لكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ
(67)
قَوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ} هذِهِ الْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَالْمُنَاسَبَةُ ظَاهِرَةٌ، وَلِذَلِكَ لَمْ تُعْطَفْ على الَّتِي قَبْلَهَا لأنَّها مُتَّصِلةٌ الْمَعْنَى بِقَوْلِهِ في الآيةِ: 34، السَّابقةِ: {وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهيمَةِ الأَنْعامِ}. وَقَدْ فَصَلَ بَيْنَهُما مَا اقْتَضَى الْحَالُ اسْتِطْرَادَهُ، ثُمَّ عَادَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ المَذْكورِ هُناكَ وَهُوَ: {لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ}، لِيُبْنَى عَلَيْهِ قَوْلُهُ هُنَا: "فَلَا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ". لأَنَّهُ اسْتِدْلَالٌ عَلَى تَوْحِيدِ اللهِ بِمَا سَبَقَ مِنَ الشَّرَائِعِ بِقَصْدِ إِبْطَالِ الاعتقادِ بِتَعَدُّدِ الْآلِهَةِ، بِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالى، قَدْ جَعَلَ لِكُلِّ مِلَّةٍ مِنَ المِلَلِ السَّابِقَةِ مَنْسَكًا وَاحِدًا يَتَقَرَّبُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ ـ جَلَّ وعزَّ، لِأَنَّ الْمُتَقَرَّبَ إِلَيْهِ وَاحِدٌ. بَيْنَمَا جَعَلَ الْمُشْرِكُونَ ِلِكُلِّ صَنَمٍ بَيْتٌ تُذْبَحُ فِيهِ القرابينَ لأَنَّ أَصْنَامَهُمْ ـ التي يعبُدُونها مُتَعَدِّدةٌ، يُشِيرُ إِلَى هَذَا قَولُ النَّابِغَةِ الذُّبيانيِّ:
فلا لَعَمْرُ الذي مَسَّحْتُ كَعْبَتَهُ ...... وَمَا هُرِيقَ عَلَى الْأَنْصَابِ مِنْ جَسَدِ
قولُهُ: (مِنْ جَسَدٍ: أَيْ مِنْ دَمٍ). وَالبَيْتُ مِنْ قَصِيدَتِهِ المَشْهُورَةِ الَّتِي أنْشَدَها في حضْرةِ المَلِكِ النُّعْمَانِ بْنِ المُنْذِرِ بْنِ ماءِ السَّماءِ، مُعتذِرًا إلَيْهِ، وَالَّتِي مَطُلِعُهَا:
يَا دَارَ مَيَّةَ بِالْعَلْيَاءِ فَالسَّنَدِ ............ أَقْوَتْ وَطَالَ عَلَيْهَا سَالِفُ الْأَمَدِ
وَرَدَ ذَلِكَ فيمَا أَخْرَجَهَ الطَّسْتِيُّ فِي مَسَائِلِهِ أَنَّ ابْنَ الأَزْرَقِ قالَ لِابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِهِ {وَالأَنْصَابَ} قَالَ: الأَنْصَابُ الْحِجَارَةُ الَّتِي كَانَتِ الْعَرَبُ تَعْبُدُهَا مِنْ دُونِ اللهِ، وَتَذْبَحُ لَهَا. قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ نَابِغَةَ بَنِي ذُبْيَانَ وَهُوَ يَقُولُ: وَأَنْشَدَ البَيْتَ.
والْأُمَّةُ: مَا كانَ عَدَدُهمْ بَيْنَ الْأَرْبَعينَ إِلَى الْمِئَةِ فَصَاعِدًا، كَمَا أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبُي المَلِيْحِ ابْنِ الصَّحابيِّ الجَليلِ أُسَامَةَ بْنِ عُمَيْرٍ الهُذَلِيِّ الكُوْفِيِّ، ثُمَّ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عنْهُمَا. وَ "مَنْسَكًا" أَيْ: شَرْعًا. وَ "هُمْ ناسِكُوهُ" أَيْ: عَامِلُونَ بِهِ.
والمَنْسَكُ: هُوَ مَوْضِعُ القِيامِ بِعَمَلِ الخَيْرٍ، أَوْ عمَلِ الشَرٍّ، وَذَلِكَ بِحَسَبِ مَا جَرَتْ عَلَيْهِ العَادَةِ، وَعَلَيْهِ قَولُ ذِي الرُّمَّةِ:
ورَبِّ القِلاصِ الخُوصِ تَدْمَى أُنُوفُها ... بنَخْلَةَ وَالسَّاعِينَ حَوْلَ المَنَاسِكِ
لَئِنْ قَطَعَ اليَأْسُ الحَنِينَ فَإِنَّهُ ............ رَقُوءٌ لِتَذْرَافِ العُيُونِ السَّوَافِكِ
وَمِنْ ذَلِكَ مَنَاسِكُ الحَجِّ لأَنَّ النَّاسَ اعْتَادُوا عَلَى التَّرَدُّدِ إِلَى هَذِهِ الأَمَاكِنِ لِلْقِيامِ بِأَعْمَالِ الحَجِّ. وَهُوَ مِنْ نَسَكَ للهِ ـ تَعَالَى، وَتَنَسَّكَ: نَسْكًا ونُسْكًا وَنِسْكًا ونُسُكًا: إِذا تَعَبَّدَ اللهَ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَبَابُهُ "نَصَرَ" وَ "كَرُمَ"، وَهُوَ العبادةُ والطَّاعَةُ وَكُلُّ مَا تُقُرِّبَ بِهِ إِلَى اللهِ ـ عَزَّ وجلَّ. قَالَ تَعالَى مِنْ سُورةِ الأَنْعَامِ: {قُلْ إِنَّ صَلاتِي ونُسُكِي ومَحْياي ومَمَاتِي للهِ ربِّ العالَمِينَ} الآيةَ: 162، وَقالَ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: {رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} الآيةِ: 128، مِنْ سُورَةِ البَقَرَةِ، أَيْ: عَرِّفْنَا مُتَعَبَّداتِنَا. وكُلُّ حَقٍّ للهِ هُوَ نُسُكٌ ونَسْكَةٌ وَمَنْسَكٌ وَنَساكَةً، وَهُوَ مَصْدَرُ نَسُكَ.
والنَّسِيكَةُ: الذَّبِيحَةُ. فَقدْ أَخْرَجَ الأَئِمَّةُ ـ رضْوانُ اللهِ تَعَالى عَليهِمْ: أَحْمَدُ، وَالْحَاكِمُ ـ وَصَحَّحَهُ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي شُعَبِ الإِيمانِ، عَنْ عَليِّ بْنِ الْحُسَيْنِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ"، قَالَ: ذِبْحًا هُمْ ذَابِحُوهُ.
حَدَّثَنِي أَبُو رَافِعٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كَانَ إِذَا ضَحَّى اشْتَرَى كَبْشَيْنِ سَمِينَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، فَإِذَا خَطَبَ وَصَلَّى ذَبَحَ أَحَدَ الْكَبْشَيْنِ بِنَفْسِهِ بِالْمُدْيَةِ، ثُمَّ يَقُولُ: ((اللهُمَّ هَذَا عَنْ أُمَّتِي جَمِيعًا مَنْ شَهِدَ لَكَ بِالتَّوْحِيدِ وَشَهِدَ لِي بِالْبَلَاغِ))، ثُمَّ أَتَى بِالْآخَرِ فَذَبَحَهُ، ثُمَّ قَالَ: ((اللهُمَّ هَذَا عَنْ مُحَمَّدٍ وَآلِ مُحَمَّدٍ))، ثُمَّ يُطْعِمُهُمَا الْمَسَاكِينَ وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا، فَمَكَثْنَا سِنِينَ قَدْ كَفَانَا اللهُ الْغُرْمَ وَالْمُؤْنَةَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي.
وَبِمَعْنَاهُ رَوَاهُ عُبَيْدُ اللهِ بْنُ عُمَرَ الرَّقِّيُّ، وَقَيْسُ بْنُ الرَّبِيعِ، عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مُحَمَّدِ بْنِ عَقِيلٍ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ الْحُسَيْنِ، عَنْ أَبِي رَافِعٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ثُمَّ يُطْعِمُهُمَا الْمَسَاكِينَ، وَيَأْكُلُ هُوَ وَأَهْلُهُ مِنْهُمَا، فَمَكثْنَا سَنَتَيْنِ قَدْ كَفَانَا اللهُ الْغُرْمَ والمَؤُنَةَ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ بَنِي هَاشِمٍ يُضَحِّي.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "هُمْ نَاسِكُوهُ" يَعْنِي هُمْ ذابِحُوهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ"، قَالَ: ذَبْحًا هُمْ ذَابِحُوهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا"، قَالَ: ذَبْحًا وَحَجًا.
وَالنُّسُكُ أَيْضًا: الدَّمُ، وَمْنْهُ قَوْلُ الفُقَهَاءِ: مَنْ فَعَل كَذَا فعَلَيْهِ نُسُكٌ، أَيْ: دَمٌ يُهَرِيقُهُ بِمَكَّةَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، في قولِهِ: "مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ"، قَالَ: إِهْرَاقُهُمْ دَمَ الْهَدْيِ.
والنَّسِيكَةُ: الذِّبْحُ، وَالجَمْعُ نُسُكٌ ونَسائِكُ. والمَنْسَكُ، والمَنْسِكُ: شِرعَةُ النُّسَكِ.
وَمِنَ المَجازِ قولُهُم: نَسَكَ الثَّوْبَ، أَوْ غَيْرَهُ: غَسَلَهُ بِالْمَاءِ فَطَهَّرَهُ، فَهُوَ مَنْسُوكٌ. قَالَ نَهْشَلُ بْنُ حَرِيٍّ:
وَلَا تُنْبِتُ المَرْعَى سِباخُ عُرَاعِرٍ .......... وَلَو نُسِكَتْ بِالْمَاءِ سِتَّةَ أَشْهُرِ
والنَّاسِكُ: معناهُ العَابِدُ، وَهوَ مِنَ النَّسِيكَةِ، وَهِيَ سَبِيكَةُ الفِضَّةِ المُخَلَّصَةِ مِنَ الخَبَثِ، فَكَأَنَّهُ خَلَّصَ نَفْسَهُ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، وَصَفَّاهَا مِنْ كلِّ ما يشْغلُها عنْ مولاها ـ تَعالى، وَالجَمْعُ نُسَّاكٌ.
قَوْلُهُ: {فَلَا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} أَيْ: لَا يُنَازِعَنَّكَ أَحَدٌ مِنَ المُشْركينَ فِيمَا يُشْرَعُ لِأُمَّتِكَ، فَقَدْ كَانَتِ الشَّرَائِعُ فِي كُلِّ عَصْرٍ. وَقيلَ المَعْنَى: فَلَا يُخَاصِمُنَّكَ أَحَدٌ فِي أَمَرِ الذبائحِ. وَهُوَ نَهْيٌ لِلْغَيْرِ بِطَرِيقِ الْكِنَايَةِ، وَهُوَ مِنْ بَابِ قَوْلِهم: لَا أَعْرِفَنَّكَ تَفْعَلُ كَذَا، أَيْ لَا تَفْعَلْ فَأَعْرِفْكَ، أَيْ: فَلَا تَتْرُكْ لَهُمْ مَا يُنَازِعُونَكَ بِهِ، فَجَعَلَ الْمُتَكَلِّمُ النَّهْيَ مُوَجَّهًا إِلَى نَفْسِهِ، وَالْمُرَادُ نَهْيُ السَّامِعِ عَنْ أَسْبَابِهِ.
وَقَالَ الزَّجَّاجُ أَبو إسْحاق: هُوَ نَهْيٌ لِلرَّسُولِ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسلَّمَ، عَنْ مُنَازَعَتِهِمْ، لِأَنَّ صِيغَةَ الْمُفَاعَلَةِ تَقْتَضِي حُصُولَ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبَيْ فَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ، فَيَصِحُّ نَهْيُ كُلٍّ مِنَ الْجَانِبَيْنِ عَنْهُ. وَإِنَّمَا أُسْنِدَ الْفِعْلُ هُنَا لِضَمِيرِ الْمُشْرِكِينَ مُبَالَغَةً فِي نَهْيِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهُ وَسَلامُهُ، عَنْ مُنَازَعَتِهِ إيَّاهُم الَّتِي تُفْضِي إِلَى مُنَازَعَتَهُمْ إِيَّاهُ، فَيَكونُ النَّهْيُ عَنْ مُنَازَعَتِهِ إِيَّاهُمْ كَإِثْبَاتِ الشَّيْءِ بِدَلِيلِهِ. وَحَاصِلُ مَعْنَى هَذَا الْوَجْهِ أَنَّهُ أَمْرٌ لِلرَّسُولِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِالْإِعْرَاضِ عَنْ مُجَادَلَتِهِمْ بَعْدَ مَا سِيقَ لَهُمْ مِنَ الْحُجَجِ.
وَأَخْرجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ تعالى عَنْهُمَا: قولُهُ: "فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ": يَعْنِي فِي أَمْرِ الذَّبَائِحِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِي الله عَنهُ، في قولِهِ ـ تَعَالى: "فَلَا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ": هوَ: قَوْلُ أَهْلِ الشِّرْكِ: أَمَّا مَا ذَبَحَ اللهُ بِيَمِينِهِ فَلَا تَأْكُلُوا. وَأَمَّا مَا ذَبَحْتُمْ بِأَيْدِيكُمْ فَهُوَ حَلَالٌ.
قَوْلُهُ: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} الخِطابُ للرسولِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَيْ: وَادْعُ يا رَسولَ اللهِ الناسَ إِلَى الإيمانِ بِرَبِّكَ، وامُرْهُمْ بالْتَزامِ دينِ ربِّكَ، وتَطبيقِ شَرعِهِ. فقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُليمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ: "وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ" قَالَ: إِلَى دينِ رَبِّكَ.
قَوْلُهُ: {إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ} تَثْبِيتٌ لِقلبِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَحْفِيزٌ لَهُ عَلَى الِاضْطِلَاعِ بِأَعْبَاءِ الدَّعْوَةِ، وتَعْلِيلٌ لِلمُثابرَةِ عَلَى ذَلِكَ. وَ "عَلَى" هُنَا مُسْتَعَارَةٌ لِلتَّمَكُّنِ مِنَ الْهُدَى. وَفي وَصْفُهُ الْهُدَى بِأَنَّهُ مُسْتَقِيمٌ اسْتِعَارَةٌ مَكْنِيَّةٌ أَيْضًا، فقد شُبِّهَ الْهُدَى بِالطَّرِيقِ الْذي يُوصِلُكَ إِلَى هَدَفِكَ، لِأَنَّ الطَّريقَ الْمُسْتَقِيمَ هُوَ الأَسْرَعُ إِيصَالًا إلى المُبْتَغَى، فَدِينُ الْإِسْلَامِ هو أَيْسَرُ الشَّرَائِعِ للوُصُولِ إِلَى الْكَمَالِ النَّفْسَانِيِّ الَّذِي تَهْدِفُ إِلَيْهِ الْأَدْيَانُ جَميعًا. فالمُرادُ بِـ "هُدًى" هُنَا الدِّينُ، قَالَهُ مقَاتلٌ ـ رَضِي الله عَنهُ، فيما أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، فقد أخرجَ عَنْهُ أَنَّهُ قالَ في قولِهِ ـ عَزَّ مِنْ قائلٍ: "إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ"، الآيةَ، قَالَ: دِينٍ مُسْتَقِيم.
وَفي أَسْبابِ نُزَولِهَا ذَكَرَ الإِمَامُ القُرْطُبِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ (الجامِعُ لِأَحْكامِ القُرآنِ،) أَنَّ هَذِهِ الآيَةَ المُبَارَكَةَ نَزَلتْ فِي بُدَيْلِ بْنِ وَرْقَاءَ، وَبِشْرِ بْنِ سُفْيَانَ، وَيَزيدِ بْنِ خُنَيْسٍ، قَالُوا لِأَصْحَابِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مَا لَكُمْ تَأْكُلُونَ مِمَّا تَقْتُلُونَ بِأَيْدِيكُمْ وَلَا تَأْكُلُونَ مِمَّا قَتَلَهُ اللهُ؟. وَوَرَدَ فِي مُوَطَّأِ الإمامِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ قُرَيْشًا كَانَتْ تَقِفُ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ بِالْمُزْدَلِفَةِ بِـ "قُزَحَ"، وَكَانَتِ الْعَرَبُ، وَغَيْرُهُمْ، يَقِفُونَ بِعَرَفَةَ، فَكَانُوا يَتَجَادَلُونَ، يَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، وَيَقُولُ هَؤُلَاءِ: نَحْنُ أَصْوَبُ، فَقَالَ اللهُ تَعَالَى: "لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا هُمْ ناسِكُوهُ"، الْآيَةَ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {لكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكًا} لكُلِّ: اللامُ: حرفُ جَرٍّ، مُتَعَلِّقٌ بالمفعولِ الثَّاني لِـ "جعَلْنا"، و "كُلِّ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "أُمَّةٍ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ. و "جَعَلْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهَ، وضميرُ التَّعْظيمِ هَذا ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحلِّ الرَّفعِ على الفاعِليَّةِ. و "مَنْسَكًا" مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ، اسْتِئْنَافًا نَحْوِيًّا، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {هُمْ ناسِكُوهُ} هُمْ: ضميرٌ مُنْفَصِلٌ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ. و "نَاسِكُوهُ" خَبَرُهُ مرفوعٌ، وعلامةُ رَفعِهِ الواوُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، وهُوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى أَنَّها صِفَةٌ لِـ "مَنْسَكًا".
قَوْلُهُ: {فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ} الفاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ يا رسولَ اللهِ، أَنَّا جَعَلْنَا لِكُلِّ أُمَّةٍ مَنْسَكًا وأَرَدْتَ أَنْ تعرفَ مَا يَلْزَمُ على مَعَاصِريكَ فعلُهُ، فَأَقُولُ لَكَ: لَا يُنَازِعُكَ مَنْ يُعَاصِرُكَ مِنْ أَهْلِ المِلَلِ في هذا الأَمْرِ. و "لا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ. و "يُنَازِعُنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لا" النَّاهِيَةِ، وَعَلَامَةُ جَزْمِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ، وَوَاوُ الجَمَاعَةِ المَحْذُوفَةُ لِالْتِقَاءِ السَّاكِنَيْنِ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وَالنُّونُ المُشَدَّدَةُ هيَ نُونُ التَّوْكِيدِ الثَّقِيلَةُ، وَلَمْ تُؤَثِّرْ هُنَا فِي بِنَاءِ المُضَارِعِ، لِأَنَّهَا لَمْ تُبَاشِرْهُ، وَكَافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُنَازِعُنَّكَ"، و "الْأَمْرِ" مجرورٌ بحَرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِالْقَوْلِ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٍ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {وَادْعُ إِلى رَبِّكَ} الوَاوُ: وَ "ادْعُ" فِعْلُ أَمْرٍ مبنيٌّ على حَذْفِ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أنت) يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ. و "إِلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "ادْعُ"، وَذَلِكَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، أَيْ: إِلَى دِينِ رَبِّكَ، وَ "رَبِّكَ" اسمٌ مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "يُنَازِعُنَّكَ" على أَنَّها في محلِّ النَّصبِ بالقولِ جَوابًا لـ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّكَ لَعَلى هُدًى مُسْتَقِيمٍ} إِنَّكَ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعْلِ وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ اسْمُهُ. و "لَعَلَى" اللَّامُ هي المُزَحْلقةُ للتوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ خَبَرِ "إنَّ" المُقدَّرِ. و "هُدًى" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ مُقدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلى الأَلِفِ. و "مُسْتَقِيمٍ". صِفَةٌ لـ "هُدًى" مجرورةٌ مثلُها. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا.
قَرَأَ العامَّةُ: {فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ} بتشديدِ النونِ المُؤكِّدَةِ، وَقُرِئَ بالنُّونِ المُخَفَّفَةِ. وَقَرَأَ أَبو مِجْلَزٍ: "فَلَا يَنْزِعُنَّك" مِنْ كَذَا، أَيْ: قَلَعْتُهُ مِنْهُ.