حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ
(31)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {حُنَفَاءَ للهِ} تَقَدَّمَ في الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا تفسيرُ الزُّورِ: بِأَنَّهُ المَيْلُ عَنِ الحقِّ إِلى الباطِلِ، وَهوَ مِنْ صِفَةِ المُشْرِكِينَ والمُنافقينَ، وهَنَا يَصِفُ اللهُ تَعَالَى عِبَادَهُ المُؤْمِنينَ الصَّالِحينَ بالحَنَفِ وَهُوَ المَيْلُ أَيْضًا، ولَكِنَّ هَؤُلاءِ يَمِيلُونَ بِعَكْسِ مَيْلِ أُولَئِكَ، فالحَنَفُ هُوَ المَيْلُ عَنِ الباطِلِ إِلى الحَقِّ، والحُنَفَاءُ: هُمُ المائلونَ عَنْ دِينِ الزَّيغِ والعقائدِ الفاسِدَةِ إِلى الدِّينِ الحَقِّ، وَهَذَا الطَّريقُ الَّذي أُمِرُوا بِسُلُوكِهِ، فَهُنَاكَ أَمَرَهُمْ اللهُ باجْتِنَابِ طُرُقِ الفَسَادِ، وَهُنَا أَمَرَهُمْ مَولاهُمْ بِسُلوكِ سَبيلِ الهِدايةِ والرَّشادِ. أَيْ: إِنِ اجْتَنَبْتُمْ ذَلِكَ كُنْتُمْ حُنَفَاءَ للهِ، وَالحَنِيفُ هُوَ الْمُخْلِصُ في عِبَادَتِهِ وميعِ عَمَلِهِ للهِ رَبِّهِ، فإِذَا فَعَلُوا ذَلِكَ كانُوا عَلَى مِلَّةِ أَبيهِمُ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبي بَكْرٍ الصِّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنهُ وأَرضاهُ، أَنَّهُ قَالَ: كَانَ النَّاسُ يَحِجُّونَ وَهُمْ مُشْرِكُونَ فَكَانُوا يُسَمُّونَهُمْ حُنَفَاءَ الْحُجَّاجِ، فَنَزَلَتْ: "حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكينَ بِهِ".
وَأَخْرَج ابْنُ أَبي حَاتِمٍ أَيْضًا عَنْ عَبْدِ اللهِ ابْنِ الْقَاسِمِ مَوْلَى أَبي بَكْرٍ الصّديقِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنْ مُضَرَ وَغَيرِهِمْ يَحجُّونَ الْبَيْتَ وَهُمْ مُشْرِكونَ، وَكَانَ مَنْ لَا يَحجُّ الْبَيْتَ مِنَ الْمُشْركينَ يَقُولُونَ: قُولُوا: حُنَفَاءَ. فَقَالَ اللهُ ـ تَعَالى: "حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكينَ بِهِ" يَقُولُ: حَجَّاجًا غَيْرَ مُشْرِكينَ بِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: مَا كَانَ فِي الْقُرْآنِ مِنْ حُنفَاءَ قَالَ: مُسْلِمينَ، وَمَا كَانَ حُنَفَاءَ مُسْلِمِينَ فَهُمْ حُجَّاجٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "حُنَفَاءَ" قَالَ: حُجَّاجًا. وَأَخْرَجَ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، مِثْلَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "حُنَفَاءَ" قَالَ: مُتَّبِعينَ.
قوْلُهُ: {غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} زَادَ مَعْنَى حُنَفاءَ بَيَانًا بِقَوْلِهِ: "غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ"، فالحنيفُ مُؤمِنٌ بربِّهِ مُخلِصٌ لَهُ، والمُخلِصُ لِمَوْلاهِ لا يُشْرِكَ معَهُ سِواهُ. وَهَذَا كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ النَّحْل: {إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتًا للهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ} الآيَةَ: 120، وَالْبَاءُ فِي قَوْلِهِ هُنَا: "مُشْرِكِينَ بِهِ" هِيَ لِلْمُصَاحَبَةِ وَالْمَعِيَّةِ، أَيْ: غَيْرَ مُشْرِكِينَ مَعَهُ غَيْرَهُ.
والمَعْنَى: مُخْلِصِينَ للهِ ـ تَعَالَى، وحْدَهُ في مُعْتقداتِهم، ومُعَامَلاتِهِم، وَجَمِيعِ أُمُورِهِم، فإنَّ اللهَ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى، لَا يَقْبَلُ مِنْ عَبْدٍ عَمَلًا، أَشْرَكَ معَهُ فيهِ غَيْرَهُ. وَهَذَا الأمْرُ مِنْ عَمَلِ القَلْبِ، الذي غالِبًا مَا يَتَسَلَّلُ إلَيْهِ الشيطانُ عَنْ طريقِ النَّفْسِ، فَإِذَا أَرادَ ابْنُ آدَمَ أَنْ يَقُومَ بِعَمَلٍ صَالِحٍ، فَإِنَّهُ يُحاوِلُ أَنْ يَثْنِيَهِ عَنْهُ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ، حَاوَلَ أَنْ يَشْغَلَهُ عَنْهُ وَيُلْهِيَهِ، فَإِذَا لَمْ يَسْتَطِعْ، تَسَلَّلَ إِلِى قَلْبِهِ عَنْ طَريقِ نَفْسِهِ لَعَلَّهُ يَجْعَلُهُ يَبْتَغي بِعَمَلِهِ الصالحِ هَذَا مَنْفَعَةً خاصَّةً، أَوْ ثَنَاءً مِنَ الآخَرينَ عَلَيْهِ، أَوْ سُمْعَةً حَسَنَةً، ورُبَّما جَعلَهُ يُعْجَبُ بعملِهِ، ويغترُّ بنفسِهِ فيَحْبَطُ عَمَلُهُ، ويخيبُ سعيُهُ ويُفْسِدُ عَلَيْهِ قَصْدَهُ، وَيَخْسَرُ رِضْوانَ رَبِّهِ وَمَثُوبَتَهُ، لِأَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، لَا يَقْبَلُ مِنَ العَمَلِ إِلَّا مَا كَانَتِ النِّيَّةُ فِيهِ خَالِصَةً لِوَجْهِهِ ـ سُبْحانَهُ، وَلِذَلِكَ نَبَّهَنَا اللهُ ـ تَعَالى، إِلَى خُطورَةِ ذَلِكَ فَقَالَ في آخِرِ سُورَةِ الكَهْفِ: {فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا} الآيةَ: 111. وكَذَلَكَ فَقَدْ لَفَتَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْظارَ أُمَّتِهِ إِلَى خطورَةِ هَذَا الأَمْرِ حَتَّى لَا تَذْهَبَ أُجُورُ أَعْمَالِهِمْ مِنْهُمْ هَبَاءً فَيُتَعِبُونَ أَنْفُسَهُمْ في الدُّنيا، وَيَخْسَرُونَ أُجُورَهم في الآخِرَةِ فَلَا يَنْتَفِعُونَ بِهَا. وَالآياتُ والأَحاديثُ الوارِدَةُ فِي هَذَا المَوْضُوعِ كَثِيرةٌ جِدًّا، وَقَدْ ذَكَرْنَا عَدَدًا مِنْهَا فِي غَيْرِ مَكَانٍ مِنْ هَذَا السِّفْرِ الكَريمِ، لِذَلِكَ فَقَدْ أَلمَحْنَا إِلَيْهَا هُنَا تَجَنُّبًا لِلتَّكْرارِ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} فإِنَّ مَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ ـ تَعَالى، وَمَاتَ عَلَى شِرْكِهِ وَقَعَ فِي هَلَاكٍ لَا خَلَاصَ لهُ مِنْهُ وَلَا نَجَاةَ، فُهُو كالَّذِي سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، فَتَمَزَّقَتْ أَوْصَالُهُ، وَهَوَتِ الطَّيْرُ علَيْهِ تَتَناهَبُ جَسَدَهُ، أَوْ تَحملُ الرِّيحُ أَشْلاءَهُ المُمَزَّقةَ وأَجْزاءَهُ المُبعْثَرةَ وَتُلْقِيهَا فِي مَكَانٍ بعيدٍ جِدًّا لِشِدَّةِ هُبُوبِهَا، ولذلكَ فَإِنَّهُ لَا خَلَاصٌ لَهُ وَلَا مَطْمَعَ فِي نَجَاتِهِ، ولَا مَحِيدَ عَنْ هلاكِهِ، وَنظيرُ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ قَوْلُهُ في الآيَةِ: 73، مِنْ سُورةِ المائدةِ: {إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ". قَالَ: هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللهُ لِمَنْ أَشْرَكَ بِاللهِ فِي بُعْدِهِ مِنَ الْهُدَى وَهَلَاكِهِ.
وَفعلُ: "خَرَّ" هوَ هُنَا ماضٍ ولكنْ في مَعْنَى "يَخِرُّ" المُضارعِ؛ وَلِذَلِكَ عُطِفَ عَلَيْهِ الفعلُ المُضارعُ: "فَتَخْطَفُهُ"، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ عَلى بَابِهِ، وَلَا يكونُ "فَتَخْطَفُهُ" عَطْفًا عَلَيْهِ، بَلْ هُوَ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: فَهُوَ تَخْطَفُهُ الطَّيْرُ. قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَيَجُوزُ فِي هَذَا التَّشْبِيهِ أَنْ يَكونَ مِنَ المُرْكَّبِ والمُفَرَّقِ. فَإِنْ كانَ تَشْبيهًا مُرَكَّبًا فَكَأَنَّهُ قَالَ: مَنْ أَشْرَكَ باللهِ فَقَدْ أَهْلَكَ نَفْسَهُ إِهْلاكًا لَيْسَ بَعْدَهُ هَلاكٌ، بِأَنْ صَوَّرَ حَالَهُ بِصُورَةِ حَالِ مَنْ خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَطَفَتْهُ الطَّيْرُ، فَتَفَرَّقَ مِزَعًا في حَوَاصِلِها، أَوْ عَصَفَتْ بِهِ الرِّيحُ حتَّى هَوَتْ بِهِ فِي بَعْضِ المَطَاوِحِ البَعِيدَةِ. وَإِنْ كانَ مُفَرَّقًا فَقَدْ شَبَّهَ الإِيمانَ ـ في عُلُوِّه، بِالسَّمَاءِ، وَالذي تَرَكَ الإِيمانَ، وَأَشْرَكَ بِاللهِ، شَبَّهَهُ بِالسَّاقِطِ مِنَ السَّمَاءِ، وَشَبَّهَ الأَهْوَاءَ الَّتي تَتَوَزَّعُ أَفْكَارَهُ بِالطَّيْرِ المُتَخَطِّفَةِ، وَالشَّيْطَانَ الَّذي يُطَوِّحُ بِهِ فِي وَادِي الضَّلالَةِ بِالرِّيحِ الَّتي تَهْوِي بِمَا عَصَفَتْ بِهِ فِي بَعْضِ المَهَاوِي المُتْلِفَةِ.
قالَ السَّمينُ الحلبيُّ مُعَقبًا عَلَى عبارةِ أبي القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيِّ: وَهَذِهِ العِبَارَةُ مِنْ أَبي القَاسِمِ مِمَّا يُنَشِّطُكَ إِلَى تَعَلُّمِ عِلْمِ البَيَانِ، فَإِنَّهَا فِي غَايَةِ البَلَاغَةِ.
قولُهُ: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} لأَنَّ الأَهوْاءَ الْمُرْدِيَةَ تَتَنَاهَبُ أَفْكَارَهُ وتَتَقاسَمُها وَتَتَوَزَّعُها فيما بَيْنَهَا. وَالاخْتِطَافُ، وَالخَطْفُ: تَنَاوُلُ الشَّيْءِ بِسُرْعَةٍ. وأَصْلُهُ: "تخْتِطَفُهُ"، والخَطْفُ: الاسْتِلابُ. مِنْ خَطِفَ (بالكسْرِ) يَخْطَفُ خَطْفًا. و خَطَفَ (بالفتح) يَخْطِفُ، وَهِيَ لُغةٌ رَديئَةٌ. واخْتَطَفهُ وتَخَطَّفَهُ بِمَعْنًى. والخُطَّافُ: اسْمُ طائرٍ. وَمَخالِبُ السِّبَاعِ: خَطاطيفٌ. قالَ الشَّاعِرُ أَبو زُبيْدٍ الطَّائيُّ في صِفَةِ الأَسَدِ:
إِذَا عَلِقِتْ قَرْنًا خَطاطيفُ كَفِّهِ ........ رَأَى المَوْتَ بِالْعَيْنَيْنِ أَسْوَدَ أَحْمَرا
وخاطِفُ ظِلِّهِ: اسمُ طائرٍ إَذَا رَأَى ظِلَّهُ في الماءِ هَوَى إِلَيْهِ لِيَخْطَفَهُ، وقد ذَكَرَهُ الكُمَيْتُ بْنُ زَيْدٍ الأَسَديُّ في شِعْرِهِ فَقَالَ:
ورَيطَةِ فِتيانٍ كَخاطِفِ ظِلِّهِ ............... جَعَلْتُ لَهُمْ مِنْها خِبَاءً مُمَدَّدا
والخاطِفُ: مِنْ أسْماءِ الذِّئبِ. وبرقٌ خاطِفٌ لِخطْفِهِ نُورَ الأَبْصَارِ. وأَخْطَفَ الرَّمِيَّةَ أَخْطَأَهَا. وَالخَطِيفَةُ: المَرْأَةُ تُؤْخَذُ دونَ إذْنِ وَلِيِّها. فإنَّ المعنى: أَنَّ هَذا المُشْركَ كَانَ حَالَهُ الاخْتِطَافُ، فهو كَحَالِ مَنْ سَقَطَ مِنَ السَّمَاءِ، فَتَخَطَّفَتْهُ الطَّيْرُ، فَفَرَّقَتْ أَجْزَاؤُهُ فِي حَوَاصِلَها. كيفَ لَا وهو يَهْوي في نارِ جَهَنَّمَ، وَتَتَجَاذَبُهُ مَلائكةُ العَذَابِ؟ قالَ قتادةُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ: وَالمُرَادُ بِهَذَا المَثَلِ تَشْبيهُ حالِ المًشْرِكِ بِرَبِّهِ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالَى، فِي بُعْدِهِ عَنِ الهُدَى وَهَلَاكِهِ، بِحالِ الذي يَسْقطُ مِنَ السَّمَاءِ. وقالَ غيرُهُ: شَبَّهَ حَالَ المُشْرِكِ، في عدَمِ امْتلاكِهِ أَيَّ نَفْعٍ لِنَفْسِهِ، وَعدَمِ استطاعتِهِ دَفْعَ ضَرِّ يَوْمَ القِيَامَةِ عنها، بِحَالِ مَنْ تُمَزِّق الطيرُ جَسَدَهُ وتأكُلُهُ وهو يَهْوي مِنَ السَّماءِ، حَكَاهُ الإمامُ الثَّعْلَبِيُّ أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهيمَ، أَبُو إِسْحاق. في تفسيرِهِ: الكَشْفُ وَالبَيَانُ فِي تَفْسِيرِ القُرْآنِ.
قولُهُ: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أَوْ: هِيَ هُنَا للتَّنويعِ كَالَّتي في قولِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، مِنْ سُورةِ البَقَرَةِ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ} الآيةَ: 19. أَيْ: أَوْ كَمَنْ عَصَفَتْ الرِّيحُ بِأَشْلائهِ فَنَثَرتْها عَلَى الأَمَاكِنِ البَعِيدَةِ، وهَوَتْ بِهَا فِي المَهَاوِي العَمِيقَةِ، لأَنَّ الشَّيطانَ قَدْ طوَّحَ بِهِ فِي ضَلالاتِ الشِّرْكِ باللهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المَعْنَى: ومَنْ يُشْرِكْ باللهِ فَقَدْ هَلَكَتْ نَفْسُهُ هَلَاكًا شَبيهًا بِهَلَاكِ أَحَدِ الهَالِكِينَ هُنَا. فَيَكونُ مِنْ بابِ التَّشْبِيهِ المُركَّبِ.
و "السَّحيقُ": البَعيدُ. ومِنْهُ قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((فَأَقُولُ سُحْقًا سُحْقًا)) أَيْ: بُعْدًا بُعْدًا. فَسَحَقَهُ اللهُ، أَيْ: أَبَعْدَهُ. وَنَخْلَةٌ سَحُوقٌ: أَيْ مُمْتَدَّةٌ فِي السَّمَاءِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ "فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" قَالَ: بَعِيدٍ.
وَقَدْ جَاءَ فِي حَدِيثِ البَرَاءِ بْنِ عازبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ الكَافِرَ إِذَا تَوَفَّتْهُ مَلاَئِكَةُ المَوْتِ وَصَعِدُوا بِرُوحِهِ إِلى السَّمَاءِ فَلا تُفْتَحُ لَهُ أَبْوَابُ السَّماءِ بَلْ تُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحاً مِنْ هُنَاكَ ثُمَّ قَرَأَ هَذَهِ الآيَةَ.
فقد أخْرجَ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ، وَأَبو دَاوُدَ، وابْنُ ماجَةَ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَحْمَدَ، والنَّسائيُّ، عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي جَنَازَةِ رَجُلٍ مِنَ الأَنْصَارِ، فَانْتَهَيْنَا إِلَى الْقَبْرِ، وَلَمَّا يُلْحَدِ، فَجَلَسَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَجَلَسْنَا حَوْلَهُ، وَكَأَنَّ عَلَى رُؤُوسِنَا الطَّيْرَ، وَفِي يَدِهِ عُودٌ يَنْكُتُ بِهِ فِي الأَرْضِ، فَرَفَعَ رَأْسَهُ، فَقَالَ: اسْتَعِيذُوا بِاللهِ مِنْ عَذَابِ الْقَبْرِ ـ مَرَّتَيْنِ أَوْ ثَلاَثًا، ثُمَّ قَالَ: إِنَّ الْعَبْدَ الْمُؤْمِنَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مَلاَئِكَةٌ مِنَ السَّمَاءِ، بِيضُ الْوُجُوهِ، كَأَنَّ وُجُوهَهُمُ الشَّمْسُ، مَعَهُمْ كَفَنٌ مِنْ أَكْفَانِ الْجَنَّةِ، وَحَنُوطٌ مِنْ حَنُوطِ الْجَنَّةِ، حَتَّى يَجْلِسُوا مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ ـ عَلَيْهِ السَّلاَمُ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ، اخْرُجِي إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنَ اللهِ وَرِضْوَانٍ. قَالَ: فَتَخْرُجُ تَسِيلُ كَمَا تَسِيلُ الْقَطْرَةُ مِنْ فِي السِّقَاءِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ حَتَّى يَأْخُذُوهَا، فَيَجْعَلُوهَا فِي ذَلِكَ الْكَفَنِ، وَفِي ذَلِكَ الْحَنُوطِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَطْيَبِ نَفْحَةِ مِسْكٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ. قَالَ: فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلاَ يَمُرُّونَ ـ يَعْنِي بِهَا، عَلَى مَلَأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلَّا قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الطَّيِّبُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَحْسَنِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانُوا يُسَمُّونَهُ بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يَنْتَهُوا بِهَا إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيَسْتَفْتِحُونَ لَهُ، فَيُفْتَحُ لَهُمْ، فَيُشَيِّعُهُ مِنْ كُلِّ سَمَاءٍ مُقَرَّبُوهَا إِلَى السَّمَاءِ الَّتِي تَلِيهَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ السَّابِعَةِ، فَيَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَ عَبْدِي فِي عِلِّيِّينَ، وَأَعِيدُوهُ إِلَى الأَرْضِ، فَإِنِّي مِنْهَا خَلَقْتُهُمْ، وَفِيهَا أُعِيدُهُمْ، وَمِنْهَا أُخْرِجُهُمْ تَارَةً أُخْرَى. قَالَ: فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، فَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ، فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنَ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: رَبِّيَ اللهُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: دِينِيَ الإِسْلاَمُ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هُوَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: وَمَا عِلْمُكَ؟ فَيَقُولُ: قَرَأْتُ كِتَابَ اللهِ، فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ، فَيُنَادِي مُنَادٍ فِي السَّمَاءِ: أَنْ صَدَقَ عَبْدِي، فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ. قَالَ: فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا، وَيُفْسَحُ لَهُ فِي قَبْرِهِ مَدَّ بَصَرِهِ، قَالَ: وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ حَسَنُ الْوَجْهِ، حَسَنُ الثِّيَابِ، طَيِّبُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُرُّكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ، فَيَقُولُ لَهُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالْخَيْرِ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الصَّالِحُ، فَيَقُولُ: رَبِّ أَقِمِ السَّاعَةَ حَتَّى أَرْجِعَ إِلَى أَهْلِي وَمَالِي.
قَالَ: وَإِنَّ الْعَبْدَ الْكَافِرَ إِذَا كَانَ فِي انْقِطَاعٍ مِنَ الدُّنْيَا، وَإِقْبَالٍ مِنَ الآخِرَةِ، نَزَلَ إِلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ مَلاَئِكَةٌ، سُودُ الْوُجُوهِ، مَعَهُمُ الْمُسُوحُ، فَيَجْلِسُونَ مِنْهُ مَدَّ الْبَصَرِ، ثُمَّ يَجِيءُ مَلَكُ الْمَوْتِ، حَتَّى يَجْلِسَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَيَقُولُ: أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْخَبِيثَةُ، اخْرُجِي إِلَى سَخَطٍ مِنَ اللهِ وَغَضَبٍ. قَالَ: فَتُفَرَّقُ فِي جَسَدِهِ، فَيَنْتَزِعُهَا كَمَا يُنْتَزَعُ السَّفُّودُ مِنَ الصُّوفِ الْمَبْلُولِ، فَيَأْخُذُهَا، فَإِذَا أَخَذَهَا لَمْ يَدَعُوهَا فِي يَدِهِ طَرْفَةَ عَيْنٍ، حَتَّى يَجْعَلُوهَا فِي تِلْكَ الْمُسُوحِ، وَيَخْرُجُ مِنْهَا كَأَنْتَنِ رِيحِ جِيفَةٍ وُجِدَتْ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ، فَيَصْعَدُونَ بِهَا، فَلاَ يَمُرُّونَ بِهَا عَلَى مَلأٍ مِنَ الْمَلاَئِكَةِ إِلاَّ قَالُوا: مَا هَذَا الرُّوحُ الْخَبِيثُ؟ فَيَقُولُونَ: فُلاَنُ بْنُ فُلاَنٍ، بِأَقْبَحِ أَسْمَائِهِ الَّتِي كَانَ يُسَمَّى بِهَا فِي الدُّنْيَا، حَتَّى يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلاَ يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ}، فَيَقُولُ اللهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ: "وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ" الآيةَ، فَتُعَادُ رُوحُهُ فِي جَسَدِهِ، وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَنْ رَبُّكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لاَ أَدْرِي. فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا دِينُكَ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لاَ أَدْرِي، فَيَقُولاَنِ لَهُ: مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِي بُعِثَ فِيكُمْ؟ فَيَقُولُ: هَاهْ، هَاهْ، لَا أَدْرِي. فَيُنَادِي مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ: أَنْ كَذَبَ، فَافْرِشُوا لَهُ مِنَ النَّارِ، وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ، فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا، وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ، حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ، وَيَأْتِيهِ رَجُلٌ قَبِيحُ الْوَجْهِ، قَبِيحُ الثِّيَابِ، مُنْتِنُ الرِّيحِ، فَيَقُولُ: أَبْشِرْ بِالَّذِي يَسُوءُكَ، هَذَا يَوْمُكَ الَّذِي كُنْتَ تُوعَدُ. فَيَقُولُ: مَنْ أَنْتَ؟ فَوَجْهُكَ الْوَجْهُ يَجِيءُ بِالشَّرِّ، فَيَقُولُ: أَنَا عَمَلُكَ الْخَبِيثُ، فَيَقُولُ: رَبِّ لاَ تُقِمِ السَّاعَةَ)). مُسْنَدُ أحمد: (4/287(18733)، سُنَنُ أَبي دَاوُدَ: (3212 و 4753)، وسُنَنُ ابْنِ مَاجَةَ: (1548)، وَزَوائِد المُسْنَدِ: (4/296(18816)، وَالسُنَنُ الكُبْرَى للنَّسائيِّ: (2139).
قولُهُ تَعَالى: {حُنَفَاءَ للهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ} حُنَفَاءَ: منصوبٌ على الحالِ مِنْ الضَمِيرِ في قولِهِ مِنَ الآيةِ التي قبلَها: {اجْتَنِبُوا}. وَ "للهِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "حُنَفَاءَ"، وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهِ" مجرورٌ بِحَرفِ الجَرِّ. وَ "غَيْرَ" منصوبٌ أَيْضًا حَالٌ مُؤَكِّدَةٌ مِنْهُ، إذْ يَلْزَمُ مِنْ كونِهم حُنَفاءَ عَدَمُ الإِشْراكِ باللهِ ـ تَعَالى. وهوَ مَضافٌ. و "مُشْرِكِينَ" مجرورٌ بِالإضافةِ إلَيْهِ. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مُشْرِكِينَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحَرفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللهِ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا معًا. و "يُشْرِكْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "مَنْ"، عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَنْ". و "بِاللهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُشْرِكْ"، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُملةُ فعلُ شَرْطِ "مَنْ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، وجُمْلَةُ الشَّرطِ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِضَرْبِ المَثَلِ لِمَنْ يُشْرِكُ باللهِ فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ أَيْضًا.
قَوْلُهُ: {فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ} الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" جَوَازًا. و "كأنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَشْبِيهِ، وَقَدْ أَبْطَلَتْ "مَا" الكافَّةُ عَمَلَها. و "مَا" هيَ الكَافَّةُ لِكَفِّهَا مَا قَبْلَهَا عَنِ العَمَلِ فِيمَا بَعْدَهَا. و "خَرَّ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَنْ". و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "خَرَّ"، و "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا.
قَوْلُهُ: {فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ} الفاءُ: للعَطْفِ. و "تَخْطَفُهُ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصبِ مَفْعُولٌ بِهِ. و " الطَّيْرُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. والجُمْلَةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ عَطْفًا عَلَى جُملَةِ "خَرَّ".
قولُهُ: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ} أَوْ: حَرْفُ عَطْفٍ للتَّنْويعِ. و "تَهْوِي" فعل مضارعٌ مَعْطُوف عَلَى "تَخْطَفُ" مَرفوعٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ رَفعِهِ ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ. و "بِهِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَهْوِي"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الرِّيحُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَهْوِي". و "مَكَانٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "سَحِيقٍ" صِفَةٌ لِـ "مَكَانٍ" مجرورةٌ مِثْلُهُ. والجُمْلةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ الجَزْمِ عَطْفًا عَلَى الجملةِ التي قَبْلَهًا.
قرأَ العامَّةُ: {فَتَخْطَفُهُ} بِسُكونِ الخَاءِ ورفعِ الفاءِ مِنْ غَيْر تَشْديدِ الطاءِ. وَقَرَأَ نافعٌ: "فَتَخَطَّفُهُ" بِفتْحِ الخاءِ وتَشْديدِ الطَّاءِ، ورفعِ الفاءِ. وَقَرَأَ أَبُو المُتَوَكِّلِ، وَمُعَاذٌ القَارِئُ: "فَتَخَطَّفَهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ وَالخَاءِ وَتَشْديدِ الطَّاءِ وَنَصْبِ الفاءِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، والأَعْمَشُ، وأَبو رَجاءٍ، وَأَبُو رَزينٍ، وأَبو الجَوْزَاءِ، وَأَبُو عُمْرانَ الجُونيُّ: "فتِخِطَّفُهُ" بِكَسْرِ التَّاءِ والخَاءِ والطَّاءِ وَتَشْدِيدِ الطَّاءِ وَرَفْعِ الفَاءِ. وَقَرَأَ الحَسَنُ، والأَعْمَشُ: "فتَخِطَّفُهُ" بِفَتْحِ التَّاءِ، وَكَسْرِ الخَاءِ، وَتَشْديدِ الطَّاءِ، وَرَفْعِ الفاءِ. وفَتَحَ الطَّاءَ جميعُهُمْ. ورُوِي عَنِ الأَعْمَشِ أَيْضًا أَنَّهُ قرأَ كَقِرَاءةِ العامَّةِ إِلَّا أَنَّهُ بِغَيْرِ فَاءِ: "تَخْطَفُهُ".
قرأَ العامَّةُ: {أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ} وَقَرَأَ أَبُو جَعْفَرٍ النَّحَّاسُ: "أَوْ تهوي بِهِ الرِّياحُ"، جَمْعًا.