتداءِ خبرُهُ جُمْلةُ (قُطِّعَتْ). وَ "كَفَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الضَّمِّ لِاتِّصالِهِ بواوِ الجَمَاعةِ، وَوَاوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، وَالْأَلِفُ للتَّفريقِ. والجُملَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِّلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ "الذينَ". والجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "هذانِ خصْمانِ" عَلَى كَوْنِها مُعْتَرِضَةً، أَوْ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ َلهَا مِنَ الإِعرابِ في الحالَيْنِ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الفَاءُ: فِي قَوْلِهِ: "فَالَّذِينَ" هيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّ اللهَ ـ سُبْحَانَهُ، يَفْصِلُ بَيْنَ أُولَئِكَ الفِرَقِ، أَيْ: قَوْلهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا} الَخْ. وَأَرَدْتَ بَيَانَ كَيْفِيَّةَ الفَصْلِ بَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ، لَكَ: فَالَّذينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ .. إِلَخ. وَالْجُمْلَةُ مِنَ الْمُبْتَدَأِ وَالخَبَرِ عَلَى هَذَا الوَجْهِ، مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" الْمُقَدَّرَةِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ"، وَجُمْلَةُ "هَذَانِ خَصْمَانِ" مُعْتَرِضَةٌ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ، مَسُوقَةٌ لِبَيَانِ كَيْفِيَّةِ الفَصْلِ. كما تقدَّمَ.
قولُهُ: {قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ} قُطِّعَتْ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ). والتَّاءُ السَّاكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. وَ "لَهُمْ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ " قُطِّعَتْ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ تذِكرِ الجَمْعِ. و "ثِيَابٌ" نِائِبٌ عَنْ فَاعِلِهِ مرفوعٌ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لـ "ثِيَابٌ"، و "نَارٍ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "الذينَ"، وَالجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وَالخَبَرِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "هَذَانِ خَصْمَانِ" عَطْفَ مُفَصَّلٍ عَلَى مُجْمَلٍ.
قَوْلُهُ: {يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ} يُصَبُّ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ). وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُصَبُّ"، و "فَوْقِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ "مُضَافٌ"، و "رُءُوسِهِمُ" مَجْرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والميمُ علامةُ جمعِ المُذَكَّرِ. و "الْحَمِيمُ" نائِبُ فَاعْلٍ مَرْفوعٌ، وَالجُملةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ ثَانٍ لِلاسْمِ المَوْصُولِ، أَوْ هيَ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ الضَّميرِ فِي "لَهُمْ"، وَيُحْتَمَلُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ الْجُمْهُور: {هَذانِ} بِتَخْفِيفِ النُّونِ. وَقَرَأَ ابْنُ كَثِيرٍ "هَذانِّ" بِتَشْدِيدِها، وَهُمَا لُغَتَانِ.
قرأَ الجُمْهُورُ: {اخْتَصَمُوا} بالجَمعِ، وَقَرَأَ ابْنُ أَبِي عَبْلَةَ "اخْتَصَمَا" بالتَّثْنِيَةِ مُرَاعَاةً لِلَفْظِهِ، وَهِيَ مُخَالِفَةٌ لِقِراءةِ السَّوَادِ مِنَ القُرَّاءِ. وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ: وَأَكْثَرُ الِاسْتِعْمَالِ تَوْحِيدُهُ، فَمَنْ ثَنَّاهُ وَجَمَعَهُ حَمَّلَهُ الصِّفَاتِ والأَسْمَاءِ، وَإِنَّما جُمِعَ "اخْتَصَمُوا" حَمْلًا عَلَى المَعْنَى لِأَنَّ كُلَّ خَصْمٍ فريقٌ تَحْتَهُ أَشْخَاصٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: الخَصْمُ صِفَةٌ وُصِفَ بِهَا الفَوْجُ، أَوِ الفَريقُ، فَكَأَنَّهُ قِيلَ: هَذَانِ فَوْجَانِ، أَوْ فَريقانِ مُخْتَصِمَانِ. وَقَوْلُهُ: "خَصْمَانِ" مُرَاعاةٌ لِلفْظِ "هذان"، وَقولُهُ: "اخْتَصَمُوا" مراعاةٌ للمَعْنَى، فهوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ سيِّدِنا محمَّدِ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُواْ} الآيةَ: 16، وَلَوْ قِيلَ: هَؤُلاءِ خَصْمَانِ، وَ "اخْتَصَما" جَازَ أَنْ يُرادَ: المُؤْمِنُونَ وَالكَافِرُونَ.
قالَ السَّمينُ: إِنْ عَنَى بِقَوْلِهِ: إِنَّ "خَصْما" صِفَةٌ بِطَريقِ الاسْتِعْمَالِ المَجَازِيِّ فَمُسَلَّمٌ بهِ؛ لِأَنَّ المَصْدَرَ يَكْثُرُ الوَصْفُ بِهِ، وَإِنْ أَرَادَ أَنَّهُ صِفَةٌ حَقِيقَةً فَخَطَؤُهُ ظَاهِرٌ لِتَصْريِحِهِمْ بِأَنَّ نَحوَ "رَجُلٌ خَصْمٌ" مِثْلَ "رَجُلٌ عَدْلٌ" وَقَوْلُهُ: هَذَانِ لِلَّفْظِ، أَيْ: إِنَّمَا أُشِيرَ إِلَيْهِمْ إِشَارَةَ المُثَنَّى وَإِنْ كَانَ فِي الحَقِيقَةِ المُرَادُ الْجَمْعَ، بِاعْتِبَارِ لَفْظِ الفَوْجَيْنِ وَالْفَريقَيْنِ، وَنَحْوِهِمَا. وَقَوْلُهُ: كَقَوْلِهِمِ: {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ} إِلَى آخِرِهِ فيهِ نَظَرٌ؛ لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ شَيْءٌ لَهُ لَفْظٌ وَمَعْنًى فِي تِيكَ الآيَةِ، وَهُوَ "من"، وَهُنَا لَمْ يَتَقَدَّمْ شَيْءٌ لَهُ لَفْظٌ وَمَعْنًى. وَقَوْلَهُ: "فِي رَبِّهِمْ" أَيْ: فِي دِينِ رَبِّهِمْ، فَلَا بُدَّ مِنْ حَذْفِ مُضَافٍ. وَقَرَأَ الكِسَائِيُّ فِي رِوَايَةٍ عَنْهُ "خِصْمَانِ" بِكَسْرِ الخَاءِ.
قَرَأ الجُمْهُورُ: {قُطِّعتْ} بتشْديدِ الطاءِ، وَقَرَأَ الزَّعْفَرَانِيُّ فِي اخْتِيارِهِ "قُطِعَتْ" مُخَفَّفَ الطَّاءِ. وَالقِرَاءَةُ المَشْهُورَةُ تُفِيدُ التَّكْثِيرَ، وَهَذِهِ تَحْتَمِلُهُ.