أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
قولُهُ ـ تَعَالَى شأْنُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يَجُوزُ أَنْ يكونَ الْخِطَابُ في هَذِهِ الآيةِ الكريمةِ مُوجَّهًا لِكُلِّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ للْخِطَابِ. وَالرُّؤْيَةُ عِلْمِيَّةٌ؛ أَيْ: أَلَمْ تَعْلَمْ، لِأَنَّ المُرَادَ هوَ الرُّؤْيَةُ بالقلْبِ والعَقْلِ. وَالِاسْتِفْهَامُ للإِنْكَارِ عَلَيْهمْ عَدَمَ اسْتِدلالِهم بِأَحْوَالِ الْمَخْلُوقَاتِ عَلَى تَفَرُّدِ خالِقِها ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، بِالْإِلَهِيَّةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْمُخاطَبَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَكونُ الِاسْتِفْهَامُ للتَقْرِيرِ، لِأَنَّ عِلْمَهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِذَلِكَ مُتَقَرِّرٌ في سُورَتَيِ الرَّعْدِ وَالنَّحْلِ.
والسُّجُودُ فِي الأَصْلِ التَّطَامُنُ وَالتَّذَلُّلُ وُهُوَ عَامٌّ فِي الإِنْسَانِ والحَيَوَانِ وَالجَمَادِ. ومِنْهُ قَوْلُ زَيْدِ الخَيْلِ الذي سَمَّاهُ النَّبيُّ ـ صَلَّى اللهُ عنْهُ، زَيْدَ الخَيرِ بعدَ إِسْلَامِهِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ:
بِخَيْلٍ تَضِلُّ الْبُلْقُ في حَجَراتِهِ ......... تَرَى الْأَكْمَ فيها سُجَّدًا لِلْحَوافِرِ
يُريدُ أَنَّ الأَكَمَ خاشِعاتٌ مِنْ وَقْعِ حَوَافِرِ الخَيْلِ عليها. فَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ بالاخْتِيَارِ، وَقَدْ يَكونُ بالتَّسْخِيرِ. وَمِنْهُ سُجودُ الصَّلاةِ، وَيَكُونُ بِوَضْعِ الجَبْهَةِ والأَنْفِ عَلَى الأَرْضِ. وَالاسْمُ السِجْدَةُ.
وَأَسْجَدَ الرَجُلُ والبَعِيرُ: طَأْطَأَ رَأْسَهُ وانْحَنَى. وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحَابيِّ الشَّاعِرِ حَمِيدِ بْنِ ثَوْرٍ الهِلاليِّ العَبْسِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ:
فلَمَّا لَوَيْنَ علَى مِعْصَمٍ ........................ وَكفَ خَضِيبٍ وإِسوارِها
فُضُولَ أَزِمَّتِها أَسْجَدَتْ ..................... سُجُودَ النَّصَارَى لِأَحْبارِهَا
يَقُول: لَمَّا ارْتَحَلْنَ وَلَوَيْنَ فُضُولَ أَزِمَّةِ جِمَالِهِنَّ عَلَى مَعَاصِمِهِنَّ أَسْجَدَتْ لَهُنَّ. وَسَجَدتْ وأَسْجَدَت، إِذَا خَفَضَتْ رأْسَها لِتُرْكَبَ. والسَجَّادَةُ: الخُمْرَةُ. وَأَثَر السُّجُود أَيْضًا فِي الجَبْهَةِ. وَالإِسْجَادُ أَيْضًا: فُتُورُ الطَّرْفِ، إِدَامَةُ النَّظَرِ مَعَ سُكُونٍ. قَالَ كُثيِّرُ عَزَّةَ:
أَغَرَّكِ مِنَّا أَنَّ دَلَّكِ عِنْدَنَا .............. وإِسْجَادَ عَيْنَيْكِ الصَّيُودَيْنِ رَابِحُ
وَ "الإِسْجَادُ بِكَسْرِ الْهَمْزَةِ وفتْحِها: هُمُ اليَهُودُ. قالَ الأَسْوَدُ بْنُ يَعْفُرٍ النَهْشَلِيُّ:
وَلَقَدْ لَهَوْتُ ولِلشَّبابِ لَذَاذَةٌ .............. بِسَلاَفَةٍ مُزِجَتْ بِماءِ غَوَادِي
مِنْ خَمْرِ ذِي نَطَفٍ أَغَنَّ مُنَطَّقٍ .............. وَافَى بِهَا لِدَرَاهِمِ الإِسْجَاد
وَرُوِيَ أَيضًا "الأَسْجادِ" بِالْفَتْحِ. وَقِيلَ أَيْضًا الإِسْجَادُ: الجِزْيَةَ.
وَقِيلَ: هِيَ دَرَاهِمُ الأَكاسِرِةِ كَانَتْ عَلَيْهَا صُورَةُ كِسْرَى فَمَنْ أَبْصَرَهَا كانَ عليهِ أَنْ يَسْجُدَ لَهَا، أَيْ: طَاطَأَ رأْسَهُ لَهَا مُظْهِرًا خُضُوعَهُ وتعظيمَهُ لِصاحِبِ الصُّورةِ.
وَقَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا للهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ} الآيَةَ: 48، أَيْ: خُضَعَاءَ مُتَسَخِّرَةٌ لِمَا سُخِّرتْ لَهُ.
وَقَوْلُهُ مِنْ سورةِ الرَّحمنِ: {والنَّجْمُ والشَّجَرُ يَسْجُدَانِ} الآيةَ: 6، مَعْنَاهُ: يَسْتَقْبِلَانِ الشَّمْسَ ويَمِيلانِ مَعَها حَتَّى يَنْكَسِرَ الفَيْءُ.
وَقَوْلُهُ في الآيةِ: 100، مِنْ سُورَةِ يُوسًف: {وخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا}، هُوَ سُجُودُ تَحِيَّةٍ لَا عِبَادَةٍ. وَقيلَ الخُرُورُ فِي هَذِه الآيَةِ: هوَ المُرُورُ لَا السُّقُوطُ وَالوُقُوعُ عَلَى الأَرْضِ.
وقَولُهُ مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {وَادْخُلُوا البَابَ سُجَّدًا} الآيةَ: 58، أَيْ: رُكَّعًا، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما.
وَسُجُودُ المَوَاتِ مَحْمُولٌ عَلَى الطاعَةِ لِمَا سُخِّرَ لَهُ وَلَيْسَ سُجودُها للهِ بِأَعْجَبَ مِنْ هُبُوطِ الحِجَارَةِ مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، فَعَلَيْنَا أَنْ نُسَلِّمَ للهِ، وَنُؤْمِنَ بِمَا أنْزَلَ كما هُوَ مِنْ غَيْرِ تَطَلُّبِ كَيْفِيَةٍ.
وهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِبِدْءِ الاسْتِدْلَالٍ عَلَى انْفِرَادِهِ ـ تَبَاركتْ أَسْماؤُهُ، بِالْإِلَهِيَّةِ، فَإِنَّ أَحْوَالَ الْمَخْلُوقَاتِ كُلِّهَا ـ العَاقِلِ مِنْهَا وَغيرِ العاقلِ، شَاهِدَةٌ عَلَى أَحَدِيَّةِ الإِلِهِ وَتَفَرُّدِهِ فِي التَّصَرُّفِ في مُلْكِهِ. وبالتالي فهِيَ تَدُلُّ عَلَى بُطْلَانِ دَعْوَةِ الَّذينْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، مَا لَا يَضُرُّهُم وَلَا يَنْفَعُهُم.
والدَّليلُ عَلَى هيمَتِهِ ـ تَعَالَى، عَلَى مخلوقاتِهِ وَتَصَرُّفِهِ بها سُجُودُهَا لَهُ سُجُودَ خضوعٍ وَإِذْعانٍ، وَمَظْهَرُ سُّجودِها هوَ ظِلُّها. فقدِ أَخْرَجَ عَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ"، الْآيَةَ. قَالَ: سُجُودُ ظِلِّ هَذَا كُلِّهِ. وَأَخْرَجَ عنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيْضًا أَنَّهُ قَالَ: الثَّوْبُ يَسْجُدُ.
وَ "مَنْ فِي السَّماواتِ" أَي: أَهْلُ السَّمَواتِ، مِنَ المَلَائِكَةِ الكِرامِ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، وغَيْرِهِمْ مِنْ مخلوقاتٍ قَدْ يَكُونونَ مَوجودينَ فيها ولا نَعْلَمُ عَنْهُمْ شَيْئًا فنحنُ لا نَعْلَمُ إلَّا ما علَّمنا اللهُ وأَخْبَرَنا بوجودِهِ.
قوْلُهُ: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} مِنَ الإِنْسِ وَالجِنِّ وَالمَلَائِكَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ "مَنْ": عَامَةً للعَاقِلِ وَغَيْرِهِ، فَأَهْلُ المَعْرِفَةِ يَسْجُدونَ للهِ سُجُودَ عِبَادَةٍ، وَأَرْبابُ الجُحُودِ يَسْجُدُ لَهُ كُلُّ جِزْءٍ مِنْهُمْ سُجُودَ دَلَالِةٍ عَلى وُجُودِهِ وَشَهَادَةٍ عَلَى عَظَمَةِ خَلْقِهِ، كما قالَ أَبُو العتاهيةِ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالى:
وَللهِ فِي كُلِّ تَحْريكَةٍ ............................. عَلَيْنَا وَتَسْكِينَةٍ شَاهِدُ
وَفِي كُلِّ شَيْءٍ لَهُ آيَةٌ .............................. تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ وَاحِدُ
قوْلُهُ: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} هُوَ مِنْ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ، لاسْتِبْعَادِ ذَلِكَ مِنْهَا في العادَةِ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكونَ سُجُودُها عَلَى الحَقِيقَةِ لا المَجَازِ، وَلَكِنَّنا لَا نَفْقَهُ كَيْفِيَّةَ وُقوعِ ذَلِكَ مِنْها، كُمَا لَا نَفْقَهُ تَسْبِيحَهَا. فقدْ قالَ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، في الآيةِ: 44، مِنْ سُورةِ الإِسْراءِ: {تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ}.
وَجَاءَ في الصَّحَاحِ أَنَّ الشَّمْسَ لَا تَطْلُعُ حَتَّى تَسْجُدَ وَتَسْتَأْذِنَ. فَقد ذَكَرَ الشَّيْخَانِ فِي صَحِيحَيهِما، والتُّرمذيُّ، مِنْ حَدِيثِ أَبي ذَرٍّ الغِفاريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: دَخَلْتُ المَسْجِدَ، وَرَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ، فَلَمَّا غَابَتِ الشَّمْسُ قَالَ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ، تَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ؟ قَالَ: قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّهَا تَذْهَبُ حَتَّى تَسْجُدَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَتَسْتَأْذِنُ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَيُوشِكُ أَنْ تَسْجُدَ فَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا وَتَسْتَأْذِنَ فَلَا يُؤْذَنُ لَهَا يُقَالُ لَهَا ارْجِعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا، فَذَلِكَ قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ}. وَلَفْظُ التِّرْمِذِيِّ عَنْ أَبِي ذَرٍّ قَالَ: دَخَلْتُ الْمَسْجِدَ حِينَ غَابَتِ الشَّمْسُ وَالنَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، جَالِسٌ. فَقَالَ ـ علَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((يَا أَبَا ذَرٍّ أَتَدْرِي أَيْنَ تَذْهَبُ هَذِهِ" قَالَ قُلْتُ: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: ((فَإِنَّهَا تَذْهَبُ فَتَسْتَأْذِنُ فِي السُّجُودِ فَيُؤْذَنُ لَهَا وَكَأَنَّهَا قَدْ قِيلَ لَهَا اطْلُعِي مِنْ حَيْثُ جِئْتِ فَتَطْلُعُ مِنْ مَغْرِبِهَا)). أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ في (التَّوْحيدِ ـ بابُ: وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المَاءِ)، وَمُسْلِمٌ فِي (الإيمان، باب: الزَّمَنُ الَّذي لَا يُقْبَلُ فِيهِ الإِيمانُ): (1/139، بِرقم: (159). وَقَالَ أَبُو عِيسَى التِّرْمِذِيُّ: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَبي العَالِيَةِ الرِّياحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (مَا فِي السَّمَاءِ نَجْمٌ، وَلَا شَمْسٌ، وَلَا قَمَرٌ، إِلَّا يَقَعُ سَاجِدًا حِينَ تَغِيبُ، ثُمَّ لَا يَنْصَرِفُ حَتَّى يُؤْذَنَ لَهُ). وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: (إِذا فَاءَ الْفَيْءُ، لَمْ يَبْقَ شَيْءٌ مِنْ دَابَّةٍ، وَلَا طَائِرٍ، إِلَّا خَرَّ للهِ سَاجِدًا).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عَمْرِو بْنِ دِينَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: سَمِعْتُ رَجُلًا يَطُوفُ بِالْبَيْتِ وَيَبْكِي، فَإِذا هُوَ طَاوُسٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَقَالَ: عَجِبْتَ مِنْ بُكَائِي؟ قلتُ: نَعَم. قَالَ: (وَرَبِّ هَذِهِ البُنْيَةِ إِنَّ هَذَا الْقَمَرَ لَيَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ وَلَا ذَنْبَ لَهُ).
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ فِي الزُّهْدِ عَنِ ابْنِ أَبي مُلَيْكَةَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُ، قَالَ: مَرَّ رَجُلٌ عَلى عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُمُا، وَهُوَ ساجِدٌ فِي الْحِجْرِ، وَهُوَ يَبْكي، فَقَالَ: أَتَعْجَبُ أَنْ أَبْكِي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ، وَهَذَا الْقَمَرُ يَبْكي مِنْ خَشْيَةِ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: (سُجُودُ الجِبَالِ وَالشَّجَرِ وَالدَّوَابِّ: تَحَوُّلُ ظِلاَلِهَا). أَوْ سُجودُهَا: طاعَتُهَا فَإِنَّهُ مَا مِنْ جَمَادٍ إِلَّا وَهُوَ مُطِيعٌ للهِ ـ تَعَالَى، خَاشِعٌ، يُسَبِّحُ لَهُ. شَبَّهَ طَاعَتَهَا لَهُ وانْقِيادَهَا لِأَمْرِهِ بِسُجُودِ المُكَلَّفِ الَّذي كُلٌّ خَضُوعٌ دُونَهُ.
قولُهُ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْجُدُ للهِ ـ تَعَالَى، سُجُودَ طاعَةٍ وَعِبَادَةٍ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ لامْتِناعه عَنْ سُجُودِ العبادَةِ هذا بِسَبَبِ كُفْرِهِ بربِّهِ وَعُتُوِّهِ عنْ سبيلِ هِدايتِهِ.
وَيَحْتَمِلُ قولُهُ "كثيرٌ" أَنْ يكونَ مُبْتَدَأً، فيَكونُ ثَمَّةَ حَذْفٌ للمُقَابِلِ في هَذِهِ فِي الآيةِ، أَيْ: وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ مُثَابٌ، وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ. أَوْ وَكَثيرٌ مِنَ النَّاسِ يَسْجُدونَ، وَكَثيرٌ يَأْبَى السُّجُودَ، فَحَقَ عَلَيْهِ العَذَابُ.
وَقِيلَ: أَيْ وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذابُ لِإِنْكارِهِ النُّبُوَّةِ، وَإِنْ سَجَدَ للصَّانِعِ كَاليَهُودِ وَالنَّصَارَى وَالْفَلَاسِفَةِ.
وَالمُرادُ بالسُّجُودِ هُنَا هُوَ السُّجُودُ الحَقِيقِيِّ المَنصوصُ عَلَيْهِ في الشَّرْعِ الحَنِيفِ، وفيهِ دليلٌ عَلَى أَنَّ المُرادَ بِقَوْلِهِ: "أَنَّ اللهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ ومَنْ في الأرضِ.. ." يَشْمَلُ حَقيقةَ السُّجُودِ وَمَجَازَهُ، ولَوْلَا ذَلِكَ لَمَا قَالَ هُنَا: "وكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ" احْتِرَاسًا لِذلِكَ، فإِنَّ سُجُودَ هَذَا الكَثيرِ هُوَ سُجودٌ حَقيقيٌّ، فِيمَا أَنَّ سُجودَ باقي الكائناتِ هُوَ سُجودٌ مَجَازِيٌّ لِأَنَّهَا مُسَخَّرَةٌ بِخَلْقِ اللهِ ـ تَعَالى، فَاسْتُعِيرَ السُّجُودُ لحالَةِ التَّسْخِيرِ وَالِانْصياعِ هَذِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ طَاوُسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: لَمْ يَسْتَثْنِ مِنْ هَؤُلَاءِ أَحَدًا حَتَّى إِذا جَاءَ ابْنُ آدَمَ اسْتَثْنَى مِنْهُ فَقَالَ: "وَكَثيرٌ مِنَ النَّاسِ} قَالَ: وَالَّذِي أَحَقُّ بِالشُّكْرِ هُوَ أَكْثَرُهُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ جَلَّ جَلالُهُ العَظيمُ: "وَكَثَيرٌ مِنَ النَّاسِ" قَالَ: الْمُؤْمِنُونَ.
قوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} أَيْ وكثيرٌ مِمَّنْ حَقَّ عليْهِ العذابُ، وقُضِيَ بأَنَّهُم مِنْ أَهْلِ النَّارِ لِكُفرِهِمْ ومعَ ذَلِكَّ فإِنَّ جَوَارِحَهُمْ تَسْجُدُ لخالِقِها ومُصَوِّرِها سُجُودَ الشَّهادَةِ وَالتَّسْخِيرِ كالجماداتِ والعَجْمَاوَاتِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَكثير حق عَلَيْهِ الْعَذَاب" قَالَ: هَذَا الْكَافِرُ، يَسْجُدُ ظِلُّهُ للهِ وَهُوَ كَارِهِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} أَيْ: وَمَنْ قَضَى اللهُ عَلَيْهِ بالذُّلِّ والهَوانِ، فَلَنْ تَجِدَ لَهُ مُكْرِمًا، وَلَنْ يَسْتَطيعَ أحَدٌ أَنْ يُعِزَّهُ ويمحوَ ذُلَّهُ، وَمَنْ يَسْتَطِيعُ أَنْ يردَّ قضاءَ اللهِ، وَيَدْفَعَ ما أَمَرَ بِهِ. ومِنَ المُؤَكَّدِ أَنَّهُ ما مِنْ أَحَدٍ يستطيعُ فِعْلَ شَيْءٍ مِنْ هَذا.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ} فَيُكْرِمُ مَنْ شَاءَ أَنْ يُكْرِمَهُ، وَيُهِينُ مَنْ شَاءَ إِهانَتَهُ، وَيُعِزُّ مَنْ شاءَ أَنْ يُعِزَّهُ، وَيُذِلُّ مَنْ شاءَ إذْلالَهُ، وَيَغْفِرُ لِمَنْ شَاءَ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ، وَيُنَعِّمُهُ، ويُعَذِّبُ مَنْ شاءَ، ولا رادَّ لِمَشيئَتِهِ، ولا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، سُبْحانَهُ وتَعَالى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وأَبو القاسِمِ هِبَةُ اللهِ اللَّالَكائيُّ فِي السُّنَّةِ، وأَبُو الحَسَنِ عَلِيُّ بْنُ الحَسَنِ الخِلَعِيُّ فِي فَوَائدِهِ، عَنْ أَميرِ المُؤْمِنِينَ عَلِيِّ بْنِ طالبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قِيلَ لَهُ: إِنَّ هَهُنَا رَجُلًا يَتَكَلَّمُ فِي الْمَشِيئَةِ. فَقَالَ لَهُ سَيِّدُنا عَلِيٌّ: يَا عَبَدَ اللهِ، خَلَقَكَ اللهُ لِمَا يَشَاءُ أَو لِمَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ لِمَا يَشَاءُ. قَالَ: فَيُمْرِضُكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذَا شَاءَ. قَالَ: فَيَشْفِيكَ إِذَا شَاءَ أَوْ إِذَا شِئْتَ؟ قَالَ: بَلْ إِذا شَاءَ. قَالَ: فَيُدْخِلُكَ الْجَنَّةَ حَيْثُ شَاءَ أَوْ حَيْثُ شِئْتَ؟. قَالَ: بَلْ حَيْثُ شَاءَ. قَالَ: وَاللهِ لَوْ قُلْتَ غَيْرَ ذَلِكَ لَضَرَبْتُ الَّذِي فِيهِ عَيْنَاكَ بِالسَّيْفِ.
قوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ: الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ، و "لَمْ" حَرْفُ نَفْيٍ وَجَزْمٍ. و "تَرَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "لَمْ"، وعلامةُ جزْمِهِ حذْفُ حرفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنتَ) يَعُودُ عَلى كُلِّ مَنْ يَصْلُحُ للخِطَابِ، وَتَرَى هُنَا عِلْمِيَّةٌ، كَمَا تقدَّمَ بيانُهُ فِي مَبْحَثِ التَّفْسيرِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قولُهُ: {أَنَّ اللهَ} أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ، سَادٍّ مَسَدّ مَفْعُولَيْ "تَرَ"، والتَّقْديرُ: أَلَمْ تَرَ سُجُودَ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الأَرْضِ، وَمَنْ بَعْدَهُمَا. للهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى.
قْولُهُ: {يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ} يَسْجُدُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِقٌ بِـ "يَسْجُدُ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَ "في" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِلَةِ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ"، وَ "السَّمَاوَاتِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وجُمْلَةُ "يَسْجُدُ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قولُهُ: {وَمَنْ فِي الْأَرْضِ} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ عَطْفًا عَلَى "مَنْ" الَّتي قَبْلَهَا، وَ "فِي الْأَرْضِ" جَارٌّ وَمَجْرُورٌ مَعْطُوفانِ عَلَى "فِي السَّمَاوَاتِ" وَلَهُ مثلُ ما لسابقِهِ مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ} مَعْطُوفاتٌ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ مَرْفُوعٌ بالفَاعِلِيَّةِ، ولَهَا ذاتُ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ} الواوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "كَثيرٌ" مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ، وقد سَوَّغَ الابْتِداءَ بِالنَّكِرَةِ، وُقُوعُهُ فِي مَعْرِضِ التَّقْسيمِ، وَوَصْفِهِ بِمَا بَعْدَهُ، وَ "مِنَ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ "كَثِيرٌ"، تَقْديرُهُ: مُطِيعُونَ أَوْ مَجْزِيُّونَ أَوْ مُثَابُونَ، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ، لِدَلَالَةِ مَا قَبْلِهِ عَلَيْهِ، وَ "النَّاسِ" مَجْرُرٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَهذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ وَخَبَرِهِ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ" عَلى كَوْنِهَا سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "تَرَ". وَهَذَا عِنْدَ مَنْ يَمْنَعُ اسْتِعْمَالَ المُشْتَرَكِ فِي مُعَنَيَيْهِ، أَوْ الجَمْعَ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالْمَجَازِ، فِي كَلِمَةٍ وَاحِدَةٍ؛ وَذَلِكَ أَنَّ السُّجُودَ المُسْنَدَ لِغَيْرِ العُقَلَاءِ غَيْرُ السُّجُودِ الْمُسْنَدِ للعُقَلَاءِ، فَلَا يُعْطَفُ "كَثيرٌ مِنَ النَّاسِ" عَلَى مَا قَبْلَهُ لِاخْتِلَافِ الفِعْلِ المُسْنَدِ إِلَيْهِمَا فِي المَعْنَى. أَلَا تَرَى أَنَّ سُجُودَ غَيْرِ العُقَلاءِ هُوَ الطَّواعِيَةُ وَالإِذْعانُ لِأَمْرِهِ ـ تَعَالى، بينَما سُجُودُ العُقَلَاءِ هُوَ هَذِهِ الكَيْفِيَّةُ المَخْصَوصَةٌ؟. وَيَجوزُ أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَهُ، فَيكونُ في ذَلِكَ ثَلَاثَةُ تَأْويلاتٍ أَحَدُهَا:
ـ أَنَّ المُرَادَ بِالسُّجُودِ هُوَ القَدْرُ المُشْتَرَكُ بَيْنَ الكُلِّ، العُقَلاءِ وَغَيِرِ والعُقلاءِ، وَهُوَ الخُضُوعُ وَالطَّوَاعِيَةُ، وهوَ مِنْ بابِ الاشْتِرَاكِ المَعْنَوِيِّ.
ـ أَنَّهُ مُشْتَرَكٌ اشْتِراكًا لَفْظِيًّا، وَيَجُوزُ اسْتِعْمالُ المُشْتَرَكِ فِي مَعْنَيَيْهِ اللَّفْظِيِّ والمَعْنَوَيِّ.
ـ أَنَّ السُّجُودَ المُسْنَدَ هوَ لِلْعُقَلاءِ حَقيقَةٌ، وَلِغَيْرِهِمْ مَجَازٌ. وَيَجُوزُ أَيْضًا الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ وَالمَجَازِ. وَفي هَذِهِ الأَشْيَاءِ خِلَافٌ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ "كَثيرٌ" عَلَى الابْتِدَاءِ أَيْضًا، وَخَبَرُهُ "مِنَ النَّاسِ" أَيْ: مِنَ النَّاسِ الذينَ هُمُ النَّاسُ عَلَى الحَقِيقَةِ، وَهُمُ الصَّالِحُونَ وَالمُتَّقونَ.
ويَجُوزُ أَنْ يَرْتَفِعَ بِالابْتِدَاءِ أَيْضًا. وَيُبالَغَ في تَكْثيرِ المَحْقُوقِينِ بالعَذَابِ، فيُعْطَفَ "كَثْيرٌ" عَلَى "كَثِيرٌ" ثُمَّ يُخْبَرَ عَنْهُمْ بِقولِهِ: "حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ"، ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأنْدلُسيُّ، بَعَدَ أَنْ حَكَى عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ الوَجْهَيْنِ الأَخَيرَيْنِ قَالَ: وَهَذَانِ التَّخْريجانِ ضَعِيفانِ. ولكِنَّه لَمْ يُبَيِّنْ لنا وَجْهَ ضَعْفِهِمَا. وَقدْ بيَّنَ ذلكَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ فَقَالَ:
ـ أَمَّا أَوَّلُ هَذينِ الوَجْهَيْنِ فَلَا شَكَّ فِي ضَعْفِهِ؛ إِذْ لَا فائدَةَ طائِلَةٌ فِي الإِخْبَارِ بِذَلِكَ.
وأَمَّا الوجْهُ الثاني فَقَدِ يَظْهَرُ ضَعْفُهُ ذَلِكَ بِأَنَّ التَّكْريرَ يُفِيدُ التَّكْثيرَ، وَهُوَ قَريبٌ مِنْ قولِهم: عِنْدِي أَلْفٌ وَأَلٍفٌ، فَيَكونُ كَقَولِ عِصَامِ بْنِ عُبَيْدٍ الزِّمَّانِيِّ، أَوْ هَمَّامٍ الرَّقَاشِيِّ:
لَوْ عُدَّ قَبْرٌ وَقَبْرٌ كُنْتَ أَكْرَمَهُمْ ........... بَيْتًا وَأَبْعَدَهُمْ عَنْ مَنْزِلِ الزَّامِّ
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ "وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذابُ" يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ مَعْطُوفًا عَلَى مَا تَقَدَّمَ أَيٍ: وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ يَسْجُدُ ـ أَي كَرَاهِيَةً وَعَلَى رَغْمِهِ: إِمَّا بِظِلِّهِ، وَإِمَّا بِخُضُوعِهِ عِنْدَ المَكَارِهِ.
فَقَوْلُهُ: "مَعْطوفٌ عَلَى مَا تَقَدَّمَ" يَعْنِي عَطْفَ الجُمَلِ لَا أَنَّهُ هُوَ وَحْدَهُ عَطْفٌ عَلَى مَا قَبْلِهِ، وذلكَ بِدَلِيلِ أَنَّهُ قَدَّرَهُ مُبْتَدَأً خَبَرُهُ قُوْلُهُ: "يَسْجُدُ".
قَوْلُهُ: {وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "كثيرٌ" معطُوفٌ على "كثيرٌ" قَبْلَهُ. و "حَقَّ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ. وَ "عَلَيْهِ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حَقَّ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "الْعَذَابُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ على كونِها خَبَرَ المُبْتَدَأِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَنَّ".
قولُهُ: {وَمَنْ يُهِنِ اللهُ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ، و "مَنْ" شرْطِيَّةٌ جازمَةٌ مَبنيَّةٌ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ مُقَدَّمٌ. وَجَوَابُهَا الفَاءُ مَعَ مَا بَعْدَهَا. و "يُهِنِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. ولفظُ الجَلَالَةِ "اللهُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وجُمْلةُ الشَّرطِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ} فَمَا" الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا، لِاقْتِرَانِهِ بِـ "مَا" النَّافِيَةِ. و "مَا" نافيةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ زَائِدٍ. وَ "مُكْرِمٍ" مَجرورٌ لَفْظًا بحرفِ الجَرِّ الزَّائِدِ، مَرْفوعٍ بالابْتِدَاءِ مَحَلًّ عَلَى أَنَّهُ مُبْتَدَّأٌ مُؤَخَر، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بـ "مَن" عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا شَرْطِها.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ} إِنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. وَلفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وخبرُهُ جُمْلَةُ "يَفْعَلُ" وهَذِهِ الجُمْلَةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وَخَبَرِهَا مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا فَلَيسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {يَفْعَلُ ما} يَفْعَلُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" ـ تَعَالى. و "مَا" اسْمٌ مَوصُولٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قوْلُهُ: {يَشَاءُ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازً تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى "اللهَ" ـ تَعَالى. والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ، وَالعائدُ مَحْذوفٌ، والتقديرُ: يَشَاؤُهُ.
قَرَأَ العامَّةُ: {والدَّوابُّ} بتشْديدِ الباءِ، وقَرَأَ الزُّهْرِيُّ "وَالدَّوَابُ" فَخَفَّفَها. قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: وَوَجْهُهَا أَنَّهُ حَذَفَ الباءَ الأُولَى كَرَاهِيَةَ التَّضْعِيفِ وَالجَمْعِ بَيْنَ سَاكِنَيْنِ.
قرأَ العامَّةُ: {وَكَثيرٌ} بالثَّاءِ المُثَلَّثةِ، وَقَرَأَ جَنَاحُ بْنُ حُبَيْشٍ: وَ "وَكَبيرٌ" بالباءِ المُوَحَّدَةِ. وَقُرِئَ "وَكَثيرٌ حَقًّا" بِالنَّصْبِ. وَالنَاصَبُ مَحْذُوفٌ وَهُوَ الخَبَرُ، والتَّقْديرُ: وَكَثيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العَذَابُ حَقًّا. بِرَفْعِ "العَذَابُ" عَلى الفاعِلِيَّةِ. وَقُرِئَ "حُقَّ" مَبْنِيًّا للمَفْعُولِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {مُكْرِمٍ} بِكَسْرِ الرَّاءِ، على أَنَّهُ اسْمُ فَاعِلٍ. وَقَرَأَ ابْنُ أَبي عَبْلَةَ "مُكْرَم" بِفَتْحِها، على أَنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، أَيْ: فَمَا لَهُ مِنْ إِكْرامٍ.