فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ
(50)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} آمَنُوا بِاللهِ، وكُتُبِهِ، وَرُسُلِهِ، والْيَوْمِ الآخِرِ، والقَضَاءِ خَيْرِهِ وَشَرِّهِ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، إِيمانًا لا يَشُوبُهُ أَيُّ شَكٍّ أَوْ شِرْكٍ. وَعَمِلوا مَا اسْتَطاعوا مِنَ الأَعْمالِ الصَّالحاتِ الَّتي أَمَرَهُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِهَا، عَلَى الوَجْهِ الأَكْمَلِ، عَمَلًا خَالِيًا مِنَ الرِّياءِ وَالنِّفاقِ وَالمُدَاهَنةِ، خَالِصًا لِوَجْهِ اللهِ ـ تَعَالى، واسْتِنْفادُ الوُسْعِ فِي ذَلِكَ.
ونُلاحِظُ في القُرْآنِ الكَريمِ اقْتِرانَ الإِيمانِ بالعَمَلِ الصَّالحِ دائمًا، فإِذا ذُكِرَ الإيمانُ أُعقِبَ بِكْرِ العَمَلِ الصَّالحِ. فَالإيمانُ يَجِبُ أَنْ يُتَرْجَمَ إِلَى عَمَلٍ بِمُقْتَضَاهُ، وَإِلَّا كَانَ ضَعِيفًا هَزيلًا نَاقِصًا لِأَنَّ الإيمانَ يزيدُ وينقُصُ، كما قالَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، يزيدُ بالطَّاعَةِ، وينقُصُ بالمعْصِيَةِ فَقدْ روى الإمامُ مَالكٌ، عَنْ نَافِعٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُ قالَ: قُلْنَا يَا رَسُولَ اللهِ الإِيمانُ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ؟ قَالَ: ((نَعَم، يَزيدُ حَتَّى يُدْخِلَ صَاحِبَهُ الجَنَّةَ، وَيَنْقُصُ حَتَّى يُدْخِلَ صَاحِبَهُ النَّارَ)). تَفْسيرُ: "الكَشْفُ وَالبَيَانُ عَنْ تَفْسِيرِ القُرْآنِ" للإمامِ الثَّعْلَبِيِّ: (3/211).
وأخَرجَ ابْنُ أبي شَيْبةَ في مُصَنَّفِهِ عَنِ الْحَسَنَ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ بِالتَّحَلِّي وَلَا بِالتَّمَنِّي، إِنَّمَا الْإِيمَانُ مَا وَقَرَ فِي الْقَلْبِ، وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. المُصَنَّفُ: (6/163). وَأَخْرجَهُ الإِمَامِ أَحْمَدُ في الزُّهْدِ: (4/49).
وأَخْرَجَ ابْنُ بَطَّةَ والآجُريُّ عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: إِنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَأَقُولُ: وَإِنَّ الْإِيمَانَ مَا وَقَرَ فِي الصَّدْرِ وَصَدَّقَهُ الْعَمَلُ. الإِبَانَةَ الكُبْرَى لِابْنِ بَطَّةَ: (2/850)، وَالشَّريعَةُ للآجُريِّ: (2/650). وقدْ أَشارتْ إلى ذَلِكَ آياتٌ مِنْ كِتابِ اللهِ الكريمِ، مِنْها قولُهُ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 3، مِنْ سورةِ المائدةِ: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ , وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الْإِسْلَامَ دِينًا}، ومنها قولُهُ منْ سورةِ الأَنْفَالِ: {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا} الآيةَ: 2. ومنْها قولُهُ منْ سورةِ التَّوبَةِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} الآيةَ: (124) قالَ ابنُ كثيرٍ في تَفْسِيرِهِ: (4/239): وَهَذِهِ الآيَةُ مِنْ أَكْبَرِ الدَّلائلِ عَلَى أَنَّ الإيمانَ يَزيدُ وَيَنْقُصُ، كَمَا هُوَ مَذْهَبُ أَكْثَرِ السَّلَفِ وَالخَلَفِ مِنْ أَئِمَّةِ العُلَمَاءِ، بَلْ قَدْ حَكَى الإِجْمَاعَ عَلَى ذَلِكَ غَيْرُ وَاحِدٍ.
وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قوْلُهُ ـ تَعَالى في الآيَةِ: 4، مِنْ سُورةِ الفتحِ: {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ}. وقدْ ذَهَبَ السَّلَف الصَّالحُ إِلَى أَنَّ الْإِيمَانَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ. وَأَنْكَرَ ذَلِكَ أَكْثَر الْمُتَكَلِّمِينَ، وَقَالُوا: مَتَى قِيلَ ذَلِكَ، كَانَ شَكًّا.
قَالَ الشَّيْخُ مُحْيِيِ الدِّينِ: وَالْأَظْهَرُ الْمُخْتَارُ أَنَّ التَّصْدِيقَ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ النَّظَر وَوُضُوح الْأَدِلَّة، وَلِهَذَا كَانَ إِيمَانُ الصِّدِّيقِ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْره، بِحَيْثُ لَا يَعْتَرِيهِ الشُّبْهَةُ. وَيُؤَيِّدهُ أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ يَعْلَمُ أَنَّ مَا فِي قَلْبِهِ يَتَفَاضَل، حَتَّى إِنَّهُ يَكُونُ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ الْإِيمَانُ أَعْظَمُ يَقِينًا وَإِخْلَاصًا وَتَوَكُّلًا مِنْهُ فِي بَعْضِهَا الآخَرَ، وَكَذَلِكَ فِي التَّصْدِيق وَالْمَعْرِفَة، بِحَسَبِ ظُهُور الْبَرَاهِين وَكَثْرَتهَا. وَقَدْ نَقَلَ مُحَمَّد بْن نَصْر الْمَرْوَزِيّ فِي كِتَابه "تَعْظِيمُ قَدْرِ الصَّلَاةِ" عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ الْأَئِمَّة نَحْوَ ذَلِكَ.
وَمَا نُقِلَ عَنْ السَّلَفِ صَرَّحَ بِهِ عَبْد الرَّزَّاق فِي مُصَنَّفه عَنْ سُفْيَانَ الثَّوْرِيِّ، وَمَالِكِ بْنِ أَنَسٍ، وَالْأَوْزَاعِيِّ، وَابْنِ جُرَيْجٍ، وَمَعْمَرٍ، وَغَيْرِهِمْ، وَهَؤُلَاءِ هُمْ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي عَصْرِهِمْ. وَكَذَا نَقَلَهُ أَبُو الْقَاسِم اللَّالِكَائِيُّ فِي "كِتَابِ السُّنَّةِ" عَنْ الشَّافِعِيِّ، وَأَحْمَدِ بْنِ حَنْبَلٍ، وَإِسْحَاقِ بْنِ رَاهْوَيْهِ، وأَبِي عُبَيْدٍ، وَغَيْرِهِمْ مِنْ الْأَئِمَّة. وَرَوَى بِسَنَدِهِ الصَّحِيحِ عَنْ الإمامِ الْبُخَارِيِّ قَالَ: "لَقِيتُ أَكْثَرَ مِنْ أَلْفِ رَجُلٍ مِنْ الْعُلَمَاءِ بِالْأَمْصَارِ، فَمَا رَأَيْتُ أَحَدًا مِنْهُمْ يَخْتَلِفُ فِي أَنَّ الْإِيمَانَ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ.
وَقدْ أَطْنَبَ اِبْن أَبِي حَاتِمٍ، وَاللَّالِكَائِيّ فِي نَقْل ذَلِكَ بِالْأَسَانِيدِ عَنْ جَمْعٍ كَثِيرٍ مِنْ الصَّحَابَة وَالتَّابِعِينَ، وَكُلِّ مَنْ يَدُورُ عَلَيْهِ الْإِجْمَاعُ مِنْ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم أَجمعينَ، وَحَكَاهُ الفُضَيْلُ بْنُ عِيَاضٍ، وَوَكِيعُ عَنْ أَهْلِ السُّنَّة وَالْجَمَاعَةِ.
وَقَالَ الْحَاكِم فِي مَنَاقِب الإمامِ الشَّافِعِيّ: حَدَّثَنَا أَبُو الْعَبَّاس الْأَصَمِّ، أَخْبَرَنَا الرَّبِيعُ، قَالَ: سَمِعْتُ الشَّافِعِيُّ يَقُولُ: "الْإِيمَانُ قَوْلٌ وَعَمَلٌ، وَيَزِيدُ وَيَنْقُصُ".
وَأَخْرَجَهُ أَبُو نُعَيْم فِي تَرْجَمَة الشَّافِعِيّ مِنْ الْحِلْيَة مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ الرَّبِيعِ، وَزَادَ: "يَزِيدُ بِالطَّاعَةِ، وَيَنْقُصُ بِالْمَعْصِيَةِ".
قَالَ اِبْن بَطَّالٍ: التَّفَاوُت فِي التَّصْدِيق عَلَى قَدْر الْعِلْمِ وَالْجَهْل، فَمَنْ قَلَّ عِلْمُه كَانَ تَصْدِيقُهُ مَثَلًا بِمِقْدَارِ ذَرَّة، وَالَّذِي فَوْقَهُ فِي الْعِلْمِ، تَصْدِيقُهُ بِمِقْدَارِ بُرَّة، أَوْ شَعِيرَة، إِلَّا أَنَّ أَصْلَ التَّصْدِيقِ الْحَاصِلِ فِي قَلْبِ كُلِّ أَحَدٍ مِنْهُمْ لَا يَجُوزُ عَلَيْهِ النُّقْصَان، وَيَجُوزُ عَلَيْهِ الزِّيَادَةُ، وَذلكَ بِزِيَادَةِ الْعِلْمِ وَالْمُعَايَنَة.
وأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي تَرْجَمَةِ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ مِنْ الْحِلْيَةِ قَالَ: "قِيلَ لِابْنِ عُيَيْنَةَ: إِنَّ قَوْمًا يَقُولُونَ: الْإِيمَانُ كَلَامٌ، فَقَالَ: كَانَ هَذَا قَبْل أَنْ تُنَزَّلَ الْأَحْكَام، فَأُمِرَ النَّاسُ أَنْ يَقُولُوا لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالهمْ، فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ صِدْقهمْ، أَمَرَهُمْ بِالصَّلَاةِ، فَفَعَلُوا، وَلَوْ لَمْ يَفْعَلُوا مَا نَفَعَهُمْ الْإِقْرَارُ، فَذَكَرَ الْأَرْكَانَ إِلَى أَنْ قَالَ: فَلَمَّا عَلِمَ اللهُ مَا تَتَابَعَ عَلَيْهِمْ مِنْ الْفَرَائِضِ وَقَبُولِهِمْ قَالَ: {الْيَوْم أَكْمَلْت لَكُمْ دِينكُمْ} الْآيَة، فَمَنْ تَرَكَ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ كَسَلًا، أَوْ مُجُونًا، أَدَّبْنَاهُ عَلَيْهِ، وَكَانَ نَاقِصَ الْإِيمَان، وَمَنْ تَرَكَهَا جَاحِدًا، كَانَ كَافِرًا". وَتَبِعَهُ أَبُو عُبَيْد فِي كِتَاب "الْإِيمَان" لَهُ، فَذَكَرَ نَحْوًهُ، وَزَادَ: "إِنَّ بَعْضَ الْمُخَالِفِينَ لَمَّا أُلْزِمَ بِذَلِكَ، أَجَابَ بِأَنَّ الْإِيمَانَ لَيْسَ هُوَ مَجْمُوعُ الدِّين، إِنَّمَا الدِّينُ ثَلَاثَة أَجْزَاء: الْإِيمَانُ جُزْء، وَالْأَعْمَالُ جُزْءَانِ، لِأَنَّهَا فَرَائِضُ وَنَوَافِل".
وَتَعَقَّبَهُ أَبُو عُبَيْد بِأَنَّهُ خِلَافُ ظَاهِرِ الْقُرْآن، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللهِ الْإِسْلَامُ}، وَالْإِسْلَامُ حَيْثُ أُطْلِقَ مُفْرَدًا، دَخَلَ فِيهِ الْإِيمَانُ كَمَا تَقَدَّمَ تَقْرِيرُه. وَمَنْ اِعْتَرَضَ عَلَى الْمُصَنِّف (البُخَاري) بِأَنَّ آيَةَ {أَكْمَلْتُ لَكُمْ} لَا دَلِيلَ فِيهَا عَلَى مُرَادِهِ؛ لِأَنَّ الْإِكْمَالَ إِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِظْهَارِ الْحُجَّةِ عَلَى الْمُخَالِفِينَ أَوْ بِمَعْنَى إِظْهَار أَهْلِ الدِّينِ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، فَلَا حُجَّةَ لِلْمُصَنِّفِ فِيهِ. وَإِنْ كَانَ بِمَعْنَى إِكْمَالِ الْفَرَائِض، لَزِمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ كَانَ قَبْلَ ذَلِكَ نَاقِصًا، وَأَنَّ مَنْ مَاتَ مِنْ الصَّحَابَةِ ـ رُضْوانُ اللهِ عَلَيْهِمْ، قَبْلَ نُزُولِ الْآيَةِ، كَانَ إِيمَانُهُ نَاقِصًا. وأُجيبَ عَنْ ذَلَكَ: أَنَّ الْأَمْرَ لَيْسَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ الْإِيمَانَ لَمْ يَزَلْ تَامًّا. وَيُوَضِّحُ دَفْعَ هَذَا الِاعْتِرَاضِ جَوَابُ الْقَاضِي أَبِي بَكْرِ بْنِ الْعَرَبِيِّ بِأَنَّ النَّقْصَ أَمْرٌ نِسْبِيّ، لَكِنْ، مِنْهُ مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ الذَّمُّ، وَمِنْهُ مَا لَا يَتَرَتَّبُ.
فَالْأَوَّل: هو مَا كانَ نَقْصُهُ بِالِاخْتِيَارِ، كَمَنْ عَلِمَ وَظَائِفَ الدِّين، ثُمَّ تَرَكَهَا عَامِدًا.
وَالثَّانِي: مَا كانَ نَقْصُهُ بِغَيْرِ اِخْتِيَار، كَمَنْ لَمْ يَعْلَمْ، أَوْ لَمْ يُكَلَّف، فَهَذَا لَا يُذَمُّ، بَلْ يُحْمَدُ مِنْ جِهَةِ أَنَّهُ كَانَ قَلْبُهُ مُطَمْئِنًا بِأَنَّهُ لَوْ زِيدَ لَقَبِلَ، وَلَوْ كُلِّفَ لَعَمِلَ، وَهَذَا شَأْنُ الصَّحَابَةِ الَّذِينَ مَاتُوا قَبْل نُزُولِ الْفَرَائِض ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُمْ، فإنَّ النَّقْصَ بِالنِّسْبَةِ إِلَيْهِمْ هو صُورِيٌّ نِسْبِيٌّ، وَلَهُمْ فِيهِ رُتْبَةُ الْكَمَالِ مِنْ حَيْثُ الْمَعْنَى. وَهَذَا نَظِيرُ قَوْلِ مَنْ يَقُول: إِنَّ شَرْعَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، أَكْمَلُ مِنْ شَرْعِ مُوسَى وَعِيسَى ـ عليهِما السَّلامُ، لِاشْتِمَالِهِ مِنْ الْأَحْكَامِ عَلَى مَا لَمْ يَقَعْ فِي الْكُتُبِ الَّتِي قَبْلَه، وَمَعَ هَذَا، فَشَرْعُ مُوسَى فِي زَمَانِه كَانَ كَامِلًا، وَتَجَدَّدَ فِي شَرْعِ عِيسَى بَعْدَه مَا تَجَدَّدَ، فَالْأَكْمَلِيَّةُ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ كَمَا تَقَرَّرَ.
وَقَدْ جَزَمَ السُّدِّيّ بِأَنَّهُ لَمْ يَنْزِلْ بَعْدَ هَذِهِ الْآيَةِ شَيْءٌ مِنْ الْحَلَالِ وَالْحَرَام، وَالله أَعْلَم.
وقالَ الإمامُ النوويُّ في شَرْحِهِ عَلَى صحيحَ مُسْلِمٍ: (.. فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَاهُ مِنْ مَذَاهِبِ السَّلَفِ وَأَئِمَّةِ الْخَلَفِ، فَهِيَ مُتَظَاهِرَةٌ مُتَطَابِقَةٌ عَلَى كَوْنِ الْإِيمَانِ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ، وَهَذَا مَذْهَبُ السَّلَفِ وَالْمُحَدِّثِينَ وَجَمَاعَةٍ مِنَ الْمُتَكَلِّمِينَ. وَأَنْكَرَ أَكْثَرُ الْمُتَكَلِّمِينَ زِيَادَتَهُ وَنُقْصَانَهُ، وَقَالُوا: مَتَى قَبِلَ الزِّيَادَةَ كَانَ شَكًّا وَكُفْرًا. قَالَ الْمُحَقِّقُونَ مِنْ أَصْحَابِنَا الْمُتَكَلِّمِينَ: نَفْسُ التَّصْدِيقِ لَا يَزِيدُ وَلَا يَنْقُصُ، وَالْإِيمَانُ الشَّرْعِيُّ يَزِيدُ وَيَنْقُصُ بِزِيَادَةِ ثَمَرَاتِهِ، وَهِيَ الْأَعْمَالُ وَنُقْصَانِهَا. قَالُوا: وَفِي هَذَا تَوْفِيقٌ بَيْنَ ظَوَاهِرِ النُّصُوصِ ـ الَّتِي جَاءَتْ بِالزِّيَادَةِ، وَأَقَاوِيلِ السَّلَفِ، وَبَيْنَ أَصْلِ وَضْعِهِ فِي اللُّغَةِ، وَمَا عَلَيْهِ الْمُتَكَلِّمُونَ. وَهَذَا الَّذِي قَالَهُ هَؤُلَاءِ ـ وَإِنْ كَانَ ظَاهِرًا حَسَنًا، فَالْأَظْهَرُ ـ وَاللهُ أَعْلَمُ، أَنَّ نَفْسَ التَّصْدِيقِ يَزِيدُ بِكَثْرَةِ النَّظَرِ وَتَظَاهُرِ الْأَدِلَّةِ، وَلِهَذَا يَكُونُ إِيمَانُ الصِّدِّيقِينَ أَقْوَى مِنْ إِيمَانِ غَيْرِهِمْ، بِحَيْثُ لَا تَعْتَرِيهِمُ الشُّبَهُ، وَلَا يَتَزَلْزَلُ إِيمَانُهُمْ بِعَارِضٍ، بَلْ لَا تَزَالُ قُلُوبُهُمْ مُنْشَرِحَةً نَيِّرَةً، وَإِنِ اخْتَلَفَتْ عَلَيْهِمُ الْأَحْوَالُ، وَأَمَّا غَيْرُهُمْ مِنَ الْمُؤَلَّفَةِ، وَمَنْ قَارَبَهُمْ وَنَحْوِهِمْ، فَلَيْسُوا كَذَلِكَ، فَهَذَا مِمَّا لَا يُمْكِنُ إِنْكَارُهُ، وَلَا يَتَشَكَّكُ عَاقِلٌ فِي أَنَّ نَفْسَ تَصْدِيقِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، لَا يُسَاوِيهِ تَصْدِيقُ آحَادِ النَّاسِ، وَلِهَذَا قَالَ البُخَارِيُّ في صَحِيحِهِ، قالَ ابْنُ أَبِي مُلَيْكَةَ: أَدْرَكْتُ ثَلَاثِينَ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلُّهُمْ يَخَافُ النِّفَاقَ عَلَى نَفْسِهِ، مَا مِنْهُمْ أَحَدٌ يَقُولُ إِنَّهُ عَلَى إِيمَانِ جِبْرِيلَ وَمِيكَائِيلَ، وَاللهُ أَعْلَم. شَرْحُ النَّوَوِيِّ عَلَى مُسْلِمٍ: (1/148 ـ 149).
قولُهُ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} إِخْبَارٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، بأَنَّهُ سَيَغْفِرُ لِمَنْ آمَنَ باللهِ رَبِّ العَالَمَينَ وَعَمِلَ صَالحًا، ووعْدٌ لَهُ بالرِّزْقِ الكريمِ.
فَالْمَغْفِرَةُ: غُفْرَانُ مَا قَدَّمُوهُ مِنَ الشِّرْكِ وَضَلَالَاتِهِ وَمَفَاسِدِهِ، وَمَا يَتْبَعُ ذلكَ مِنْ شَرَائِعِ الشِّرْكِ وعقائدِهِ. وَهَذِهِ الْمَغْفِرَةُ تُفْضِي إِلَى نَعِيمِ الْآخِرَةِ، فَالْمَعْنَى: أَنَّهُمْ فَازُوا فِي الدَّارِ الْآخِرَةِ. والمَغْفِرَةُ: مِنْ غَفَرَ، يَغْفِرُ، غَفْرًا، وغُفرانًا. وَغَفِرَ "بالكَسْرِ" يَغْفَرُ غَفَرًا، لُغَةٌ فِيهِ. وَالغَفْرُ: التَغْطِيَةُ والسَّتْرُ. يُقَالُ غَفَرَتُ الشَّيْءَ: أَيْ جَعَلْتُهُ فِي وِعَاءِ وَغَطَّيْتُهُ. وَغَفَرَ الجُرْحُ، وَالمَريضُ نُكِسَ، والعاشِقُ عَادَهُ العِشْقُ بَعْدَ سَلْوةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ مَرَّارُ الفَقْعَسِيُّ:
خَلِيليّ إِنَّ الدَّارَ غَفْرٌ لِذِي الهَوَى .. كَمَا يَغْفِرُ المَحْمُومُ أَوْ صَاحِبُ الكَلْمِ
والغَفْرُ أَيْضًا: شَعَرٌ كالزَّغَبِ يَكونُ عَلى سَاقِ المَرْأَةِ وَالْجَبْهَةِ وَنَحْوِ ذَلِكَ، وزِئْبِرُ الثَّوبِ أيْضًا غَفْرٌ.
وَالرِّزْقُ: الْعَطَاءُ. وَوَصْفُهُ بِالـ "كَرِيم" يَجْمَعُ وَفْرَتَهُ إِلَى صَفَائِهِ مِنَ الْمُكَدِّرَاتِ كَما قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 8، مِنْ سورةِ فُصِّلت: {لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ}، أَيْ لهُمُ الْجَنَّةُ. فقد أَخْرَجَ بْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِذَا سَمِعْتَ اللهَ يَقُولُ: "وَرِزْقٌ كَريمٌ"، فَهِيَ الْجنَّةُ.
وَمِنَ الرِّزْقِ ما هُوَ حَاصِلٌ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا، فَهُمْ مُتَمَتِّعُونَ بِانْشِرَاحِ صُدُورِهِمْ، وَرِضَاهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ، وَأَعْظَمُ الرِّزْقِ مَا يَحْصُلُ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ ـ إنْ شاءَ اللهُ تَعَالَى.
قولُهُ تَعَالى: {فَالَّذِينَ} الفاءُ: هيَ الفَصيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ، والتقديرُ: إِذَا قُلْتَ لَهُمْ: يَا أَيُّها النَّاسُ، إِنَّما أَنَا لَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذيرٌ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ مَآلِهِمْ، فَأَقولُ لَكَ: "الَّذينَ آمَنُوا". و "الذينَ" اسْمٌ موصولٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في مَحلَّ الرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ أَوَّلُ، خبرُهُ جُمْلَةُ "لَهُمْ مَغفرةٌ". وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ القولِ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {آمَنُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهً: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "عَمِلُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. وَ "الصَّالحاتِ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ نِيَابَةً عَنِ الفَتْحَةِ لأنَّهُ جمعُ المذَكَّرِ السَّالِمُ. والجُمْلةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آمَنوا" الفعليَّةِ أَيْضًا على كونِها صِلَةَ الاسْمِ الموصولِ "الذينَ" فليسَ لها محلٌّ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ} لَهُمْ: اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ علامةُ جَمْعُ المُذكَّرِ. و "مَغْفِرَةٌ" مُبْتَدَأٌ ثانٍ مُؤَخَّرٌ مَرْفوعٌ. و "وَرِزْقٌ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَغْفِرَةٌ" مَرْفوعٌ مِثْلُهُ. و "كَرِيمٌ" صِفَةٌ لِـ "رِزْقٌ" مَرفوعةٌ مِثْلُهُ، وَالجُمْلَةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الثَّانِي وَخَبَرِهِ فِي مَحَلَّ الرَّفْعِ خَبَرٌ لِلْأَوَّلِ.