ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ
(61)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} ذَلِكَ: إِشَارةٌ إَلَى النَّصْرِ الَّذي وَعَدَ اللهُ بِهِ نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَعِبَادَهُ المُؤْمِنينَ ـ رَغْمَ ضَعْفِهِمْ وَقِلَّةِ عَدَدِهم، وَعُدَدِهِمْ، عَلَى المُشْرِكِينَ بالرَّغمِ مِنْ قُوَّتِهِم وكَثْرَةِ عَدَدِهِمْ وعُدَدِهِمْ، وذلكَ بقولِهِ في الآيةِ الَّتي قبلَها الآيةَ: 60: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ}.
وَالباءُ في "بِأَنَّ اللهَ" سببيَّةٌ تَعليليَّةٌ، إِذًا فالإِشارةُ هِيَ إِلَى النَّصْرِ الَّذي يَعْنِي تَغْلِيبَ فَريقٍ مِنَ الفَريقَيْنِ المُتَصَارِعَيْنِ عَلَى الفَريقِ الآخَرِ. فَضَرَبَ لَهُ مَثَلًا تَغْلِيبَ مُدَّةِ النَّهَارِ عَلَى مُدَّةِ اللَّيْلِ فِي بَعْضِ الأَوْقاتِ مِنَ السَّنَةِ، وَتَغْلِيبَ مُدَّةِ اللَّيْلِ عَلَى مُدَّةِ النَّهَارِ فِي بَعْضِهَا الآخَر. وَالتَّضَادِّ بَيْنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَالظُّلْمَةِ وَالنُّورِ، والصِّراعُ المُستمرُّ المُتَكَرِّرُ أَمْرٌ مَشْتَهَرٌ، وَقَرِيبٌ مِنْ هَذِهِ الاسْتِعَارَةِ وَالتَّشْبيهِ اسْتِعَارَةُ التَّلْبِيسِ لِإِقْحَامِ كتيبةٍ فِي كتيبةٍ أُخْرى لِلْالتِحَامِ في سَاحِ الوَغَى، قَالَ الْمَرَّارُ السُّلَمِيِّ:
وَكَتِيبَةٍ لَبَّسْتُهَا بِكَتِيبَةٍ حَتَّى ............... إِذَا الْتَبَسَتْ نَفَضْتُ لَهَا يَدِي
فَخَبَرُ المُبْتَدَأِ الذي هوَ اسْمِ الْإِشَارَةِ في هَذِهِ الآيَةِ الْكَريمَةِ هُوَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى: "بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهار".
وَجائزٌ أَنْ يَكُونَ اسْمُ الْإِشَارَةِ تَكْرِيرًا لِمَثيلِهِ السَّابِقِ مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَهَا، وَذَلِكَ لِقَصْرِ تَوْكِيدِهِ، فَإِنَّهُ مُتَّصِلٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" مِنْ هَذِهِ الآيَةِ، مُرْتَبِطَةٌ بِجُمْلَةِ {وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} مِنَ الآيةِ الَّتي قَبْلَهَا، وَلِذَلِكَ صَحَّ تَعْليقُ قولِهِ "بِأَنَّ اللهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" بِقَوْلِهِ: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ} مِنَ الْآيَةَ: 60، السَّابِقَةِ.
ومعنى إِيلَاجُ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ: أَنْ يَغْشَى ضَوْءُ النَّهَارِ ظُلْمَةَ اللَّيْلِ وَيَطْغَى عَلَيْها، وَبالعَكْسِ فإنَّ إِيلَاجَ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ يعني طُغْيَانَ ظُلْمَةِ اللَّيْلِ عَلَى ضَوْءِ النَّهَارِ. فَالْمُولَجُ في الشَّيْء هُوَ الْمَخْفِيُّ فيهِ بالتَّدْريجِ شَيْئًا فشيْئًا، وَهُوَ كِنَايةٌ عَنْ انْقِضَاءِ مُدَّتِهِ الَّتي حَدَّدَها لَهُ اللهُ ـ تَعَالَى. وَهَذِهِ اسْتِعَارَةٌ بَدِيعَةٌ، فَقدْ شَبَّهَ ذَلِكَ بِعَمَلِيَّةِ إِيلَاجَ شَيْءٍ فِي شَيْءٍ آخَرَ، فإِنَّهُ يُدْخَلُ فِيهِ شَيْئًا فَشَيْئًا. وَفِي ذَلِك أَيضًا إِيمَاءٌ إِلَى تَقَلُّبِ الأَزَّمَانِ وتغَيُّرِ الأحْوالِ، إِذْ يَتَحَوَّلُ المُهَيْمِنُ مُهَيْمَنًا عَلَيْهِ حِينًا، ثُمَّ تَعُودُ الْغَلَبَةُ إِلى المَغْلُوبِ فَيُهَيمِنُ مَرَّةً أُخْرى وَهَكَذَا.
وَفِيهِ تَنْبِيهٌ عَلَى عَظَمةِ اللهِ ـ تَعَالَى، وإشارةٌ إِلَى كَمَالِ قُدْرَتِهِ وتمامِ قُوَّتِهِ بِحَيْثُ تَتَعَلَّقُ بِالْأَفْعَالِ الْمُتَضَادَّةِ وَلَا تَلْزَمُ طَرِيقَةً وَاحِدَةً بَلْ تتعَدَّدُ الطُّرُقُ والأساليبُ.
وَفِيهِ لَفْتٌ لِلْأَنْظارِ أَيْضًا بِأَنَّ الْعَذَابَ الَّذِي اسْتَبْطَأَهُ الْمُشْرِكُونَ آتٍ لا مَحالةَ عَنْدَ حُلُولِ أَجَلِهِ ووقتِهِ الَّذي حَدَّهُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، الَذي أَجَّلَ الآجالَ وأَقَّتَ الأَوقاتَ، ولكنْ {لكُلِّ أَجَلٍ كتابٌ} كَمَا قالَ ـ تَعالى، في الآيةِ: 30، مِنْ سُورَةِ: الرَّعْدِ، {فإِذَا جاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُون} الآيةَ: 34، مِنْ سُورةِ الأعرافِ وغيرِها.
وَذِكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ هنا لِتَشْبِيهِ الْكُفْرِ بِاللَّيْلِ، وَالْإِيمانِ بِالنَّهَارِ فإِنَّ الْكُفْرَ ضَلَالٌ في الاعْتِقَادِ، والكافِرِ كَمَنْ يَمْشِي خبطَ عشواءَ فِي ظَلامِ اللَّيْلِ، أَمَّا الْإِيمَانَ فنُورٌ تُجْلى بِهِ حقائقُ الأُمورِ فيَقطَعُ المُؤْمِنُ مَفازةَ الحياةِ على بَصيرةٍ مِنْ أَمْرِهِ وَنُورٍ مِنْ ربِّهِ، فهوَ كالَّذي يسيرُ في ضوءِ النَّهَارِ مُبْصِرًا طريقَهُ، عالمًا بكلِّ ما يُحيطُ بِهِ مِنْ مَخَاطِرَ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} سَميعٌ: للمُبالغَةِ في السَّمعِ فيسْمَعُ صوتَ كُلِّ شيْءٍ مَهَمَا كانَ منخَفضًا. و "بَصِيرٌ" للمُبالغَةِ في الإبْصارِ مهما بَلَغَ الشَّيْءِ مِنَ صِغَرِ الحجْمِ، إِذًا فَلَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيءٌ أَبَدًا مَهْما كانَ وأينما كانَ، كما قالَ في الآيَةِ: 5، مِنْ سُورةِ: آل عِمرانَ: {إِنَّ اللهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاء}.
وطالَمَا أَنَّهُ يَرَى كلَّ شَيْءٍ ويسْمَعُ كُلَّ شيْءٍ ولا يَخْفَى عليْهِ شَيْءٌ، فهُوَ إِذًا عالمٌ بكلِّ شَيْءٍ، إِذًا فهوَ يَرَى ما يَفْعَلُ المُشْرِكونَ وَيَسْمَعُ ما يقولونَ، ولَسَوفَ يُنْجِزُ فيهِمْ وعيدَهُ، ويُنزِلُ فيهم عقابَهُ، عندما يحينُ حينُ ذلكَ العِقابِ، وتَأْزِفُ ساعَةُ العَذابَ.
قولُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ} ذَلِكَ: "ذَا" اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللَّامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. والجُمْلةُ مُسْتَأْنَفَةٌ تَعْلِيلِيَّةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَالتَّقْديرُ: ذَلِكَ كَائِنٌ بِسَبَبِ قُدْرَةِ اللهِ ـ تَعَالَى، عَلَى إِيلَاجِ اللَّيْلِ فِي النَّهَارِ.
قوْلُهُ: {بِأَنَّ اللهَ} الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بالخَبَرِ المُقَدَّرِ للمُبْتَدَأِ. وَ "أَنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوْكيدِ. وَلَفْظُ الجَلالَةِ "اللهَ" اسُمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. وخَبَرُهُ جملةُ "يولِجُ". وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بالبَاءِ. والتَّقْديرُ: ذَلِكَ بِسَبَبِ إِيلاجِ اللهِ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ.
قوْلُهُ: {يُولِجُ اللَّيْلَ في النَّهارِ} يُولِجُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" تَعَالى. و "اللَّيْلَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "في" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بـ "يولِجُ"، و "اللَّيْلِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قوْلُهُ: {وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ} الواوُ: للعَطْفِ، و "يُولِجُ النَّهارِ في اللَّيْلِ" مِثْلُ جُمْلَةِ "يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ" معطوفةٌ عَلَيْهَا وَلَهَا مِثْلُ إِعْرابِها.
قوْلُهُ: {وَأَنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ} الوَاوُ: حرفُ عطْفٍ، وَ "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيد. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، و "سَمِيعٌ" خَبَرُ "أنَّ" الأَوَّلُ مَرفوعٌ. و "بَصِيرٌ" خَبَرُها الثاني مرفوعٌ بِها أَيْضًا. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ" الأُولَى، على كونِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بالبَاءِ.
قَرَأَ العَامَّةُ" {أَنَّ} الثانيةَ بِالْفَتْحِ عَطْفًا عَلَى الأُولَى، وَقَرَأَ الحَسَنُ "إِنَّ" بِكَسْرِهَا عَلَى الاسْتِئْنافِ.