ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ
(6)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} الإَشارَةُ بـ "ذَلِكَ" إِلَى ما تَقدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ خَلْقِ الإِنْسَانِ وَتَكْوينِهِ أَطْوارًا، وَإِحْياءِ الأرضِ بَعْدَ مَوْتِها بإنْزالِ الماءِ مِنَ السَّماءِ عَلَيْها، وَإِنْبَاتِ الزُّرُوعِ فيها تَكْوينًا وَنَمَاءً، فإِنَّ مَرَدَّ هَذَا كُلِّهِ إِلَى أَنَّ اللهَ ـ تَعَالى "هُوَ الحَقُّ".
وَالْبَاءُ قدْ تَكُونُ لِلسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ قَدْ يَكَوَّنُ مِنْ تُرَابٍ وَتَطَوَّرَ، وَإِنْزَالُ الْمَاءِ مِنَ السَّمَاءِ عَلَى الْأَرْضِ الْهَامِدَةِ، وَتَكَوُّنُ النَّبَاتِ الْبَهِيجِ، إِنَّمَا تَمَّ لَكَ كُلُّهُ بِسَبَبِ أَنَّ اللهَ ـ جلَّ وعَلا، هُوَ الْإِلَهُ الْحَقُّ لَا غَيْرُهُ مِمَّنْ تَعْبُدونَ مِنْ دونِهِ. وَقَدْ تَكُونُ لِلْمُلَابَسَةِ، أَيْ: أَنَّ ذَلِكَ الْخَلْقَ، وَالْإِنْبَاتَ لكُلِّ ما هوَ بَهِيجٌ، هُوَ مُلَابِسٌ لِحَقِّيَّةِ إِلَهِيَّةِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَهَذا مِنْ مُلَابَسَةِ الدَّلِيلِ لِمَدْلُولِهِ، وَهَوَ أَقُرَبُ مِنْ جَعْلِها سَبَبِيَّةً وَهوَ أَجْمَعُ أَيْضًا لِوُجُوهِ الِاسْتِدْلَالِ.
وَ "هُوَ الحَقُّ" أَيْ: دُونَ غَيْرِهِ مِنْ مَعْبُودَاتِكُمْ، فَإِنَّهَا لَا وُجُودَ لَهَا، كمَا قَالَ تَعَالَى في الآيةِ: 23، مِنْ هَذِهِ السُّرةِ المُباركةِ: {إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ}، فإنَّ هَذا التركيبَ يُفيدُ القَصْرَ، وَهُوَ قَصْرُ إِضَافِيٌّ.
وَ "الْحَقُّ" هُوَ الثَّابِتُ الَّذِي لَا شَكَّ فِيهِ، وَالْمَوُجُودُ الَّذي لَا مِرَاءَ في وُجُودِهِ. وَهَذَا الِاسْتِدْلَالُ هُوَ أَصْلُ بَقِيَّةِ الْأَدِلَّةِ لِأَنَّهُ كَمَا أَنَّ الشِّرْكَ هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ ضَلَالَاتِ أَهْلِهِ، كَمَا قَالَ مِنْ سُورةِ التوبةِ: {إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ} الآية: 37. فإنَّ نَقضَ الشِّركِ هوَ الأساسُ الذي تُبْنَى عَلَيْهِ كلُّ المَقُولاتِ الإِيمانيَّةِ وتنبعُ مِنْهُ وَتَتَفَرَّعُ عَنْهُ.
فقدْ نَبَّهَ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، بِهَذَا عَلَى أَنَّ كُلَّ مَا سِوَاهُ وَإِنْ كَانَ مَوْجُودًا حَقًّا، فَإِنَّهُ لَا حَقِيقَةَ لَهُ مِنْ نَفْسِهِ، لِأَنَّهُ مُسَخَّرٌ مُصَرَّفٌ. وَأَنَّ الْحَقَّ الْحَقِيقِيَّ هُوَ الْمَوْجُودُ الْمُطْلَقُ، وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ، المُسْتغني بِنَفْسِهِ عَنْ كلِّ ما عَدَاهُ، وَأَنَّ وُجُودَ كُلِّ ذِي وُجُودٍ، صادرٌ عَنْ وُجودِ واجِبِ الوُجُودِ.
وَقالَ: "الحَقّ"، وَلَمْ يَقُلِ الخالِقَ، لِأَنَّ الخَالِقَ قَدْ يَخْلُقُ شَيْئًا ثُمَّ يدَعُهُ وَيَتَخَلَّى عَنْهُ، أَمَّا الحَقُّ فَإِنَّ مَعْناهُ الثَّابِتُ الَّذي لَا يَتَغَيَّرُ، وَكَذَلِكَ مَدَدُهُ وعَطَاؤُهُ لِخَلْقِهِ، فَإِنَّهُ قَديمٌ يَتَكَرَّرُ لِجَمِيعِ خلْقِهِ.
واسْمُهُ "الحقُّ" يَدْخُلُ في أَسْمائهِ جَمِيعِها، فهُوَ المَوْجُودُ الحَقُّ، وَالخالِقُ الحَقُّ، والرَّازِقُ الحَقُّ، وَهَكَذا. وَكَذَلِكَ اسْمُهُ "العَظِيمِ"، فَإنَّهُ المَوجودُ العَظِيمُ، وَالخَالِقُ العَظِيمُ، والرَّازِقُ العَظِيمُ، وَالجَبَّارُ العَظِيمُ، وَالرَّحيمُ العَظيمُ، والمُنْتَقِمُ العظيمُ .. إِلَخِ.
فَمَنْ آمَنَ بِأَنَّ اللهَ هوَ الحَقُّ، فَقَدْ صَحَّ إِيمَانُهُ لِمَا أَخْرَجَ الْخَطِيبُ البَغْدَادِيُّ، وَابْنُ عَسَاكِرَ، عَنِ أُمِّ المُؤمنينَ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ، عَنْ أَبِيهَا الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ إِذَا صَلَّى الصُّبْحَ: ((مَرْحَبًا بِالنَّهَارِ الْجَدِيدِ، وَالْكَاتِبِ وَالشَّهِيدِ، اكْتُبَا: بِسْمِ اللهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ. أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ الدِّينَ كَمَا وَصَفَ، وَالْكِتَابَ كَمَا أَنْزَلَ، وَأَشْهَدُ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ)).
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ فِي تَارِيخِهِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، رَفَعَهُ إِلى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَنْ قَالَ فِي كُلِّ يَوْمٍ أَرْبَعَ مَرَّاتٍ: أَشْهَدُ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبينُ، وَأَنَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ، وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَديرٌ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَن اللهَ يبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، صَرَفَ اللهُ عَنْهُ السُّوءَ)).
وأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ فِي زَوَائِدِ الزُّهْدِ مِنْ مُسْنَدِ أَبيهِ، عَنْ معَاذَ بْنِ جَبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: مَنْ عَلِمَ أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، حَقٌّ، وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا، وَأَنَّ اللهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ، دَخَلَ الْجنَّةَ.
قوْلُهُ: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} تَأْكِيدٌ عَلَى البَعْثِ مِنْ بَعْدِ المَوْتِ للحِسَابِ وَالثَّوابِ أَوِ العِقَابِ، وَأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، قادِرٌ عَلَى إحْياءِ الموتى، مِنْ بعدِ فَناءِ أَجْسَادِهِم.
قوْلُهُ: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} فَهُوَ وَحْدَهُ القادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ كُلِّ مَيْتٍ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: "وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ". فَمَا دُمْتُمْ تَرَوْنَ أَنَّهُ هوَ القادِرُ عَلَى إِحْيَاءِ مَوَاتِ الأَرْضِ، فَلَا تُنْكِرُوا بَعْثَكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ، وَإِعَادَتَكُمْ إِلَى الحَيَاةِ مَرَّةً ثانيَةً. لِأَنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ يُريدُهُ قَديرٌ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} ذَلِكَ: اسْمُ إِشارةٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. والمُشارُ إِلَيْهِ مَا تَقَدَّمَ مِنْ خَلْقِ بَنِي آدَمَ وَتَطْويرِهِمْ. وَالتَّقْديرُ: ذَلِكَ الَّذي ذَكَرْنا مٍنْ خَلْقِ بَنِي آدَمَ وَتَطْويرِهِمْ حَاصِلٌ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ وَأَنَّهُ ... إِلَى آخِرِهِ، وَعَلَيْهِ فَالبَاءُ مَرْفُوعَةُ المَحَلِّ. وَيَجوزُ أَنْ يكونَ "ذَلِكَ" هُوَ الخَبَرُ لِمُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ وَالتَّقْديرُ: الأَمْرُ ذَلِكَ وَعَلَيْهِ فَالبَاءُ مَنْصوبَةُ المَحَلِّ على كونِها خَبَرًا لِفِعْلٍ نَاقِصِ تَقْديرُهُ: الأَمْرُ ذَلِكَ كائنٌ بِأَنَّ .. ، وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ "ذَلِكَ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ وَالتَّقْديرُ: فَعَلْنَا "ذَلِكَ" بِسَبَبِ أَنَّ اللهَ هُوَ الحَقُّ، وَعَلَيْهِ فَالْبَاءُ مَنْصُوبَةُ المَحَلِّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا مُتَعلِّقةٌ بِصِفَةٍ للمَفْعُولِ بِهِ. وَ "بِأَنَّ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ للسَّبَبِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ للمُبْتَدَأِ، وَالتَّقْديرُ: ذَلِكَ كَائِنٌّ بِسَبَبِ أَنَّ اللهَ .. . وَ "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، مَصْدَرِيٌّ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُ "إِنَّ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَ "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ مبنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابتِداءِ، و "الْحَقُّ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ، وهذه الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنْ المُبْتَدَأِ والخَبَرِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُ "أَنَّ". وَالمَصْدَرُ المُؤَوَّلُ مِنْ "أَنَّ" وَمَا بَعْدَهَا فِي مَحلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجرِّ، والتَّقْديرُ: ذَلِكَ كَائنٌ بِسَبَبِ كَوْنِ اللهِ هُوَ الحَقُّ. وَالجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الأوَّلِ وَخَبَرِهِ جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى} الوَاوُ: حرْفُ عَطْفٍ، وَ "أَنَّ" حرفٌّ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. وَ "يُحْيِ" فعلٌ مُضرعٌ مرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِثِقَلِ ظُهُورِهَا عَلَى الْيَاءِ. وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يعودُ على اللهِ ـ تَعَالى. و "الْمَوْتَى" مفعولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ فتحةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظُهورخا على الأَلِفِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ خَبَرُ "أَنَّ" فِي مَحَلِّ الرَّفعِ، وجملةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ" الأُولَى.
قوْلُهُ: {وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} الوَاوُ: للعطْفِ وَ "أَنَّهُ" تقدَّمَ إعرابُهُ. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "قَدِيرٌ"، و "كُلِّ" مجرورٌ بِحَرفِ الجرِّ مُضافٌ، و "شَيْءٍ" مجرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَ "قَدِيرٌ" خَبَرُ "أَنَّ" مرفوعٌ بِها، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" معْطوفةٌ عَلَى الَّتي قَبْلَهَا على كونِها في محلِّ الجَرِّ عَطْفًا على الجُمْلةِ الأُولى، وَالتَّقْديرُ: ذَلِكَ كائنٌ، بِسَبَبِ كَوْنِ اللهِ هُوَ الحَقّ، وَإِحْيَائِهِ المَوْتَى، وَقُدْرَتِهِ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ.