وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ
(21)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} قيلَ إِنَّ هَذِهِ اللَّامُ هِيَ لامُ الاسْتِحْقاقِ، وَقيلَ: هيَ لامُ الْفائدَةِ للتَّهَكُّمِ بِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ لِلْأَجَلِ، وَالكَلَامُ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، والتَّقديرُ: لِتَعْذيبِهِمْ، وَقِيلَ: هِيَ بِمَعْنَى (عَلَى) كَمَا هِيَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ غَافِر: {وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ} الآيَةِ: 52، أَيْ: وَعَلَيْهِمُ اللَّعْنَةُ.
وَ "مَقَامِعُ" جَمْعُ مِقْمَعَةٍ، وَهِيَ مَا يُقْمَعُ بِهِ، أَيْ: يَكُفُّ بِعِنْفٍ. وهوَ مِنْ قَوْلِكَ: قَمَعْتُ رَأْسَهُ، إِذَا ضَرَبْتَهُ ضَرْبًا عَنِيفًا. وَقيلَ هِيَ: مِدَقَّةٌ للرَّأْسِ، وهيَ مِنْ قَمَعَهُ قَمْعًا إِذَا رَدَعَهُ. وَفَسَّرَهَا الضَّحَّاكُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وجَمَاعَةٌ مِنَ المُفَسِّرينَ بِالْمَطَارِقِ. فقَد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَلَهُم مَقَامِعُ" قَالَ: مَطَارِقُ. وَفَسَّرَها آخرونَ بِالسِّيَاطِ.
وَأَخْرَجَ الإمامُ الواحِدِيُّ في تَفْسيرِهِ الْوَسِيطِ: (3/264). عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ، قالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي قَوْلِهِ: "وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ": ((لَوْ وُضِعَ مِقْمَعٌ مِنْ حَدِيدٍ فِي الأَرْضِ ثُمَّ اجْتَمَعَ الثَّقَلانِ مَا أَقَلُّوهُ مِنَ الأَرْضِ)). وَأَخْرَجَهُ الإِمَامُ أَحْمَدُ في مُسْنَدِهِ: (3/29)، وَالحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (4/600)، وصَحَّحَهُ، عَنْ أَبي الهَيْثَمِ، عنْ أَبي سَعِيدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَرَوَاهُ أَيْضًا أَبُو يَعْلَى المَوْصِلِيُّ.
وأَخْرَجَ أَيْضًا الأَئمَّةُ أَحْمَدُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْحَاكِمُ وَصَححهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (الْبَعْثُ والنُّشورِ) عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((لَوْ ضُرِبَ الجَبَلُ بِمِقْمَعٍ مِنْ حَدِيدٍ، لَتَفَتَّتَ ثُمِّ عَادَ كَمَا كَانَ، وَلَوْ أَنَّ دَلْوًا مِنْ غَسَّاقٍ يُهَرَاقُ فِي الدُّنْيَا لَأَنْتَنَ أَهْلُ الدُّنْيَا)). الْمُسْنَدُ: (3/83).
وَقَالَ الحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: إِنَّ النَّارَ تَرْمِيهِمْ بِلَهَبِهَا، حَتَّى إِذَا كَانُوا فِي أَعْلَاهَا، ضُرِبُوا بِمَقَامِعَ، فَهَوَوْا فِيهَا سَبْعِينَ خَريفًا، فَإِذَا انْتَهَوْا إِلَى أَسْفَلِهَا، ضَرَبَهُمْ زَفِيرُ لَهَبْهَا، فَلَا يَسْتَقِرُّونَ سَاعَةً.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنْهُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ عُمَرُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ وأَرْضَاهُ، يَقُولُ: أَكْثِرُوا ذِكْرَ النَّارِ، فَإِنَّ حَرَّهَا شَدِيدٌ، وَإِنَّ قَعْرَهَا بَعِيدٌ، وَإِنَّ مَقَامِعَهَا حَدِيدٌ.
وَقَالَ مُقاتِلٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: إِذَا جَاشَتْ جَهَنَّمُ، أَلْقَتْهُمْ فِي أَعْلَاهَا، فَيُريدونَ الخُرُوجَ، فَتَتَلَقَّاهُمْ خَزَنَةُ جَهَنَّمَ بِالْمَقَامِعِ، فَيَضْرِبونَهُمْ، فَيَهْوِي أَحَدُهُمْ مِنْ تِلْكَ الضَّرْبَةِ إِلَى قَعْرِهَا.
وَقيلَ: إِذَا دَفَعَتْهُمُ النَّارُ، ظَنُّوا أَنَّها سَتَقْذِفُهُمْ خَارِجًا مِنْهَا، فَتُعِيدُهُمُ الزَّبَانِيَةُ بِمَقَامِعِ الحَديدِ, واللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ} الواوُ: للحَالِ، ويجوزُ أنْ تكونَ للاسْتِئْنافِ، وَاللَّامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ، وَالهَاءُ: ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرَّ، وَهذا الضميرُ عائدٌ على الكُفارِ أَهْلِ النَّارِ، وقيلَ: يَعُودُ عَلَى الزَّبَانِيَةِ أَعْوَانِ جَهَّنَمَ، دَلَّ عَلَيْهِمْ سِيَاقُ الكَّلَامِ، أَيْ وللزَّبانيةِ مقامِعُ مِنْ حديدٍ يضربونَ بها أَهْلَ النارِ. وَفِيهِ بُعْدٌ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. وُ "مَقَامِعُ" مَرْفوعٌ بالابتِداءِ مُؤَخَّرٌ. وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "مقامِعُ"، و "حَديدٍ" مجرورٌ بِحَرفِ الجَرِّ. وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنْ الضَّميرِ في قولِهِ في الآيةِ التي قبلَها: {بُطُونِهِمْ}، هَذَا إِنْ قُلْنَا: إِنَّ الضَّمِيرَ فِي "لَهُمْ" عائِدٌ إِلَى الكَفَرَةِ، وَإْنْ قُلْنَا: إِنَّهُ عائدٌ عَلَى الزَّبَانِيَةِ، فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ لَهُمْ ذِكْرٌ، وَلَكِنَّ سِيَاقَ الكَلَامِ يَدُلُّ عَلَيْهِم، وقدْ تقدَّمَ أَنَّ هذا القولَ فيهِ بُعْدٌ.