إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ
(25)
قولُهُ ـ تَعَالى شأنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} أَيْ: إِنَّ الذِينَ كَفَرُوا باللهِ ـ تَعَالَى، وَكَذَّبُوا رَسُولَهُ مُحمَّدًا ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَنْكَرُوا مَا جَاءَهُم بِهِ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ.
قوْلُهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} أَيْ: وَيُحاولونَ مَنْعَ النَّاسِ مِنْ الدُّخُولُ فِي دِينِ الإسْلامِ، واتِّباعِ رَسولِ اللهِ.
وَمَا ذَكَرَهُ ـ جَلَّ وَعَلَا، فِي هَذِهِ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مِنْ أَعْمَالِ الْكُفَّارِ الصَّدَّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ، وَعَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ بَيَّنَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، منْ سورةِ البقرةِ: {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللهِ الْآيَةَ: 217، وَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سورةِ الفتحِ: {هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} الآية: 25، وَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ المائِدَةِ: {وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا} الْآيَةَ: 2. إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ. وَقَوْلُهُ تَعَالَى فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: "سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي"
قولُهُ: {والمَسْجدِ الحرامِ} أَيْ: وَيَمْنَعُونَ النَّاسَ مِنْ الوُصُولِ إِلَى المَسْجِدِ الحَرَامِ، الذي جَعَلَهُ اللهُ {مَثابةً للنَّاسِ وأَمْنًا} لِلْمُنِينَ بِهِ، مِنَ النَّاسِ كَافَّةً. والْحَرَمُ كُلُّهُ هُوَ الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، قالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَخْرَجْهُ عَنْهُ عَبْدُ ابنُ حُمَيْدٍ.
وَالْمُرَادُ بِصَدِّهِمُ النَّاسَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ هوَ ما عَرَفَهُ الْمُسْلِمُونَ يَوْمَئِذٍ مِنْ صَدِّهِمْ عَنْ دُخُولِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَالطَّوَافِ بِالْبَيْتِ العتيقِ، وَمَنْعِهم مِنْ زِيَارَتِهِ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. مِنْ ذلكَ ما رُوِيَ مِنْ أَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، جَاءَ إِلَى مَكَّةَ مُعْتَمِرًا، وَقَالَ لِصَاحِبِهِ أُمَيَّةَ بْنِ خَلَفٍ: انْتَظِرْ لِي سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ لَعَلِّي أَطُوفُ بِالْبَيْتِ، فَبَيْنَمَا كانَ يَطُوفُ بالبَيْتِ إِذْ أَتَاهُ أَبُو جَهْلٍ وَعَرَفَهُ. فَقَالَ لَهُ: أَتَطَّوَّفُ بِالْكَعْبَةِ آمَنَّا وَقَدْ آوَيْتُمُ الصُّبَاةَ؟. ـ يَعْنِي الْمُسْلِمِينَ. وَمِنْ ذَلِكَ مَا صَنَعُوهُ يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ، إِذْ مَنَعُوا النَبِيَّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، ومَنْ كانَ مَعَهُ مِنْ أَصْحابِهِ مِنَ العِمْرَةِ.
قولُهُ: {سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} سَوَاءً فِي تَعْظِيمِ حُرْمَتِهِ وَقَضَاءِ النُّسُكِ فِيهِ الْحَاضِرُ مِنْهُمُ المُقِيمُ فِيهِ وَحَوْلَهُ، وَالْبَعِيدُةُ دَارُهُ عَنْهُ، الَّذِي يَأْتِيهِ مِنَ شتَّى الْبِلَادِ والأَصقاعِ، فَلَيْسَ أَهْلُ مَكَّةَ أَحَقَّ مِنَ النَّازِحِ إِلَيْهِ في ذلك لأَنَّ جَمِيعَ خَلْقَ اللهِ فيهِ سواءٌ. أَخْرَجَهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوِلِهِ ـ تَعَالَى: "سَوَاءٌ العَاكِفُ فِيهِ والبادِ" قَالَ: سَوَاءٌ الْمُقِيمُ وَالَّذِي يَرْحَلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ سابِطٍ فِي قَوْلِهِ: "سَوَاءٌ العَاكِفُ فِيهِ والبادِ" قَالَ: البادي الَّذِي يَجِيءُ مِنَ الْحَجِ، والمُقِيمُونَ سَوَاءٌ فِي الْمَنَازِلِ يَنْزِلُونَ حَيْثُ شَاؤُوا وَلَا يَخْرُجُ رَجُلٌ مِنْ بَيْتِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "سَوَاء" يَعْنِي شَرْعًا وَاحِدًا، و "العاكِفُ فِيهِ" قَالَ: أَهْلُ مَكَّةَ فِي مَكَّةَ أَيَّامَ الْحَجِّ، و "البادِ" قَالَ: مَنْ كَانَ فِي غَيْرِ أَهْلِهَا مَنْ يَعْتَكِفُ بِهِ مِنَ الْآفَاقِ، قَالَ: هُمْ فِي منَازِلِ مَكَّةَ سَوَاءٌ، فَيَنْبَغِي لِأَهْلِ مَكَّةَ أَنْ يُوَسِّعُوا لَهُمْ حَتَّى يَقْضُوا مَنَاسِكَهُمْ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيضًا أَنَّهُ قالَ فِي الْآيَةِ: البادِي وَأَهْلُ مَكَّةَ سَوَاءٌ فِي الْمَنْزِلِ وَالْحَرَمِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُما: في قولِهِ: "سَوَاءٌ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ" قَالَ: سَوَاءٌ فِي تَعْظِيمِ الْبَلَدِ وَتَحْريمِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي "شُعَبُ الإِيمانِ" عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: "سَوَاءٌ" فِي جِوَارِهِ، وَأَمْنِهِ، وَحُرْمَتِهِ، "العاكِفُ فِيهِ" أَهْلُ مَكَّةَ، وَ "البادِ" مَنْ يَعْتَكِفُ فيهِ مِنْ أَهْلِ الْآفَاقِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ حُصَيْنٍ، قَالَ: سَأَلْتُ سَعيدَ بْنَ جُبَيْرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَعْتَكِفُ بِمَكَّةَ؟ قَالَ: لَا. أَنْتَ مُعْتَكِفٌ مَا أَقَمْتَ، قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى: "سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ والبادِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ "سَوَاءٌ العاكِفُ فِيهِ والبادِ" قَالَ: يَنْزِلُ أَهْلُ مَكَّةَ وَغَيْرُهُمْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ.
وَقِيلَ: إِنَّ الْمُسَاوَاةَ إِنَّمَا هِيَ فِي دُورِهِ وَمَنَازِلِهِ، لَيْسَ الْمُقِيمُ فِيهَا أَوْلَى مِنَ الطَّارِئِ عَلَيْهَا. وَهَذَا عَلَى أَنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ الْحَرَمُ كُلُّهُ، وَهَذَا قَوْلُ مُجَاهِدٍ وَمَالِكٍ، رَوَاهُ عَنْهُ ابْنُ الْقَاسِمِ. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ وَابْنِ عباس وجماعة أَنَّ الْقَادِمَ لَهُ النُّزُولُ حَيْثُ وُجِدَ، وَعَلَى رَبِّ الْمَنْزِلِ أَنْ يُؤْوِيَهُ شَاءَ أَوْ أَبَى. وَقَالَ ذَلِكَ سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ وَغَيْرُهُ. وَكَذَلِكَ كَانَ الْأَمْرُ فِي الصَّدْرِ الْأَوَّلِ، كَانَتْ دُورُهُمْ بِغَيْرِ أَبْوَابٍ حَتَّى كَثُرَتِ السَّرِقَةُ، فَاتَّخَذَ رَجُلٌ بَابًا فَأَنْكَرَ عَلَيْهِ عُمَرُ وَقَالَ: أَتُغْلِقُ بَابًا فِي وَجْهِ حاجِّ بَيْتِ اللهِ تَعالى:؟ فَقَالَ: إِنَّمَا أَرَدْتُ حِفْظَ مَتَاعِهِمْ مِنَ السَّرِقَةِ، فَتَرَكَهُ فَاتَّخَذَ النَّاسُ الْأَبْوَابَ.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يَأْمُرُ فِي الْمَوْسِمِ بِقَلْعِ أَبْوَابِ دُورِ مَكَّةَ، حَتَّى يَدْخُلَهَا الَّذِي يَقْدَمُ فَيَنْزِلُ حَيْثُ شَاءَ، وَكَانَتِ الْفَسَاطِيطُ تُضْرَبُ فِي الدُّورِ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّ الدُّورَ لَيْسَتْ كَالْمَسْجِدِ وَلِأَهْلِهَا الِامْتِنَاعُ مِنْهَا وَالِاسْتِبْدَادُ، وَهَذَا هُوَ الْعَمَلُ الْيَوْمَ. وبِهِ قالَ جُمْهُورٌ مِنَ الأَئِمَّةِ.
وَهَذَا الْخِلَافُ يُبْنَى عَلَى أَصْلَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنَّ دُورَ مَكَّةَ هَلْ هِيَ مِلْكٌ لِأَرْبَابِهَا أَمْ لِلنَّاسِ. وَلِلْخِلَافِ سَبَبَانِ: أَحَدُهُمَا هَلْ فَتْحُ مَكَّةَ كَانَ عَنْوَةً فَتَكُونُ مَغْنُومَةً؟، لَكِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمْ يَقْسِمْهَا وَأَقَرَّهَا لِأَهْلِهَا وَلِمَنْ جَاءَ بَعْدَهُمْ، كَمَا فَعَلَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، بِأَرْضِ السَّوَادِ، وَعَفَا لَهُمْ عَنِ الْخَرَاجِ، كَمَا عَفَا عَنْ سَبْيِهِمْ وَاسْتِرْقَاقِهِمْ إِحْسَانًا إِلَيْهِمْ دُونَ سَائِرِ الْكُفَّارِ، فَتَبْقَى عَلَى ذَلِكَ لا تُبَاعُ وَلَا تُكْرَى، وَمَنْ سَبَقَ إِلَى مَوْضِعٍ كَانَ أَوْلَى بِهِ. وَبِهَذَا قَالَ مَالِكٌ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَالْأَوْزَاعِيُّ ـ رَحِمَهُمُ اللهُ ـ تَعَالى. أَوْ كَانَ فَتْحُهَا صُلْحًا ـ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ الشَّافِعِيُّ ـ رحِمَهُ اللهُ، فَتَبْقَى دِيَارُهُمْ بِأَيْدِيهِمْ، وَفِي أَمْلَاكِهِمْ يَتَصَرَّفُونَ كَيْفَ شَاءُوا.
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ اشْتَرَى دَارَ صَفْوَانَ بْنِ أُمَيَّةَ بِأَرْبَعَةِ آلَافٍ وَجَعَلَهَا سِجْنًا. وَهُوَ أَوَّلُ مَنْ حَبَسَ فِي السِّجْنِ فِي الْإِسْلَامِ.
وَقَدْ رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حَبَسَ فِي تُهْمَةٍ. وَكَانَ طَاوُسٌ يَكْرَهُ السِّجْنَ بِمَكَّةَ وَيَقُولُ: لَا يَنْبَغِي لِبَيْتِ عَذَابٍ أَنْ يَكُونَ فِي بَيْتِ رَحْمَةٍ. وَظَوَاهِرُ الْأَخْبَارِ الثَّابِتَةِ تَدُلُّ بِأَنَّهَا فُتِحَتْ عَنْوَةً، وَعَلَيْه فإنَّ الصَّحِيح هو مَا قَالَهُ مَالِكٌ وأَبو حنيفة والأُوذاعِيُّ.
قَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: وَلَا نَعْلَمُ مَكَّةَ يُشْبِهُهَا شَيْءٌ مِنَ الْبِلَادِ. وَرَوَى الدَّارَقُطْنِيُّ عَنْ عَلْقَمَةَ بْنِ نَضْلَةَ الْكِنَانِيِّ قَالَ: تُوُفِّيَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَبُو بَكْرٍ، وَعُمَرُ (وَزَادَ فِي رِوَايَةٍ أُخْرَى لَهُ، وَعُثْمَانُ) ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم، وَمَا تُدْعَى رِبَاعُ مَكَّةَ إِلَّا السَّوَائِبُ، مَنْ احْتَاجَ سَكَنَ وَمَنِ اسْتَغْنَى أَسْكَنَ. وَأَخْرَجَهُ عَنْهُ أَيضًا ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: النَّاسُ بِمَكَّةَ سَوَاءٌ لَيْسَ أَحَدٌ أَحَقُّ بِالْمَنَازِلِ مِنْ أَحَدٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، أَنَّ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ وأَرضاهُ، نَهَى أَنْ تُغْلَقَ أَبْوَابُ دُورِ مَكَّةَ، فَإِنَّ النَّاسَ كَانُوا يَنْزِلُونَ مِنْهَا حَيْثُ وَجَدُوا، حَتَّى كَانُوا يَضْرِبُونَ فَسَاطِيطَهُمْ فِي الدُّورِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ سَعْدٍ عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ عُمَرَ بْنَ الْخَطَابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَجُلًا قَالَ لَهُ عِنْدَ الْمَرْوَةِ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ أَقْطِعْنِي مَكَانًا لِي وَلِعَقِبِي. فَأَعْرَضَ عَنْهُ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَقَالَ: هُوَ حَرَمُ اللهِ: "سَوَاءٌ العَاكِفُ فِيهِ وَالبَادِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ عَطاءَ بْنِ رباحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، يَمْنَعُ أَهْلَ مَكَّةَ أَنْ يَجْعَلُوا لَهَا أَبْوابًا حَتَّى يَنْزِلَ الْحَاجُّ فِي عَرَصَاتِ الدُّورِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ أَيْضًا عَنْ جَعْفَرَ عَنْ أَبِيهِ ـ رضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: لَمْ يَكُنْ للدُورِ بِمَكَّةَ أَبْوَابٌ، كَانَ أَهْلُ مِصْرَ، وَأَهْلُ الْعِرَاقِ، يأْتُونَ فَيَدْخُلُونَ دُورَ مَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عُمَرَ أَميرِ المُؤمنينَ ـ رضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: يَا أَهْلَ مَكَّةَ لَا تَتَّخِذُوا لِدُورِكُمْ أَبْوَابًا لِيَنْزِلَ البادِي حَيْثُ شَاءَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمَا، أَنَّ رَسولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: مَكَّةُ مُبَاحَةٌ لَا تُؤَجَرُّ بُيُوتُهَا وَلَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو ـ رَضِيَ اللهُ تعَالى عنْهُ، قَالَ: مَنْ أَخَذَ مِنْ أُجُورِ بيُوتِ مَكَّةَ، إِنَّمَا يَأْكُلُ فِي بَطْنِهِ نَارًا.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو بْنِ العاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ قَالَ: ((إِنَّ اللهَ تَعَالَى حَرَّمَ مَكَّةَ، فَحَرَامٌ بَيْعُ رِبَاعِهَا وَأَكْلُ ثَمَنِهَا))، وَقَالَ أَيْضًا: ((مَنْ أَكَلَ مِنْ أَجْرِ بُيُوتِ مَكَّةَ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا)). قَالَ الدَّارَقُطْنِيُّ: كَذَا رَوَاهُ أَبُو حَنِيفَةَ مَرْفُوعًا وَوَهِمَ فِيهِ، وَوَهِمَ أَيْضًا فِي قَوْلِهِ: عُبَيْدُ اللهِ بْنُ أَبِي يَزِيدَ، وَإِنَّمَا هُوَ ابْنُ أَبِي زِيَادٍ الْقَدَّاحُ، وَالصَّحِيحُ أَنَّهُ مَوْقُوفٌ.
وَأَسْنَدَ الدَّارَقُطْنِيُّ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ عَمْرٍو أَنَّهُ قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ: صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((مَكَّةُ مُنَاخٌ لَا تُبَاعُ رِبَاعُهَا وَلَا تُؤَاجَرُ بُيُوتُهَا)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ عَطَاءَ بْنِ رباحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ أَنْ تُبَاعَ بُيُوتُ مَكَّةَ، أَوْ تُكْرَى.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: بُيُوتُ مَكَّةَ لَا تَحِلُّ إِجَارَتُهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ كَانَ يَكْرَهُ إِجَارَةَ بُيُوتِ مَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: أَنَا قَرَأْتُ كِتَابَ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، عَلَى النَّاسِ بِمَكَّةَ، فَقد نَهَاهُمْ فِيهِ عَنْ كِرَاءِ بُيُوتِ مَكَّةَ وَدُورِهَا.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ السَّيِدَةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهَا، أَنَّها قَالَتْ: قُلْتُ يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا أَبْنِي لَكَ بِمِنًى بَيْتًا، أَوْ بِنَاءً يُظِلُّكَ مِنَ الشَّمْسِ؟. فَقَالَ: ((لَا، إِنَّمَا هُوَ مُنَاخُ مَنْ سَبَقَ إِلَيْهِ)).
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ الْقَاسِمِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: مَنْ أَكَلَ
شَيْئًا مِنْ كِرَاءِ مَكَّةَ، فَإِنَّمَا يَأْكُلُ نَارًا.
وَأَمَّا الشَّافِعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فقَدْ تَمَسَّكَ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى في الآيةِ: 40، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ}، فَأَضَافَهَا إِلَيْهِمْ. وَبِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، يَوْمَ الْفَتْحِ: ((مَنْ أَغْلَقَ بَابَهُ فَهُوَ آمِنٌ، وَمَنْ دَخَلَ دَارَ أَبِي سُفْيَانَ فَهُوَ آمِنٌ)). وَهَذَا يَعْنِي أَنَّهَا مُلْكٌ شخصِيٌّ لَّهُمْ، وَعَلَى ذَلِكَ فَإِنَّه يَحِقُّ لَهُمُ التَّصَرُّف في مُلْكِهِم بِمَا يَرَوْنَهُ مناسِبًا وَكَيْفَ يَشَاؤُونَ.
وذَهَبَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ مِنْهُمُ الضَّحَّاكُ وَابْنُ زَيْدٍ إِلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْإِنْسَانَ يُعَاقَبُ عَلَى مَا يَنْوِيهِ مِنَ الْمَعَاصِي بِمَكَّةَ وَإِنْ لَمْ يَعْمَلْهُ. وَقَدْ رُوِيَ نَحْوُ ذَلِكَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهم، قَالُوا: لَوْ هَمَّ رَجُلٌ بِقَتْلِ رَجُلٍ بِهَذَا الْبَيْتِ وَهُوَ (بِعَدَنِ أَبْيَنَ)، لَعَذَّبَهُ اللهُ. وَهُوَ الصَحِيحُ ، واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} أَيْ: وَمَنْ يُريدُ أَنْ يَميلَ إِلَى الظُّلْمِ فيَ المَسْجِدِ الحَرَامِ، فَيْعْصِيَ اللهَ فِيهِ، أَوْ يُخَالِفَ ما أَمْرَ اللهُ فِيهِ، مُتَعَمِّدًا غَيْرَ مُتَأَوِّلٍ.
وَالْإِلْحَادُ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ، إِلَّا أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، بَيَّنَ أَنَّ الْمَيْلَ بِالظُّلْمِ هُوَ الْمُرَادُ هُنَا.
وَاخْتُلِفَ فِي الظُّلْمِ، فَرَوَى عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ" قَالَ: الشِّرْكُ. وَقَالَ عَطَاءٌ: الشِّرْكُ وَالْقَتْلُ. وَقِيلَ: مَعْنَاهُ صَيْدُ حَمَامَةٍ، أَوْ قَطْعُ شَجَرَةٍ، وَدُخُولُهُ غَيْرِ مُحْرِمٍ.
وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قال: ((احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحَادٌ فِيهِ)). وَبِهِ قَالَ أَميرُ المُؤمنينَ عُمَرُ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ. وَبَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ قَالَ: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ، وَقَالوا أَيْضًا: يَدْخُلُ فِي ذَلِكَ قَوْلُ الرَّجُلِ: لَا وَاللهِ، وَ: بَلَى وَاللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ حَبيبِ بْنِ أَبي ثَابِتٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ" قَالَ: هُمُ المُحْتَكِرُونَ الطَّعَامَ بِمَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ البُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ يَعْلَى بْنِ أُمَيَّةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: احْتِكَارُ الطَّعَامِ فِي الْحَرَمِ إِلْحادٌ فِيهِ.
وَأَخْرَجَ سَعيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَالْبُخَارِيُّ فِي تَارِيخِهِ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ أَميرِ المُؤْمنينَ عًمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، قَالَ: احْتِكارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ بِظُلْمٍ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: بَيْعُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ.
وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: احْتِكَارُ الطَّعَامِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ.
وَكَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ في مَكَّةَ تُضَاعَفُ الْمَعَاصِي أَيضًا، فَتَكُونُ الْمَعْصِيَةُ مَعْصِيَتَيْنِ، إِحْدَاهُمَا بِالْمُخَالَفَةِ نَفْسِها، وَأمَّا الثَّانِيَةُ فتكونُ بِإِسْقَاطِ حُرْمَةِ الْبَلَدِ الْحَرَامِ، وَهَكَذَا يكونُ الأَمْرُ في الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ.
فَقَدْ أَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَنيعٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كَانَ لِعَبْدِ اللهِ ابْنِ عُمُرَ فُسْطَاطَانِ: أَحَدُهُمَا فِي الْحِلِّ وَالْآخَرُ فِي الْحَرَمِ، فَإِذا أَرَادَ أَنْ يُصَلِّي صَلَّى فِي الَّذِي فِي الْحَرَمِ، وإِذَا أَرَادَ أَنْ يُعَاتِبَ أَهْلَهُ عَاتَبَهُمْ فِي الَّذِي فِي الْحِلِّ. فَقِيلَ لَهُ، فَقَالَ: كُنَّا نُحَدَّثُ أَنَّ مِنَ الْإِلْحَادِ فِيهِ أَنْ يَقُولَ الرَّجُلُ: (كَلَّا وَاللهِ)، وَ (بَلَى وَاللهِ).