الموسوعةُ القرآنيةُ (فيضُ العليم مِن معاني الذكْر الحكيم) سورةُ الحج، الآية: 36
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَالْبُدْنَ} البُدْنُ: جمعُ بَدَنَةٍ، وهيَ الْبَعِيرُ الْعَظِيمُ الجُثَّةِ السَّمينُ، سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِضَخَامَةِ جَسَدِها وسِمَنِها، وَتَكُونُ مِنَ الإِبِلِ، أَوِ البَقَرِ، ذَكَرًا أوْ أَنْثَى، وَهُوَ مُشْتقٌّ مَنَ البَدَنِ الَّذي هُوَ الجَسَدُ. قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورةِ يونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً} الآيَةَ: 92، أَيُّ: نُنْجِّيكَ بِجَسَدٍ لَا رُوحَ فِيهِ. وَقَدْ قُدِّمَ "الْبُدْنَ" عَلَى عَامِلِهِ تَنْوِيهًا بِشَأْنِهَا لِلِاهْتِمَامِ بِهَا.
والبَدَنُ، والبَدَانَةُ: السِّمَنُ وضَخَامَةُ الجَسَدِ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: إِنَّمَا سُمِّيَتِ الْبُدْنَ مِنْ قِبَلِ السِّمَانَةِ. تَقُولُ مِنْهُ: بَدَنَ الرَّجَلُ يَبْدُنُ بُدْنًا، إِذَا ضَخُمَ. وَبَدُنَ منْ كَ "كَرُمَ"، وَبَدَنَ ك "نَصَرَ" يَبْدُنُ بَدانَةً، فَهُوَ بَادِنٌ، وَامْرَأَةٌ بَادِنٌ أَيْضًا، وبَدينٌ.
وَقيلَ للرَّجُلِ المُسِنِّ: هوَ بَدَنٌ، لِأَنَّهُ يَكُونُ ضَخْمَ الجُثَّةِ ـ غَالبًا، عَكْسَ الفَتِيِّ فَإِنَّهُ ـ فِي الغَالِبِ، يَكُونُ نَحِيفًا رَشِيقًا. وَفِي الحَديثِ الشَّريفِ قولُهُ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((لَا تُبَادِرُونِي بِرُكُوعٍ وَلَا بِسُجُودٍ فَإِنَّهُ مَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا رَكَعْتُ تُدْرِكُونِي إِذَا رَفَعْتُ وَمَهْمَا أَسْبِقْكُمْ بِهِ إِذَا سَجَدْتُ تُدْرِكُونِي إِذَا رَفَعْتُ إِنِّي قَدْ بَدَّنْتُ))، يَقولُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: كَبِرْتُ وَأَسْنَنْتُ وأَصْبَحَتْ حَرَكَتِي بَطِيئَةً. أَخْرَجَهُ الإمامُ أَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ في مُسْندِه: (34/198)، عَنْ مُعَاوِيَةَ بْنِ أَبِي سُفْيَانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، ومِنْهُ قَوْلُ الأَسْوَدِ بْنِ يَعْفُرَ:
هَلْ لِشَبَابٍ فَاتَ مِنْ مَطْلَبِ ................ أَمْ مَا بُكاءُ البَدَنِ الأَشْيَبِ
وَقَالَ الراجزُ حُمَيْدٌ الأَرْقَطُ:
وَكُنْتُ خِلْتُ الشَيْبَ والتَبْدِينا ................. والهَمَّ مِمَّا يُذْهِلُ القَرينَا
وَالبَدَنَةُ: نَاقَةٌ أَوْ بَقَرَةٌ تُنْحَرُ بِمُكَّةَ، وَتُجْمَعُ عَلَى "بُدُنٍ". وَقَدْ سُمِّيَتْ بِذَلِكَ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يُسَمِّنُونَها. فقدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ عَنْ أَبي الأَشَدِّ الأَسْلَمِيِّ عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدِّهِ ـ رَضِيَ الله عَنْهٌ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّ أَفْضَلَ الضَّحَايَا أَغْلَاهَا وَأَسْمَنَهَا.
وَأَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ في "الْحِلْيَة" عَنِ سُفانَ بْنِ عُيَيْنَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: حَجَّ صَفْوَانُ بْنُ سُلَيْمٍ وَمَعَهُ سَبْعَةُ دَنَانِيرَ، فَاشْتَرَى بِهَا بَدَنَةً، فَقِيلَ لَهُ: لَيْسَ مَعَكَ إِلَّا سَبْعَةُ دَنَانِيرَ تَشْتَرِي بِهَا بَدَنَةً؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: "لَكُمْ فِيهَا خيْرٌ". حليةُ الأولياءِ: (3/160).
وأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: حَجَّ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيَّبِ، وَحَجَّ مَعَهُ ابْنُ حَرْمَلَةَ، فَاشْتَرَى سَعِيدٌ كَبْشًا فَضَحَّى بِهِ، وَاشْتَرَى ابْنُ حَرْمَلَةَ بَدَنَةً بِسِتَّةِ دَنَانِيرَ فَنَحَرَها. فَقَالَ لَهُ سَعِيدٌ: أَمَا كَانَ لَكَ فِينَا أُسْوَةً؟ فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ اللهَ يَقُولُ: "وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ" فَأَحْبَبْتُ أَنْ آخُذَ الْخَيْرَ مِنْ حَيْثُ دَلَّنِي اللهُ عَلَيْهِ، فأَعْجَبَ ذَلِكَ ابْنَ الْمُسَيَّبِ مِنْهُ، وَجَعَلَ يُحَدَّثُ بِهَا عَنْهُ.
وَقَدِ اخْتَلَفَ العُلَمَاءُ، والفُقَهَاءُ، وأَئمَّةُ اللُّغَةِ في البُدْنِ، فَمِنْهُمْ مَنْ قالَ: هِي الإِبِلُ لَا غَيْرَ. كَالإمامِ مُجَاهِدِ بْنُ جَبْرٍ، أَبُو الحَجَّاجِ المَكِّيُّ الأَسْوَدُ، شَيْخُ القُرَّاءِ وَالمُفَسِّرِيْنَ ـ رَضِي اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْبُدْنُ إِلَّا مِنَ الإِبِلِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الخطَّابِ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُما، قَالَ: الْبَدْنَةُ ذَاتُ الْخُفّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَبْدُ الكَرِيْمِ بنُ مَالِكٍ أَبُو سَعِيْدٍ الجَزَرِيُّ الحَرَّانِي: قَالَ: اخْتَلَفَ عَطاءٌ وَالْحَكَمُ بْنُ عُتَيْبَةَ الكِنْدِيُّ، فَقَالَ عَطَاءٌ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ: الْبُدْنُ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ، وَقَالَ الحَكَمُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: مِنَ الإِبِلِ.
وَقد اقْتُصِرَ عَلَى لفظِ "الْبُدْنِ" الْخَاصِّ بِالْإِبِلِ، لِأَنَّهَا أَفْضَلُ فِي الْهَدْيِ لِكَثْرَةِ لَحْمِهَا، وَقَدْ أُلْحِقَتْ بِهَا الْبَقَرُ وَالْغَنَمُ في السُّنَّةِ النَّبويَّةِ المُطَهَّرَةِ توْسِعَةً عَلَى الأُمَّةِ، وَسُمِّ ذَلِكَ هَدْيًا.
وَمِنَ المُفَسِّرينَ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ تَعَالى، مَنْ قالَ هِيَ البَقَرُ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإمامِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: الْبُدْنُ مِنَ الْبَقَرِ.
وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ البُدْنُ تَكُونُ مِنَ الإِبِلِ وَتَكونُ مِنَ البَقَرِ، فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ ـ رَضِي اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَدْنُ: الْبَعِيرُ وَالْبَقَرَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ: لَا نَعْلَمُ الْبُدْنَ إِلَّا مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ.
وَأَخْرَجَ عَنْهُ أَيْضًا ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، أَنَّهُ قَالَ: الْبَدْنَةُ ذَاتُ الْبَدَنِ مِنَ الْإِبِلِ وَالْبَقَرِ.
وَلَقَدْ فَصَّلَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، فِي ذَلِكَ بِأَنَّهُ يَعُودُ للمُتَوَفِّرِ عِنْدَ المُضَحِّي، فَصَاحِبُ الإِبِلِ تَكُونُ بَدَنَتُهُ مِنَ الإِبِلِ، وَصَاحِبُ البَقَرِ تَكونُ بَدَنَتُهُ مِنَ البَقَرِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ يَعْقُوبَ الرِّيَاحيِّ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ أَوْصَى إِلَيَّ رَجُلٌ، وَأَوْصَى بِبَدَنَةٍ، فَأَتَيْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، فَقُلْتُ لَهُ: إِنَّ رَجُلًا أَوْصَى إِلَيَّ وَأَوْصَى إِلَيَّ بِبَدَنَةٍ، فَهَلْ تُجْزِئُ عَنِّي بَقَرَةٌ؟ قَالَ: نَعَمْ. ثُمَّ قَالَ: مِمَّنْ صَاحِبُكُم؟ فَقُلْتُ: مِنْ بَنِي رِيَاحٍ. قَالَ: وَمَتَى تَقْتَنِي بَنُو ريَاحٍ الْبَقَرَ إِلَّا الْإِبِلَ؟ وَهُوَ صَاحِبُكُمْ، وَإِنَّمَا الْبَقَرُ لِأَسَدٍ وَعَبْدِ الْقَيْسِ.
وَأَكْثَرُ الفُقَهَاءِ عَلى أَنَّ البُدْنَ هِيَ الإبِلُ، وَهُوَ المُوَافِقُ لِلُّغَةِ. لَكِنَّ البَقَرَ تَقُومُ مَقَامَهَا فِي الحُكْمِ، لِأَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَعَلَ البَدَنَةَ عَنْ سَبْعَةٍ، وَالبَقَرَةَ عَنْ سَبْعَةٍ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللهِ} أَيْ: جَعَلَهَا مَعَالِمَ تُؤْذِنُ بِالْحَجِّ وَجَعَلَ لَهَا حُرْمَةً. فكانوا يَضَعونَ عَلَيْهَا عَلَامَةً فِي الجِلْدِ إِشْعَارًا بِأَنَّهَا هَدْيٌ. قَالَ نَافِعٌ كَانَ ابْنُ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، إِذَا أَهْدَى مِنْ الْمَدِينَةِ قَلَّدَهُ وَأَشْعَرَهُ بِذِي الْحُلَيْفَةِ، يَطْعُنُ فِي شِقِّ سَنَامِهِ الْأَيْمَنِ بِالشَّفْرَةِ، وَوَجْهُهَا قِبَلَ الْقِبْلَةِ بَارِكَةً. أَخْرجَهُ الأَئِمَّةُ: مالكٌ في مُوطَّئهِ: (3/151)، والبُخَارِيُّ في صَحيحهِ: (6/157)، والبَيْهَقِيُّ في "السُّنَن الكُبرى": (5/379). والنَّصُّ للبُخَارِي.
فَالْإِشْعَارُ إِعْدَادٌ لِلنَّحْرِ. أَيْ: أَنَّ اللهَ أَمَرَ الأُمَمَ بِقُرْبَانِ الْبُدْنِ فِي الْحَجِّ مِنْ عَهْدِ نَبِيِّهِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَجَعَلَهَا جَزَاءً عَمَّا يُتَرَخَّصُ فِيهِ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ. وَأَمَرَ بِالتَّطَوُّعِ بِهَا فَوَعَدَ عَلَيْهَا بِالثَّوَابَ الْجَزِيل يومَ القيامةِ، جَعَلَهَا مِنْ شَعَائرِ دِينِ اللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى، فَهِيَ مِنْ أَعْلَامِ الدِّينِ الإِسْلَاميِّ الحَنِيفِ، مِنْ سَوْقِهَا إِلَى البَيْتِ العتيقِ، وَتَقْلِيدِهَا، وَإِشْعَارِهَا، وَنَحْرِهَا، وَالإِطْعَامِ مِنْهَا. فَقَدْ جَعَلَهَا اللهُ ـ تَعَالَى، عِبَادَةً مِنْ عِبَادَاتِ هَذَا الدِّينِ العَظِيمِ لِمَا فِيهَا مِنْ تَوْسِعَةٍ عَلَى الفُقَرَاءِ والمَسَاكِينِ، والمُحْتَاجِينَ، والمُعْوِزينَ.
قولُهُ: {لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} أَيْ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ في الآجِلةِ وَالْعاجِلَةِ، أَمَّا خَيْرُ الآجِلَةِ فَقَدْ وَرَدَ فِيهِ عَدَدٌ مِنَ الأَحادِيثِ وَالآثارِ. مِنْ ذَلِكَ مَا أَخْرَجَ مُحَدِّثُ الأَنْدَلُسِ الإِمَامُ، الحَافِظُ، العَلاَّمَةُ، قَاسِمُ بْنُ أَصْبَغَ، أَبُو مُحَمَّدٍ القُرْطُبِيُّ، وَالإِمَامُ، الحَافِظُ، المُجَوِّدُ، أَبُو عَبْدِ اللهِ مُحَمَّدُ بنُ عَبْدِ اللهِ بنِ مُحَمَّد بنِ عَبْدِ البَرِّ التُّجِيْبِيُّ، الأَنْدَلُسِيُّ، القُرْطُبِيُّ، فِي التَّمْهِيدِ عَنِ السَّيِّدَةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمِنِينَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهَا وأَرضاها، أَنَّها قَالَتْ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضَحُّوا وَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا، فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: مَا مِنْ عَبْدٍ يُوَجِّهُ بِأُضْحِيَتِهِ إِلَى الْقِبْلَةِ إِلَّا كَانَ دَمُهَا وَقَرْنُهَا وَصُوفُهَا حَسَنَاتٍ مُحْضَرَاتٍ فِي مِيزَانِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَإِنَّ الدَّمَ إِنْ وَقَعَ فِي التُّرَابِ، فَإِنَّمَا يَقَعُ فِي حِرْزِ اللهِ حَتَّى يُوَفِّيَهُ صَاحِبَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ((اعْمَلُوا قَلِيلًا تُجْزَوا كَثِيرًا)).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ مَاجَةَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإِيمانِ" عَنْ زَيْدِ بْنِ أَرَقَم ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قُلْنَا يا رَسُولَ اللهِ، مَا هَذِه الأَضَاحِي؟ قَالَ: ((سُنَّةُ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ)) ـ عَليْهِ السَّلامُ، قَالَ: فَمَا لَنَا فِيهَا يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: ((بِكُلِّ شَعْرَةٍ حَسَنَةٌ)). قَالُوا: فَالصَّوافُّ. قَالَ: ((بِكُلِّ شَعْرَةٍ مِنَ الصُّوفِ حَسَنَةٌ)). مسندُ أحمد: (4/368، رقم: 19498)، وعَبْدُ بْنُ حُمَيدٍ: (259)، وابْنُ مَاجَةً: (3127).
وَأَخرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وحَسَّنَهُ، وَابْنُ ماجَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ عَن السَّيِّدةِ عَائِشَةَ أُمِّ المُؤْمنينَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهَا، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: ((ما عَمِلَ ابْنُ آدَمَ يَوْمَ النَّحْرِ عَمَلًا أَحَبَّ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، مِنْ هِرَاقَةِ دَمٍ، وَإِنَّهُ لَيَأْتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ بِقُرُونِهَا، وَأَظْلَافِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَإِنَّ الدَّمَ لَيَقَعُ مِنْ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، بِمَكَانٍ قَبْلَ أَنْ يَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ، فَطِيبُوا بِهَا نَفْسًا)) سُنَنُ التِرْمِذِيِّ: (1493)، وَابْنِ ماجَةَ: (3126).
وَأَخْرَجَ ابْنُ عَدِيِّ، وَالدَّارَقُطْنِيُّ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإيمانِ" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَا أُنْفِقَتِ الْوَرِقُ فِي شَيْءٍ أَفْضَلَ مِنْ نَحِيرَةٍ فِي يَوْمِ عِيدٍ)). سُنَنُ الدَّارَقُطْنِيِّ: (4/282). السُّنن الكُبْرَى للطَّبرانيِّ: (9/231)، شُعَبُ الإيمانِ للبيهقيَّ: (15/383).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ طَاوُس بْنِ كَيْسانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَا أَنْفَقَ النَّاسُ مِنْ نَفَقَةٍ أَعْظَمَ أَجْرًا مِنْ دَمٍ يُهْرَاقُ يَوْمَ النَّحْرِ إِلَّا رَحِمًا مُحْتَاجَةً يَصِلُهَا. وَقد حَذَّرَ النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، مِنْ تَرْكِ هَذِهِ العِبَادَةِ الَّنافِعَةِ فَقَالَ: ((مَنْ وَجَدَ سَعَةً َلِأَنْ يُضَحِّي فَلَمْ يُضَحِّ فَلَا يَقْرَبَنْ مُصَلَّانَا)). أَخْرَجَهُ ابْنُ مَاجَةَ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ.
وأَمَّا خيْرُ العاجلَةِ، فَقَدْ فَسَّرَهُ العُلَمَاءُ بِالِانْتِفَاعِ بِلَبَنِ البَدَنَةِ، وَأَصْوَافِهَا، وَأَشْعَارِهَا، وَأَوْبَارِهَا، وبِرُكُوبِهَا، والحَمْلِ عَلَيْهَا، بِشَرْطِ عَدَمِ الإِضْرَارِ بِهَا.
فَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تعالى: "لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ" قَالَ: إِنِ احْتَاجَ إِلَى اللَّبَنِ شَرِبَ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الرُّكُوبِ رَكِبَ، وَإِنِ احْتَاجَ إِلَى الصُّوفِ أَخَذَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَجُلٌ لِابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَيَرْكَبُ الرَّجُلُ الْبَدَنَةَ عَلَى غَيْرِ مُثْقِلٍ؟ قَالَ: وَيَحْلِبُها عَلَى غَيْرِ مُجْهِدٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَليٍّ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: يَرْكَبُ الرَّجُلُ بَدَنَتَهُ بِالْمَعْرُوفِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ جَابِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((ارْكَبُوا الْهَدْيَ بِالْمَعْرُوفِ حَتَّى تَجِدُوا ظَهْرًا)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَخَّصَ لَهُمْ أَنْ يَرْكَبُوهَا إِذَا احْتَاجُوا إِلَيْهَا.
وَأَخْرَجَ مَالِكٌ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِم، وَأَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ عَن أَبِي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً فَقَالَ: ارْكَبْها. قَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةً. قَالَ: ارْكَبْهَا وَيْلَكَ، أَوْ وَيْحَكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ أَنَسٍ رضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، رَأَى رَجُلًا يَسُوقُ بَدَنَةً أَوْ هَدِيَّةً فَقَالَ: ارْكَبْها فَقَالَ: إِنَّهَا بَدَنَةٌ، أَوْ هَدِيَّةٌ. قَالَ: وَإِنْ كَانَتْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيَّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لكم فِيهَا خَيْرٌ" قَالَ: هِيَ الْبَدَنَةُ إِنِ احْتَاجَ إِلَى ظَهْرٍ رَكِبَ، أَوْ إِلَى لَبَنٍ شَرِبَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ" قَالَ: لَكُمْ أَجْرٌ وَمَنَافِعُ لِلْبَدَنِ.
قولُهُ: {فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا} أَمْرٌ مِنَ اللهِ ـ تعالى، بِذِكْرِ اسمِهِ على هذِهِ الذَّبائحِ عندَ ذَبْحِهَا. أَمَّا صيغةُ التَسْميةِ فقد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا، فِي "الْأَضَاحِي"، وَابْن أبي حَاتِم، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ أَبي ظَبْيَانَ الجَنْبِيِّ الكُوْفِيِّ، حُصَيْنَ بْنَ جُنْدُبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، عَنْ قَوْلِهِ تَعَالَى: "فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ" قَالَ: إِذَا أَرَدْتَ أَنْ تَنْحَرَ الْبَدَنَةَ فَقِمْهَا عَلى ثَلَاثِ قَوَائِمَ مَعْقُولَةً، ثُمَّ قُلْ: بِسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ.
وَأَخْرَجَ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ "جامعُ العلومِ والحِكَمِ": (17/164)، بِرِوَاياتٍ مِنْ طَريقِ أَبِي ظَبْيَانَ عَنْ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما: أَنَّهُ قالَ: هُوَ أَنْ يَقُولَ: بِسْمِ اللهِ، وَاللهُ أَكْبَرُ، لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ.
قوْلُهُ: {صَوَافَّ} صَوَافَّ: جَمْعُ صَافَّةٍ. مِنْ قَولِهِمْ: صُفَّ إِذَا كَانَ مَعَ غَيْرِهِ صَفًّا بِأَنِ اتَّصَلَ بِهِ. فَلَعَلَّهُمْ كَانُوا يَصُفُّونَ بُدْنَهُمْ فِي الْمَنْحَرِ بِمِنًى يَوْمَ عيدِ النَّحْرِ، ففي مِنًى مَوْضِعٌ أُعِدَّ لِلنَّحْرِ وَهُوَ الْمَنْحَرُ. جاءَ فِي حَدِيثِ مُسْلِمٍ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي صفةِ حَجَّةِ الْوَدَاعِ، قَالَ فِيهِ: ثُمَّ انْصَرَفَ رَسُولُ اللهِ إِلَى الْمَنْحَرِ، فَنَحَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِيَدِهِ ثَلَاثًا وَسِتِّينَ بَدَنَةً، جَعَلَ يَطْعَنُهَا بِحَرْبَةٍ فِي يَدِهِ، ثُمَّ أَعْطَى الْحَرْبَةَ عَلِيًّا فَنَحَرَ مَا غَبَرَ، أَيْ مَا بَقِيَ وَكَانَتْ مِئَةَ بَدَنَةٍ. صحيحُ مُسْلِمٍ بِرَقَم: (1218). وأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبُو دَاودَ في سُننِهِ، وأبو يَعْلَى في مُسْنَدِهِ، والبَغَوِيُّ في شَرحِ السُّنَّةِ.
وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا كَانَتْ مُجْتَمِعَةً مُتَقَارِبَةً مُنْتَظِمَةً وهذا مِمَّا يَزِيدُ الموقفَ جَلَالًا. فإِنَّ اللهَ تَبَاركَتْ أَسْماؤهُ أَمَرَ المُسلمينَ بالاجتماعِ وَالانْتِظَامِ في أُمُورِهمْ كُلِّها، ولذلكَ قَالَ في الآيةِ: 4، مِنْ سورةِ الصَّفِّ: {إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ}. وَنَهَاهُمْ عَنِ الفُرقةِ والشَّتاتِ في مواضِعَ كثيرةٍ.
وَ "صَوافَّ" حَالَ كَوْنِهَا "صَوَافَّ"، أَيْ: قيامًا معقولةً، أَخْرَجَهُ الْفِرْيَابِيُّ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، مِنْ طُرُقٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالى: "صَوَّافَّ" قَالَ: قيَامًا مَعْقُولَةً.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رضيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُ نَحَرَ بَدَنَةً وَهِيَ قَائِمَةً، مَعقُولَةً إِحْدَى يَديْهَا، وَقَالَ: "صَوَافَّ" كَمَا قَالَ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَنَّ رَجُلًا أَنَاخَ بَدَنَتَهُ وَهُوَ يَنْحَرُهَا، فَقَالَ: ابْعَثْهَا قِيامًا مُقَيَّدَةً، سُنَّةُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ عبدِ الرَّحمنِ ابْنِ سَابِطٍ الجُمَحيِّ: أَنَّ النَّبِي ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابُهُ كَانُوا يَعْقلُونَ مِنَ الْبَدنَةِ الْيُسْرَى وَيَنْحَرُوهَا قَائِمَةً عَلى مَا هِيَ مِنْ قَوَائِمِهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِي اللهُ تَعَالى عَنهُ، فِي البَدَنَةِ، كَيْفَ تُنْحَرُ؟. فَقَالَ: تُعْقَلُ يَدُهَا الْيُسْرَى، وَيَنْحَرُهَا مِنْ قِبَلِ يَدِهَا الْيُمْنَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنَ عُمَرَ ـ رَضِي اللهُ عَنهُما، أَنَّهُ كَانَ يَنْحَرُهَا وَهِيَ مَعْقُولَةٌ يَدُهَا الْيُمْنَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَعْقِلُ يَدَهَا الْيُسْرَى إِذَا أَرَادَ أَنْ يَنْحَرَهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعبدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَنْ قَرَأَهَا "صَوَافِنَ" قَالَ: مَعْقُولةً، وَمَنْ قَرَأَهَا "صَوَافَّ" قَالَ: يَصِفُ بَيْنَ يَدَيْهَا، وَلَفْظُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ: مَنْ قَرَأَهَا "صَوَّافَّ" فَهِيَ قَائِمَةٌ مَضْمُومَةٌ يَدَيْهَا، وَمَنْ قَرَأَهَا "صَوَافِنَ" قيَامًا مَعْقُولَةً، وَلَفْظُ ابْنِ أَبي شَيْبَةَ الصَّوَافُّ عَلَى أَرْبَعٍ، والصَّوَافِنُ عَلى ثَلَاثَةٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَطَاء ـ رَضِي اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: اعْقِلْ أَيَّ الْيَدَيْنِ شِئْتَ.
فقَد أَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "صَوَافِنَ" قَالَ: مَعْقُولَةً عَلى ثَلَاثَةٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَأَبُو عُبَيْدٍ، وَعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ الْمُنْذِرِ، وَابْنِ الْأَنْبَارِيِّ فِي "الْمَصَاحِف"، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الْحَسَنِ البَصْريُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهَا: "صَوَافَّ"، قَالَ: خَالِصَةً للهِ ـ تَعَالَى، قَالَ: كَانُوا يَذْبَحُونَهَا لِأَصْنَامِهِمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْأَنْبَارِيِّ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ عَبْدُ اللهِ بْنُ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، يَقْرَأُ: "فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافِنَ" أَيْ: مَعْقَولَةً قِيَامًا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْأَنْبَارِيِّ فِي "الْمَصَاحِف"، والضِّياءُ المَقدِسِيُّ فِي "المُخْتَارَة" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا: أَنَّهُ كَانَ يقْرَأُ: "فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوَافِنَ". أَيْ معقولَةً عَلى ثلاثٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَنَّهُ كَانَ يَقْرَأُهُا: "صَوَافِنَ" قَالَ: رَأَيْتُ ابْنَ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، يَنْحَرُ بَدَنَتَهُ وَهِيَ عَلى ثَلَاثَةِ قَوَائِمَ قيَامًا مَعْقُولَةً.
وَأَخْرَجَ أَبُو عُبَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَرَأَ: "فَاذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَيْهَا صَوافِيَ" بِالْيَاءِ مُنْتَصِبَةً. وَقَالَ: خَالِصَة للهِ مِنَ الشِّرْكِ، لَأَنَّهُمْ كَانُوا يُشْرِكُونَ فِي الْجَاهِلِيَّةِ إِذا نَحَرُوهَا.
قولُهُ: {فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا} أَيْ: نُحِرَتْ، وَسَقَطَتْ عَلَى جَنْبِها إِلَى الْأَرْضِ، لِخُروجِ الرُّوحِ مِنْهَا، وفقدِها تَوَازُنِها، وعَدَمِ اسْتِطاعَتها الاسْتِقَلالَ والقيامَ بِنَفْسِها. وَالوُجُوبُ: السُّقوطُ. فَوجَبَتِ الشَمسُ، أَيْ: سَقَطَتْ وَرَاءَ الأفُقِ. وَوَجَبَ الجِدَارُ: سَقَطَ، وَمِنْهُ قيلَ لِمَا يلزمُ الإنْسانَ فعلُهُ: الوَاجِبُ، فَكَأَنَّهُ وَقَعَ عَلَيْه ولَزِمَهُ فلا يَنْفَكُّ عنه ولا يُفَارَقُهُ. قَالَ أَوْسُ بْنُ حَجَرٍ:
أَلَمْ تُكْسَفِ الشَّمْسُ شَمْسُ النَّها ............ رِ وَالبَدْرُ لِلْجَبَلِ الوَاجِبِ
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، "فَإِذا وَجَبت" قَالَ: سَقَطَتْ عَلى جَنْبِها.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، "فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها" قَالَ: إِذا سَقَطَتْ إِلَى الأَرْضِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، "فَإِذا وَجَبت" قَالَ نُحِرَتْ.
وَفي هَذَا حضٌّ على الْمُبَادَرَةِ بِالِانْتِفَاعِ بِلحومِهَا والإِسْرَاعِ إِلَى الْخَيْرِ الْمُحَصِّلِ مِنْ ذَلِكَ فِي الدُّنْيَا، وذلكَ بِأَكْلِ أَصْحَابِهَا مِنْ لَحْمِهَا وَإِطْعَامِ الْفُقَرَاءِ منها، فَإِنَّهُ مِنَ المُسْتَحَبِّ للحاجِّ أَنْ يَكُونَ فُطُورُهُ يَوْمَ النَّحْرِ مِنْ هَدْيِهِ. فقد أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَالنَّسَائِيُّ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَأَبُو نُعَيْمٍ فِي "دَلَائِلِ النُّبوَّةِ" عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ قُرْطٍ الأَزْدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قُدِّمَ إِلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَدَنَاتٌ خَمْسٌ، أَوْ سِتٌّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ جُنُوبُها، قَالَ كَلِمَةً خَفِيَّةً لَمْ أَفْهَمْهَا. فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِيَنِي: مَا قَالَ؟ قَالُوا: قَالَ: ((مَنْ شَاءَ اقْتَطَعْ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (4/350، برقم: 19285)، وَأَبُو دَاوُدَ: (1765)، وَالنَّسَائيُّ فِي "السُّنَنِ الكُبْرَى": (4083)، وَابْنُ خُزَيْمَةَ في صحيحِهِ: (2866).
قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِنْهَاَ} الأَمْرُ هنا مُجْمَلٌ فيَحْتَمِلُ الْوُجُوبَ وَلنَّدْبَ والْإِبَاحَةَ، وَلكِنْ لَا يُفْرَضُ عَلَى الْمُكَلَّفَ الدَّاعِي إِلَى فِعْلِهِ مُتَأَصِّلٌ في طَبْعِهِ، وقدْ تقدَّمَ أَنَّهُ يُسْتحَبُّ يومَ العيدِ للحاجِّ أَنْ يفطِرَ مِنْ هَديَّتِهِ. فَقَدْ كانَ مُحَرَّمًا عَلَى صَاحِبَ الأُضْحِيَةِ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا شَيْئًا، فَأَبْطَلَ اللهُ مَا كَانَ عِنْدَ أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ مِنْ تَحْرِيمِ أَنْ يَأْكْلِ الْمُهْدِي مِنْ لُحُومِ هَدْيِهِ ـ إِنْ كانتْ تَطَوُّعًا للهِ ـ عزَّ وَجَلَّ، أُمَّا إِذَا كَانَتْ نَذْرًا أَوْ كَفَّارَةً فَلَا.