وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ
(16)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} تَنْوِيهٌ بِتَبْيِينِ آياتِ هذا الكتابِ المَكْنُونِ، فإِنَّ كونَ آياتِهِ بْيِّنَاتٍ بِنَفْسِها كِنَايَةٌ عَنْ بُلُوغِهِ الْغَايَةَ بِحَيْثُ لَيْسَ ثمَّةَ ما هوَ أَوْضَحُ مِنْهُ.
أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ الإِنْزالِ أَنْزَلْنا القُرْآنَ كُلَّهُ آياتٍ بَيِّناتٍ. أَوْ: وَهَكَذَا مِثْلَ مَا أَنْزَلْنَا جِبْريلَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، بِمَا تَقَدَّمَ مِنْ آياتِ هَذا القُرْآنِ المَجِيدِ، ذَلِكَ الإِنْزَالَ البَديعَ، المُنْطَوِيَ عَلَى الحِكَم البَالِغَةِ، والبَراهينِ القاطِعَةِ، أَنْزَلْنَاهُ جَميعَهُ نِبْرَاسًا لِأَهْلِ التَّوْحِيدِ وَالإيمانِ، ودُسْتورًا، فيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ وَاضِحَاتِ البيانِ فِي لَفْظِهَا وَمَعْنَاهَا، حُجَّةً مِنَ اللهِ ـ جَلَّ وَعَزَّ، عَلَى خَلْقِهِ مِنَ النَّاسِ، وَهَذِهِ الآياتُ شَامِلَةٌ لِكُلِّ مَا هُوَ حلالٌ، وَمَا هُوَ حَرَامٌ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} أَيْ: وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكَ ـ يَا رَسولَ اللهِ، أَنَّ اللهَ يَهْدِي وَيُرْشِدُ إِلَى دِينِهِ مَنْ يُرِيدُ مِنْ عِبَادِهِ مَنْ يُرِيدُ هِدَايَتَهُ ابْتِدَاءً، أَوْ يُثَبِّتُهَ عَلى الهُدَى دَوَامًا. فَقَدْ عَلَّقَ وُجُودَ الْهِدَايَةِ بِإِرَادَتِهِ، فَهُوَ الْهَادِي وَلَا هَادِيَ سِوَاهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى.
وَإذًا فَلَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ أَنْ يَسْخَطَ مِنْ قَضَاءِ اللهِ وقَدَرِهِ، وَلَا يجوزُ أَنْ يَنْقَلِبَ إِذَا أَصَابَتْهُ مُصيبةٌ، أَوْ تعرَّضَ لِفِتْنَةٍ، لأَنَّ الأُمُورَ كُلَّها بِيَدِ اللهِ ـ تَباركَ وَتَعَالى، وهُوَ فِي ذَلِكَ كُلِّهِ: {لَا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} الآيةَ: 23، مِنْ سُورةِ الْأَنْبِيَاءِ. لكنَّهُ لِعِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ، وَعَدْلِهِ وَرَحْمَتِهِ، وَقَهْرِهِ وَعَظَمَتِهِ، لَا رادَّ لأَمْرِهِ، ولَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ، وَهُوَ سَرِيعُ الحساب. بلْ عَلَيْهِ أَنْ يَصْبِرَ وَيَحْتَسِبَ، ويَرْضَى بِقَضَاءِ اللهِ وَقَدَرِهِ، لِيَفُوزَ بِرُضْوانِ رَبِّهِ وَجَنَّتِهِ. وفي هَذِهِ الآيَةِ الكَريمَةِ دَليلٌ وَاضِحٌ عَلَى أَنَّ مِلَاكَ الهُدَى وَالضَّلَالِ ـ كَجميعِ أَمْرِ الخَلْقِ، مَنُوطٌ بِالإِرَادَةِ الإلهِيَّةِ الحَكِيمَةِ.
وَقَالَ المُعْتزلةُ: الْمُرَادُ مِنَ الْهِدَايَةِ خَلْقُ الْمَعْرِفَةِ، وَقولُهُمْ هَذَا يَحْتَمِلُ عَدَدًا مِنَ الوُجُوهِ وَهيَ:
أَوَّلُهَا: أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، يُكَلِّفُ مَنْ يُرِيدُ، لِأَنَّ مَنْ كَلَّفَ أَحَدًا شَيْئًا فَقَدْ وَصَفَهُ لَهُ وَبَيَّنَهُ. وَقدْ أُجِيبَ عَنْ هَذا الوَجْهِ بِأَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، ذَكَرَ ذَلِكَ بَعْدَ بَيَانِ الْأَدِلَّةِ وَالْجَوَابِ عَنِ الشُّبَهَاتِ، وإِذًا فَلَا يَجُوزُ حَمْلُهُ عَلَى مَحْضِ التَّكْلِيفِ.
ثَانِيهَا: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّهُ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ ـ مِمَّنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا، إِلَى الْجَنَّةِ ونعيمِها وَالْإِثَابَةِ فِيهَا.
وَالثَالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ أَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، يَلْطُفُ بِمَنْ يُرِيدُ مِنْ عِبادِهِ، مِمَّنْ عَلِمَ أَنَّهُ إِذَا زَادَهُ هُدًى ثَبَتَ عَلَى إِيمَانِهِ، فَيَكونُ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وَسَلَّمَ: {وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدًى} الآيةَ: 17. وَهَذَا الوجه هُوَ الَّذِي أَشَارَ الْحَسَنُ البَصْرِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، إِلَيْهِ بِقَوْلِهِ: (إِنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ قَبِلَ لَا مَنْ لَمْ يَقْبَلْ).
وَهَذانِ الوَجْهانِ ـ الْثانِي وَالثَّالِثِ، مَدْفُوعَانِ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالى: "يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ" لِأَنَهُ يَقْتَضِي عَدَمَ وُجُوبِ الهِدايةِ عليْهِ ـ جلَّ وَعَلَا، وهُمَا قَدْ أَوْجَبَاها عَلَيْهِ.
وَقَالُوا: المُرادُ بالهِدَايَةِ وَضْعُ الْأَدِلَّةِ لَهَا. وَهُوَ بَعِيدٌ لِأَنَّهُ وَضَعَها لِكُلِّ الْمُكَلَّفِينَ ـ أَهْلِ الهِدايةِ وغيْرِهم، وَلِأَنَّ قَوْلَهُ بَعْدَ ذَلِكَ: "يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهِدَايَةَ غَيْرُ وَاجِبَةٍ عَلَيْهِ، فهِيَ مُعَلَّقَةٌ بِمَشِيئَتِهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، وَوَضْعُ الْأَدِلَّةِ عِنْدَ الْخَصْمِ وَاجِبٌ ـ واللهُ أَعْلَمُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ} الواوُ: اسْتِئْنافِيَّةٌ. وَ "كذلك" الكافُ حَرْفُ جَرٍّ وتَشْبيهٍ، مُتَعَلِّقٌ إِمَّا بِحَالٌ مِنْ ضَميرِ المَصْدرِ المُقَدَّرِ، وَإِمَّا بِنَعْتِ الِمَصْدَرٍ المَحْذوفٍ عَلَى حَسَبِ مَا تَقَدَّمَ مِنَ الخِلافِ، أَيْ: وَمِثْلَ ذَلِكَ الإِنْزالِ أَنْزَلْنا القُرْآنَ كُلَّهُ آياتٍ بَيِّناتٍ. وَ "ذَا" اسْمُ إشارةٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ: للبُعدِ، والكافُ الثانيةُ للخِطابِ. وَ "أَنْزَلْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نَا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "آيَاتٍ" مَنْصُوبٌ عَلى الحالِ مِنْ مَفْعُولِ "أَنْزَلْنَا"، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرُ عِوَضًا عَنِ الفتْحِ لأنَّهُ جَمْعُ المُؤَنَّثِ السَّالمُ. وَ "بَيِّنَاتٍ" صِفَةٌ لِـ "آيَاتٍ" مَنْصوبةٌ مِثْلُها، وَالتَّقْديرُ، وَأَنْزَلْنَا القُرْآنَ كُلَّهُ، حَالَةَ كَوْنِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ، إِنْزَالًا مِثْلَ الآياتِ السَّابِقَةِ، مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ إِلى هَذِهِ الآيةِ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ} الواوُ: عَاطِفَةٌ، أَوْ حَالِيَّةٌ. وَ "أَنَّ" حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكدِ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَجُمْلَةُ "أَنَّ" فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ، مَعْطُوفٍ عَلَى مَفْعُولِ "أَنْزَلْنَاهُ"، وَالتَّقْديرُ: وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِ القُرْآنَ كُلَّهُ. وَهِدايَةَ اللهِ مَنْ يُريدُ هِدَايِتَهُ، أَوْ هِيَ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَرْفُوعٍ، عَلَى كَوْنِهِ خَبَرًا لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: وَالأَمْرُ هِدَايِةُ اللهِ مَنْ يُريدُ هِدَيَتَهُ، وَهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنْ فاعِلِ "أَنْزَلْنَاهُ". وَيجوزُ أَنْ يكونَ مَحَلَّها الجَرُّ بلامِ التَّعْليلِ المُقَدَّرَةِ، أَيْ: وَلِأَنَّ اللهَ يَهْدِي، فَهُوَ تَعْلِيلُ إِنْزَالِهِ كَذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ هَدْيَهُ، أَيْ: بِالْقُرْآنِ. فَلَامُ التَّعْلِيلِ مَحْذُوفَةٌ، وَحَذْفُ حَرْفِ الْجَرِّ مَعَ (أَنَّ) مُطَّرِدٌ.
قولُهُ: {يهْدِي مَنْ} يَهْدِي: فِعْلٌ مٌضَارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِهَا عَلَى الياءِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. وَالجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفِعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قَوْلُهُ: {يُرِيدُ} فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَها مِنَ الإعْرابِ، وَالعائدُ مَحْذُوفٌ والتَّقْديرُ: مَنْ يُريدُ هِدَايَتَهُ.