وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ
(55)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} المِرْيَةُ، والمُرْيةُ ـ بكَسْرِ الميمِ وضمِّها، لُغَتَانِ: أَيْ الشَّكُّ، كالامْتِرَاءِ وَالتَّمَارِي، يُقالُ: تَمَارَى يَتَمَارَى تَمَارِيًا، وامْتَرَى يَمْتَرِي امْتِراءً إِذَا شَكَّ، وَقولُهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، في الآيةِ: 55، مِنْ سُورَةِ النَّجْمِ: {فَبَأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى}: معناهُ: بِأَيِّ نِعْمَةٍ مِنْ نِعَمِ رَبِّكَ تَتَشَكَّكَ وَتُكَذِّبُ؟. وَالمِرَاءُ: الجَدَالُ، وتَكْذيبُ كُلِّ فَريقٍ خَصْمَهُ، والتَّشْكِيكُ فَي صِحَّةَ مَا يَدَّعِيهِ. والهاءُ في "مِنْهُ" عَائِدَةٌ عَلَى القُرْآنِ الكَريمِ.
فقدْ أَخرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ جَريرٍ الطَّبَرِيُّ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وابْنُ المُنْذِرِ، عَنِ الضَّحَّاكِ عَنِ ابْنِ جُريجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: "مِنْهُ": مِنَ القُرْآنِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ زَيْدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي "مِرْيَةٍ مِنْهُ" قَالَ: مِمَّا جَاءَ بِهِ الْخَبِيثُ إِبْلِيسُ، لَا يَخْرُجُ مِنْ قُلُوبِهِمْ، زَادَهُمْ ضَلَالَةً.
إِذًا فَقَدْ خَصَّ اللهُ ـ تَعَالَى، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَافِرِينَ بِالْقُرْآنِ الكَريمِ، بَعْدَ أَنْ عَمَّهُمْ مَعَ جُمْلَةِ الْكَافِرِينَ بِالأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلينَ، بِأَنَّ شَكَّهُمْ فِيمَا جَاءَ بِهِ القرآنُ مُسْتَمِرٌّ، فَلَا يَتَزَحْزَحُونَ عَنْ مَوْقِفِهِمْ قَيْدَ أُنْمُلَةٍ.
قولُهُ: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} وسَيَبْقَوْنَ كَذَلِكَ إِلَى أَنْ تقومَ عليهِمُ القِيامَةُ فَجْأَةً وَهُمْ لاهُونَ غَافِلونَ عَنْهَا. والبَغْتُ وَالبَغْتَةُ الفَجْأَةُ، وهوَ أَنْ يَفْجَأَكَ الشَّيْءُ، كَمَا قالَ ـ تَعَالَى في الآيَةِ: 31، مِنْ سُورَةِ الأَنعامِ: {قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا} أَي: فَجْأَةً، وقالَ في الآيةِ: 44، مِنْهَا: {فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون} وَقَالَ بعدِ ذلكَ في الآيةِ: 47: {قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ}، وقالَ مِنْ سُورَةِ الأَعرافِ: {ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الآيةَ: 95، وقالَ في الآيةِ: 187، منها: { يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً}، وقالَ مِنْ سورةِ يوسُفَ ـ علَيْهِ السَّلامُ: {أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ} الآيةَ: 107، وقالَ مِنْ سورةِ الأنبياءِ: {بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ} الآيةَ: 40، إلى آخِرِ ذلكَ مِنْ آياتٍ مباركاتٍ، وهي في جميعِ مَواقعها بمعنى الفجْأَةِ. وَقَدْ بَغَتَهُ الأَمْرُ يَبْغَتُهُ بَغْتًا: فَجِئَهُ، وَبَاغَتَهُ مُبَاغَتَةً وَبِغاتًا: فاجَأَهُ. وَتَكَرَّرَ ذِكْرُ البَغْتَةِ في الحَديثِ الشَّريف أَيضًا.
قوْلُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} العَقِيمُ العَاقِرُ الَّذي لَا يُنْجِبُ. شَبَّهَ ذلكَ اليومَ بالرَّجُلِ العاقِرِ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ، وَكَأَنَّ النَّهَارَ هُوَ الَّذي يَلِدُ اللَّيْلَ، فَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ": أَيْ لَيْسَ مَعَهُ لَيْلَةٌ. وقيلَ بِأَنَّ معناهُ السَّدُّ، فَامْرَأَةٌ مَعْقُومَةُ الرَّحِمِ أَيْ: مُسْدُودَتُهُ عَنِ الوِلَادَةِ. وَالعُقْمُ أَيضًا: انقطاعُ الخير.
وَأَخْرَجَ ابنُ أَبي حاتمٍ أَيْضًا، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قالَ: "عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ": يَوْمُ الْقِيَامَةِ لَا لَيْلَةَ لَهُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ مِثْلَهُ.
وَقَدْ كَانَ ذلكَ اليومَ بالنَّسْبَةِ إِلَى كُفَّارِ قُرَيْشٍ هوَ يومُ بَدْرٍ، فمَنْ قُتَلَ مِنْهُمْ فإنَّ نَهَارَهُ انْقَطَعَ بموتِهِ، ومَنْ لمْ يُقْتَلْ فإنَّ نهارَ عِزِّهِ وكِبرِهِ قدْ مَضَى وانْقَطَعَ دونَ أَنْ يَتَجَدَّدَ، فَمِنْ هزيمةٍ إلى هزيمةٍ، ومنْ نَكْسَةٍ إِلَى نَكْسَةٍ إِلَى دالتْ دَوْلَتُهُمْ، وَذَهَبتْ رِيحُهُم.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: "عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ": يَوْم بَدْرٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والضَّيَاءُ المَقدِسِيُّ فِي "المُخْتَارَة" عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهما، فِي قَوْلِهِ: "عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ" قَالَ: يَوْمُ بَدْرٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أُبيِّ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَرْبَعٌ كُنَّ يَوْمَ بَدْرٍ: "أَوْ يَأْتِيهِمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ"، ذَاكَ يَوْمُ بَدْرٍ. و {فَسَوفَ يَكونُ لِزَامًا} الآيَةَ: 77، منْ سورةِ الْفرْقَان، ذَاك يَوْم بَدْرٍ. و {يَوْمَ نَبْطِشُ البَطْشَةَ الْكُبْرَى} الآيَة: 16، منْ سورة الدُّخان، ذَاكَ يَوْمُ بَدْرٍ. و {وَلَنُذيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ} الآيَةَ: 21، منْ
سُورَةِ السَّجْدَةِ، ذَاكَ يَوْمُ بَدْرٍ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ} الواو: عَاطِفَةٌ، و "لا" نَافِيَةٌ. و "يَزَالُ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ نَاقِصٌ مِنْ أَخَوَاتِ "كانَ" مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والحازِمِ. و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوصولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ اسِمٌ لَها. وَخَبَرُهَا محذوفٌ، والجُمْلَةُ مِنِ اسْمِهَا وَخَبَرِهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ في الآيَةِ: 52، السَّابقة: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ} لِيَسْتَكْمِلَ شَرْحَ حَالِ الكَافِرينَ وَيَسْتَوْفِيَهَا.
قولُهُ: {كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ} كَفَرُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ. و "فِي" حرفٌ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بخبرِ "لا يزالُ" المحذوفِ، و "مِرْيَةٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ "مِنْهُ" حرفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِالخَبَرِ المَحْذوفِ أَوْ بِصِفَةٍ لَهَ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرْفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "كفروا" صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً} حَتَّى: حَرْفُ جَرٍّ وَغَايَةٍ بِمَعْنَى "إِلَى"، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَزَالُ". وَ "تَأْتِيَهُمُ" فِعْلٌ مُضارعٌ منصوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً وُجُوبًا بَعْدَ "حَتَّى"، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفعولِيَّةِ، والميمُ عَلَامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "السَّاعَةُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، و "بَغْتَةً" مَنْصُوبٌ عَلَى الحَالِ مِنَ قولِهِ: "السَّاعةِ"، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "حَتَّى"، والتَّقْديرُ: إِلَى إِتْيانِ السَّاعَةِ إِيَّاهُم.
قولُهُ: {أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ} أَوْ: حرفُ عطْفٍ للتَّنويع، وَ "يَأْتِيَهُمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ" مُضْمَرَةً وُجُوبًا بَعْدَ "حَتَّى"، لكونِهِ مَعْطوفٌ عَلَى الفعلِ "تَأْتيهم" الذي قبله، وَالهَاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفعولِيَّةِ، والميمُ عَلَامَةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "عَذَابُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "يَوْمٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "عَقِيمٍ" صِفَةٌ لِـ "يَوْمٍ" مجرورةٌ مِثْلُهُ. والجملةُ معطوفةٌ على التي قبلَها.