لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ
(64)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} اللَّامُ هُنَا لامُ المُلكِ لِلِاخْتِصَاصِ التَّامِّ، وَتَقْدِيمُ الْمَجْرُورِ بها لِلدَّلَالَةِ عَلَى الْقَصْرِ.
وَالْمَعْنَى: أَنَّ جميعَ مَا فِي السَّماواتِ والأَرْضِ مِنْ مخلوقاتٍ يخصُّهُ وَحْدَهُ خَلْقًا وَمِلْكًا وَتَصَرُّفًا، فهوَ الوَحِيدُ ـ سُبْحانَهُ، الَّذي أَوْجَدَ ذَلِكَ كُلَّهُ مِنْ العَدَمِ، عَلَى غَيْرِ مِثَالٍ سَابِقٍ، والمَخلوقاتُ جَمِيعُها مُلْكهُ وَحدَهُ لَا يُنَازِعُهُ في مُلْكِهِ أَحَدٌ، وُكُلُّ ذَلِكَ مُنْقَادٌ لَهُ غَيْرُ مُمْتَنِعٍ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهِ، فَهُوَ يتَصَرَّفُ بمُلْكِهِ كَمَا يَشَاءُ دونَ مَعُونَةٍ، أَوْ مُساعدَةٍ، أَوْ منازَعَةٍ، أَوْ مُساءلةٍ، أَوْ مُشاركةٍ، أَوْ معارضةٍ، أَوْ مُعاندَةٍ. وكُلُّ ذَلِكَ لَهُ وحدَهُ وَلَيْسَ شَيءٌ منهُ لِغَيْرِهِ مِنْ أَصْنَامِكُمْ.
ولُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} الغَنَيُّ: هُوَ المُسْتغني بِذَاتِهِ فَلَا يَحْتَاجُ أَحَدًا وَلَا يَفْتَقِرُ إِلَى شَيْءٍ أَصْلًا، بما في ذِلِكَ عبادَة خلقِهِ لَهُ. "الحَمِيدُ" صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الحَمْدِ وتَعْني المَحْمُود كثيرًا، وهوَ الذي حَمَدَهُ بِصِفَاتِهِ العُلى وَأَفْعَالِهِ العُظْمى جَمِيعِ خَلْقِهِ بِلِسانِهم، أَوْ بِلِسَانِ حَالِهِمْ، وَهُوَ الغَنِيُّ عَنْ الأَشْيَاءِ كُلِّهَا بِمَا فِي ذَلِكَ حَمْد الحامِدينَ، لِأَنَّهُ الكامِلُ بِذَاتِهِ لِذَاتِهِ، والكَامِلُ لِذَاتِهِ غَنِيٌّ عَنْ كُلِّ مَا عَدَاهُ فِي الأُمُورِ كُلِّها.
وقدْ جاءتْ هَذِهِ الجُملةُ مُؤَكَّدةً بـ "إِنَّ" وباللامِ المُزحْلَقَةِ، وبضميرِ الفَصْلِ "هُوَ" ممَّا أَفادَ التأكيدَ وحَصْرَ هَاتَيْنِ الصِّفَتَيْنِ (الغِنَى والحَمْدَ) بِذاتِهِ العظيمَةِ المُقَدَّسَةِ العَلِيَّةِ. وَقدْ جاءَ الْحَصْرُ مُؤَكَّدًا بِحَرْفِ التَّوْكِيدِ "إِنْ" وَبِلَامِ الِابْتِدَاءِ (المزحلقةِ) تَحْقِيقًا لِنِسْبَةِ الْقَصْرِ إِلَى الْمَقْصُورِ، وَمِنْهُ قَوْلُ الصَّحابيِّ الشَّاعِرِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِيَكْربَ الزُّبيدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ:
وَقُلْ لَهُمْ بَادِرُوا بِالعُذْرِ وَالْتَمِسُوا ........... قَوْلًا يُبَرِّئُكُمْ إِنِّي أَنَا الْمَوْتُ
وقيلَ هوَ للشَّاعِرِ رُوَيْشِدُ بْنُ كَثِيرٍ الطَّائِي، وقبلَهُ:
يَا أَيُّهَا الرَّاكِبُ الْمُزْجِي مَطِيَّتَهُ .......... سَائِلْ بَنِي أَسَدٍ مَا هَذِهِ الصَّوْتُ
وبعدهُ:
إِنْ تٌذْنِبوا ثُمَّ تَأْتِينِي بَقِيَّتكُمْ ............... فَمَا عَليَّ بِذَنْبٍ عِنْدكُمْ فَوْتُ
قولُهُ تَعَالَى: {لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ} لهُ: اللامُ: حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بخبرٍ مُقَدَّمٍ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "مَا" مَوْصُولَةٌ أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ مبنيَّةٌ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ مُبْتَدَأٌ مُؤَخَّرٌ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ. وَ "فِي" حرفُ جرٍّ متعلِّقٌ بِصِلَةٍ لِـ "مَا" أَوْ صِفَةٌ لَها، وَالسَّمَاوَاتِ: مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "وَمَا فِي الْأَرْضِ" الواوُ: للعَطْفِ، و "مَا فِي الْأَرْضِ" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا فِي السَّمَاوَاتِ" وَلَهُ مِثلُ إِعْرابِهِ.
قوْلُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "إِنَّ" حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. و "لَهُوَ" اللَّامُ: هي المُزَحْلَقةُ للتَّوكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ). و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتَّوكيدِ. و "الْغَنِيُّ" خَبَرُ "إِنَّ" الأَوَّلُ مرفوعٌ بِها. و "الْحَمِيدُ" خَبَرُها الثاني مرفوعٌ بِها أَيْضًا، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى الجُمْلَةِ الاسْمِيَّةِ قَبْلَهَا على كونِها مُسْتَأْنَفةً لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.