وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ
(66)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} هَذِهِ الجملةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} مِنَ الآيةِ الَّتي قبلَها، لِأَنَّ الإحْياءَ مِنْ جُمْلَةِ نِعَمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، عَلَى الخَلْقِ، وفيهما اسْتِدْلالٌ على عظمةِ اللهِ وقدْرتِهِ، فَلذلكَ نَاسَبَ أَنْ تُعْطَفَ عَلَى عليْهَا لِتَضَمُّنِهِما امْتِنَانًا وَاسْتِدْلَالًا، وتَذْكيرًا للْمُلْحِدينَ بِالْحَيَاةِ الْأُولَى الَّتِي لَا رَيْبَ فِيهَا فمَنِ الذي وهَبَكم هَذِهِ الحياةَ؟ ثُمَّ ذَكَّرهم بِالْإِمَاتَةِ وهما حقيقتانِ لَا يَرْتَابُ فِيهَما مُرتابٌ، ثُمَّ يُخْبِرُهُمْ بَأَنَّ بَعْدَ الْإِمَاتَةِ إِحْيَاءٌ مَرَّةً أُخْرَى، فَمَنْ لمْ يَرْتَبْ بالحقيقتينِ الأُولَى والثانيةِ يَجِبَ عَلَيْهِ أَلَّا يَرْتَابَ بالحقيقةِ الثالثةِ. وَهَذَا هُوَ مَحَلُّ الِاسْتِدْلَالِ.
قولُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} حَرْفُ التَّوْكيدِ "إِنَّ" لِتَأْكِيدِ خَبَرِ كُفْرِهِمْ، وتَنْزِيلِهِمْ مَنْزِلَةَ مَنْ يُنْكِرُ أَنَّهُمْ كُافِرُونَ باللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى.
وَ "الْإِنْسانَ" فيهِ "أَلـ" التَّعْرِيفِ للِاسْتِغْرَاقِ الْعُرْفِيِّ الْمُرادُ بِهِ أَكْثَرُ أَفْرَادِ الْجِنْسِ، وَقَدْ كَانَ أَكْثَرُ الْعَرَبِ يَوْمَئِذٍ مُنْكِرِينَ لِلْبَعْثِ، فَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ: {فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ} الآيَةَ: 38. وَيجوزُ أَنْ يكونَ قدْ أُرِيدَ بِـ "الْإِنْسَانَ" الْمُشْرِكُ خُصُوصًا، فيكونُ كَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ مَرْيمَ ـ عليْها السَّلامُ: {وَيَقُولُ الْإِنْسانُ أَإِذا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا} الآيةَ: 66.
وَجيءَ بِصِيغَةِ المُبَالَغَةِ "الْكَفُورُ" للمُبَالَغَةِ فِي كَفْرِهم، لِأَنَّهُ كَانَ مُكَابَرَةً مِنْهم وَتَعَنُّتًا، واسْتكْبارًا عَلَى الحقِّ ـ تَبَارَكَ وتَعالى. والكافِرُ هوَ مَنْ يُنْكِرُ وُجُودَ اللهِ الخالقِ العظِمِ ـ عَزَّ وجلَّ، مَنْ كَفَرَ الشَّيْءَ إذا غطَّاهُ وسترَهُ وحجَبَهُ، فكَأَنَّ الكافرَ بربِّهِ يحاوِلَ حجْبَ هَذِهِ الحقيقةِ الواضحةِ الجلِيَّةِ عَنْ عَقْلِهِ وَعَقْلِ غَيْرِهِ مِنَ البَشَرِ بِمَا يٌوَسْوِسُ لهُ بِهِ الشَّيْطَانُ مِنْ شُكُوكٍ وَأَوْهامٍ وتُرَّهاتٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الإمامِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْله: "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ" قَالَ: يَعُدُّ المُصِيبَاتِ وَيَنْسَى النِّعَمَ.
وَأَخْرَج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيْضًا، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: كُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ "إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ" يَعْنِي بِهِ الْكفَّارَ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
والجُمْلةُ الكريمةُ هَذِهِ تَذْيِيلٌ جَمَعَ الْمَقْصِدَ مِنْ تَعْدَادِ نِعَمِ اللهِ الجليلِ الْذي أَنْعَمَ عَلَى عبادِهِ بِجَليلِ النِّعَمِ، مما يَقْتَضِي بانْفِرَادِهُ بِاسْتِحْقَاقِ الشُّكْرِ لَهُ، وَالاعْتِرَافِ لَهُ بِالوَحْدَانِيَّةِ وَالرُّبُوبِيَّةِ.
قولُهُ تَعَالَى: {وَهُوَ الَّذِي} الواوُ: اسْتِئنافيَّةٌ، و "هوَ" ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، و "الَّذي" اسمٌ موصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ خَبَرُهُ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {أَحْيَاكُمْ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ المُقدَّرِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ على الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازً تَقْديرُهُ (هوَ) يَعودُ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرَاخٍ. و "يُمِيتُكمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يُعُودُ عَلَى "الذي"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الَّنَّصْبِ بالمَفعولِيَّةِ، والميمُ: لتذْكيرِ الجَمعِ. والجملةُ مَعْطوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ "أَحْيَاكُمْ"، على كونِها صِلَةَ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذي" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {ثُمَّ يُحْيِيكُمْ} هَذِهِ الجُملةُ مَعْطوفةٌ عَلىَ جُملةِ قولِهِ: "ثُمَّ يُمِيتُكم" ولها مِثْلُ إِعْرابِها.
قولُهُ: {إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. وَ "الْإِنْسَانَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لَكَفُورٌ" اللَّامُ: هِيَ المُزَحْلَقَةُ للتَّوْكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، و "كفورٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مَرْفوعٌ بِها. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لِتَعْلِيلِ عَدَمِ التَّفَكُّرِ وَالتَّبَصُّرِ الاعْتِبَارِ بَعْدَ كُلِّ هَذِهِ الدَّلائِلِ والعِبَرِ المُتَقَدِّمِ ذِكْرها.