ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ
(62)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} المعنى: أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وجَلَّ، ذَو الحَقِّ فِي قَوْلِهِ، وذو الحَقِّ فيما يَفْعَلُ، فَدينُهُ حَقٌّ، وَعِبَادَتُهُ حَقٌّ أَيْضًا، وَكذلكَ كَلُّ مَا يَصْدُرُ عَنْهُ مِنْ أَمْرٍ أوْ نَهْيٍ فهوَ حَقٌّ، وَالمُؤْمِنُونَ الذينَ آمَنُوا بِهِ وَصَدَّقُوا رَسُولَهُ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، هُمْ على حَقٍّ كَذلكَ؛ ولذلكَ فَهمْ يَسْتَحِقُّونَ النَصْرَ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، على كفَّارِ قُرَيشٍ ومُشرِكِيها وغيرِهِم.
فَبَعْدَ أَنْ ذَكَرَ لَنَا الحَقُّ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، فِي الآيَةِ السَّابِقَةِ سَبَبًا قَوِيًّا مِنْ أَسْبابِ نَصْرِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ، أَلَا وَهُوَ أَنَّهُ القويُّ القادرُ على كلِّ شيْءٍ، وضرَبَ مثَلًا لِذَلِكَ أَنَّهَ ـ سُبْحانَهُ: {يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَيُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ}، وهي آيةٌ عُظْمَى مِنْ آياتِ عَظَمَتِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالَى، فأَيْنُ آيةُ نَصْرِ المُؤمنينَ على المُشركينَ بأَوهَى الأَسْبَابِ منْ تلكَ الآيةِ العظيمةِ؟. وَأَنَّهُ: {سَمِيعٌ بَصِيرٌ} فَلا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ، وَلا يَغِيبُ عَنْ عِلْمِهِ شَيْءٌ، فيعلمُ كلَّ مَا يقولونَهُ وما يفعلونَ، فهوَ يحصي ذلكَ كُلَّهُ عليهم ليُحاسِبَهُمْ عَلَى مَا اقْتَرَفَتْ أَيدهِمْ: مِصداقًا لقولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ آل عمران: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} الآيةَ: (182).
وهُنَا يُخْبِرُنا ربُّنا فِي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ عَنْ سَبَبٍ آخَرَ مِنْ أَسْبابِ نَصْرِهِ المُؤْمِنِينَ عَلَى الكافِرينَ بِرَغْمِ ضَعْفِهِمْ وَقُوَّةِ الكافرينَ وَالْمُشْركينَ، وهوَ أَنَّهَ ـ جَلَّ وَعَزَّ شَأْنُهُ، هُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ، وهوَ المالكُ الحقُّ لهَذا الوجودِ وما فيه منْ كائناتٍ، والمُتَصَرِّفُ الحَقُّ في مُلْكِهِ لا ينازعُهُ في شَيْءٍ مِنْ ذلكَ أَحَدٌ، فإِذَا أَرَادَ شيْئًا وَقَدَّرَهُ فَعَلَهُ. وَلِذَلِكَ فَهُوَ يَنْصُرُ أَوْلِيَاءَهُ، وَأَنَّ كانوا ضُعفاءَ ولا يملكونَ أَسْبابَ النَّصْرِ، ويَخْذُلُ أَعْداءَهُ ويخزيهِمْ، وإنْ امْتَلَكُوا كلَّ أَسْبابِ النَّصْرِ مِنْ قوةٍ.
وَلِذَلِكَ لَمْ يُعْطَفِ اسْمُ الْإِشَارَةِ هُنَا عَلَى سَابِقِهِ مِنَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها لِأَنَّهُ جاءً تَكْرِيرًا لَهُ. وَهَذَا عَلَى حَمْلِ الْبَاءِ فِي قَوْلِهِ: "بِأَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ" عَلَى مَعْنَى السَّبَبِيَّةِ، وَهُوَ مَحْمِلُ الْمُفَسِّرِينَ. والْأَظْهَرُ حَمْلُها عَلَى الْمُلَابَسَةِ لِيَلْتَئِمَ عَطْفُ "وَأَنَّ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ". وَالْحَقُّ: هُوَ الصِّدْقُ الْمُطَابِقُ لِلْوَاقِعِ، وهو مَأْخُوذٌ مِنْ قولِهم: حَقَّ الشَّيْءُ، إِذَا ثَبَتَ: فإنَّ الْمَعْنَى: أَنَّهُ الْحَقُّ فِي الْإِلَهِيَّةِ، فَالْقَصْرُ فِي هَذِهِ الْجُمْلَةِ الْمُسْتَفَادُ مِنْ ضَمِيرِ الْفَصْلِ هوَ قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ.
قولُهُ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} قالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُليمانَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى، في: (2/27) مِنْ تَفْسيرِهِ: الباطِلُ: هُوَ الَّذي لَيْسَ بِشَيْءٍ، وَلَا تَنْفَعُ عِبَادَتُهُ.
وَقالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ تَعالى عَنْهُ، فِيمَا أَخْرَجَهُ عنْهُ ابْن أَبي حَاتِمٍ ـ رَحِمَهُ اللهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ" قَالَ: هوَ الشَّيْطَانُ.
والمعنى: أَنَّ مَا يَدْعُوهُ الْمُشْرِكُونَ مِنْ آلِهةٍ يَعبُدُونَها مِنْ دونِ اللهِ، ويسْتَنٍصِرونَ بِهَا عَلَى أَعْدائهم، هُوَ الْبَاطِلُ بِعَيْنِهِ، فَهِيَ لَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَهُمْ، وَلَا تَسْتَطِيعُ نَصْرَ نَفْسِهَا إِذَا مَا اعْتُدِيَ عَلَيْهَا، فَهِيَ لَا تَدْفَعُ عَنْ نَفْسِها ضُرًا ولا شَرًّا، حَتَّى تَدْفَعَهُ عَنْهُمْ وتنصُرَهُمْ. وقدْ قَصَرَ البَاطِلَ عَلَى ما يَدْعُونَهُ مِنْ دونِهِ، بـ "هُوَ"، مُبَالَغَةً فِي تَحْقِيرِ أَصْنَامِهِمْ، لأَنَّ القَصْرَ هُنَا ادِّعَائِيٌّ، لِعَدَمِ الِاعْتِدَادِ بِبَاطِلٍ غَيْرِهَا حَتَّى كَأَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الْبَاطِلِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} أَيْضًا فَقَدْ قَصَرَ العُلُوَّ ـ الَّذي يَعْنِي تَمَامَ الجَلَالِ وَالكَمَالِ، العالِي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ بِقُدْرَتِهِ، المُتَعالِي عَنْ الأَشْبَاهِ وَالأَشْكَالِ. وَيَتَضَمَّنُ اسْمُهُ "العَلِيُّ" عُلُوَّ الذَّاتِ، وَعُلُوَّ القَدْرِ، وَعُلُوَّ القَهْرِ.
والكَبِيرُ: هُوَ الَّذي يَصْغُرُ مِقْدَارُ كلِّ شيْءٍ أَمامَهُ. وَالكِبَرَ ـ يَعْنِي تَمَامَ القوَّةِ وَكَمَالَ القُدْرَةِ.
فقَدْ قَصَرَهُمَا ـ سُبِحانَهُ، عَلَى ذَاتِهِ العَلِيَّةِ، وحَصَرَهُما بِنَفْسِهِ المُقدَّسةِ، وَذَلِكَ باسْتِعْمَالِ ضَمِيرِ الفَصْلٍ "هو" هُنَا أَيْضًا. إِنَّما الْقَصْرُ هُنَا قَصْرٌ حَقِيقِيٌّ. أَيْ: هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ دُونَ الْأَصْنَامِ الَّتِي تَعْبُدُونَهَا، إِذْ لَيْسَ لَهَا كَمَالٌ، وَلَا جَلَالٌ، وَلَا قوَّةٌ، وَلا قُدْرَةٌ والبُرْهَانُ على ذلكَ مُشَاهَدٌ معروفٌ مِنْ حالِها وواقعِها.
قولُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِـ } ذا: اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "بِأَنَّ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْميَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَقْريرِ دَلِيلٍ آخَرَ، إِلَى جَانِبِ الدَّلِيلِ الأَوَّلِ على نَصْرِ اللهِ للمُؤْمنينَ على المُشْركينَ، وَهُوَ القُدْرَةُ عَلَى جَمِيعِ المُمْكِنَاتِ، وَهُوَ كَوْنُهُ ـ تَعَالى، حَقًا ثَابِتًا، وَمَا عَدَاهُ باطلٌ مَعْدُومٌ زائلٌ.
قولُهُ: {أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ} وَ "أَنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. وَلَفْظُ الجَلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ مبْنِيٌّ على الفَتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابتِداءِ. وَ "الْحَقُّ" خَبَرُهُ مَرْفُوعٌ، وَهَذِهِ الجُمْلةُ الاسْميَةُ هي خَبَرُ "أَنَّ" في مَحَلِّ الرَّفعِ، وجُمْلةُ "أَنَّ" مِنِ اسْمِها وخبرِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ. وقدْ جَوَّزَ أَبو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ أَنْ يَكُونَ "هُوَ" تَوْكِيدًا لاسْمِ "إنَّ"، وعليْهِ فـ "الحقُّ" خَبَرُ "أَنَّ". وَهُوَ غيرُ جائزٍ؛ لِأَنَّ المُضْمَرَ لَا يُؤَكِّدُ المُظْهَرَ، ولَكَانَتْ النَصْبِ بِهِ أَوْلَى فَقيلَ: "إِيَّاهُ" لِأَنَّ المَتْبُوعَ مَنْصُوبٌ، قالَهُ السَّمينُ الحلبيُّ.
قولُهُ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ. و "أَنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ كالَّتي قبلَها. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، اسْمُ "أَنَّ"، وخبرُها جملةُ "هُوَ الباطِلُ"، وجملةُ "أَنَّ" هَذِهِ معَ اسْمِها وخبَرِها معطوفةٌ على جملةِ "أَنَّ" الَّتي قبلَها على كونِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِالْبَاءِ.
قَوْلُهُ {يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ} يَدْعُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثبوتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فَاعِلِ: "يَدْعُونَ"؛ أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزينَ اللهَ، وَ "دُونِهِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صَلَةُ "مَا" المَوصولةِ فلا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، أَوْ صِفَةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إنْ كانتْ نَكِرَةً مَوْصوفةً، وَالعائدُ، أَوِ الرَّابِطُ مَحْذُوفٌ، والتَقديرُ: يَدْعُونَهُ.
قولُهُ: {هُوَ الباطِلُ} هُوَ: ضَمِيرُ فَصْلٍ مُبْتَدَأٌ تَقَدَّمَ إِعْرابُهُ. وَ "الْبَاطِلُ" خَبَرُهُ أَوْ خَبَرُ "أَنَّ" ـ كما تقدَّمَ بيانُهُ في الجُمْلةِ التي قبلَها. وَجُمْلَةُ "أَنَّ" مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ" وَلَهَا مِثْلُ ما تقدَّمَ مِنْ إِعْرابِها.
قوْلُهُ: {وَأَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ} مثلُ جُمْلَةِ قولِهِ: "أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ" معطوفةٌ عَلَيْهَا ولها مِثْلُ إعرابِها. و "الْكَبِيرُ" خَبَرٌ ثانٍ لِـ "هُوَ" أَوْ لـ "أَنَّ" حَسْب ما وَضَّحْناهُ هناك.
قَرَأَ الجُمْهورُ: {وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ} بالياءِ مِنْ تَحْتُ بالبناءِ للفاعِلِ عَلَى طَرِيقَةِ الْكَلَامِ السَّابِقِ.
وَقَرَأَ مُجَاهِدٌ، وَاليَمَانِيُّ "وأنَّ ما يُدْعوْنَ مِنْ دونِهِ" باليَاءِ مِنْ تَحْتُ أَيْضًا، إِنَّما بالبِناءِ للمَفْعُولِ، والواوُ الَّتي هِيَ ضَمِيرٌ تَعُودُ عَلَى "مَا" عَلَى مَعْنَاهَا، وَالمُرَادُ بِهَا الأَصْنَامُ أَوْ الشَّيَاطِينُ.
وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ عَاصِمٍ، وَأَبُو جَعْفَرٍ "وَأَنَّ مَا تَدْعوْنَ مِنْ دونِهِ" بِالتَّاءِ الْفَوْقِيَّةِ عَلَى الِالْتِفَاتِ إِلَى خِطَابِ الْمُشْرِكِينَ لِأَنَّ الْكَلَامَ السَّابِقَ الَّذِي جَرَتْ عَلَيْهِمْ فِيهِ ضَمَائِرُ الْغَيْبَةِ مَقْصُودٌ مِنْهُ إِسْمَاعُهُمْ وَالتَّعْرِيضُ بِاقْتِرَابِ الِانْتِصَارِ عَلَيْهِمْ.