وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ
(71)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ} وَالْوَاوُ: حَرْفَ عَطْفٍ، وَالْجُمْلَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى الْجُمْلَةِ السَّابِقَةِ بِمَا تَفَرَّعَ عَلَيْهَا، عَطْفَ غَرَضٍ عَلَى غَرَضٍ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ وَاوَ الْحَالِ، فَتَكونُ الْجُمْلَةُ بَعْدَها في مَحَلِّ النَّصْبِ على الحالِ مِنَ الضَّمِيرِ الْمَرْفُوعِ فِي قَوْلِهِ ـ تعالى، مِنَ الآيةِ: 68، السَّابقةِ: {جَادَلُوكَ}. وَالْمَعْنَى: جَادَلُوكَ فِي الدِّينِ مُسْتَمِرِّينَ عَلَى عِبَادَةِ مَا لَا يَسْتَحِقُّ الْعِبَادَةَ مِنَ المَخْلوقاتٍ أحياءً وجماداتٍ، بَعْدَ مَا رَأَوْا مِنَ الدَّلَائِلِ والبراهينِ، وَتَتَضَمَّنُ هَذِهِ الْحَالُ تعريضًا بهم، وَتَعْجِيبًا مِنْ شَأْنِهِمْ، فِي إِصْرَارِهِمْ على الضَّلالِ ومُكَابَرَتِهِمْ.
وَجيءَ بِالْفِعْلِ الْمُضَارِعِ "يعبُدونَ" الْمُفِيدِ لِلاسْتِمْرَارِ وَالتَّجَدُّدِ عَلَى الْوَجْهَيْنِ، لِمَا فِي الدَّلَائِلِ الَّتِي تَحُفُّ بِهِمْ، وتَنْتَشِرُ مِنْ حَوْلِهِم. وَالَّتِي ذُكِّرُوا بِبَعْضِهَا فِي الْآيَاتِ الْسَّابقَةِ، بِمَا يِكفِيهم لِلْإِقْلَاعِ عَنْ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَغَيْرِهَا مِنَ الآلِهَةِ الَّتِي يَعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ لَوْ أَنَّهُم كَانُوا يُرِيدُونَ الْحَقَّ ويَنْشُدونَهُ.
والضَّمِيرُ في "يَعْبُدونَ" عائدٌ عَلَى المُشْركينَ مِنْ أَهْلِ مَكَّةَ، كَمَا قَالَ الكَلْبِيُّ، فإِنَّ الحَديثَ مَا زَالَ عَنْهُمْ.
وَهَذِهِ وَاحِدَةٌ أُخرَى مِنْ أَبَاطِيلِهِمْ، وَحَالٌ مِنْ أَحْوَالِهِمُ الدَّالَّةِ عَلَى ضَعْفِ عُقولِهم، وَصِغَرِ أَحْلامِهِمْ، وَسُخْفِ آرَائهِمْ. ذَلِكَ لأَنَّهُمْ بَنَوا دِينَهم عَلى غَيْرِ مَبْنَى مِنْ دَلِيلِ نَظَرٍ عَقْلِيَ، أَوْ نَقْلٍ سَمْعِيٍّ، وَأَعْرَضُوا عَمَّا أُوتِيَ نَبيُّهِمْ مِنْ سُلْطَانِ الحُجَّةِ والبُرهانِ، لِيَكونَ قاعدَةَ الدِّينِ، وَأَسَاسَهُ المَتِينَ، وحِصْنَهُ الحَصِينَ.
وَيُفهَمُ مِنْ عِبَارَةِ "مِنْ دُونِ اللهِ" أَنَّهُمْ كانوا مُعْرِضُينَ عَنْ عِبَادَةِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، لِأَنَّ كَلِمَةَ "دُونِ" قَدْ تَصْدُقُ بِالْمُشَارَكَةِ بَيْنَ مَا تُضَافُ إِلَيْهِ وَبَيْنَ غَيْرِهِ، وَإِنْ هِيَ كَانَتِ اسْمًا لِلْمُبَاعَدَةِ. لأَنَّها إِذَا دَخَلَتْ "مِنْ" عَلَيْهَا، تُفِيدُ مَعْنَى ابْتِدَاءِ الْفِعْلِ مِنْ جَانِبٍ مُبَاعِدٍ لِمَا أُضِيفَتْ إِلَيْهِ "دُونِ". وَاقْتَضَى هَذا أَنَّ الْمُضَافَ إِلَيْهِ غَيْرُ مُشَارِكٍ فِي الْفِعْلِ. لأَنَّهُمْ لَمَّا أُشْرِبَتْ قُلُوبُهُمُ حُبَّ الْأَصْنَامِ أَقْبَلوا عَلَى عِبَادَتِها، وَأُدْخِلَتْ فِي شُؤُونِ قُرُبَاتِهِمْ، حَتَّى أَنَّهُمْ وَضَعُوا أَصْنَامًا فِي شَعَائِرِ الْحَجِّ، فَبَعْضُهَا وَضَعُوهُ فِي الْكَعْبَةِ، وَبَعْضُهَا الآخرُ وَضَعُوهُ فَوْقَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ، وَلِذَلِكَ فَقَدْ جُعِلُوا في حُكْمِ الْمُعَطِّلِينَ لِعِبَادَةِ اللهِ العظيمِ.
قولُهُ: {ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} أَيْ: يَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلِ اللهُ حُجَّةً وَبُرْهَانًا بِجَوَازِ عِبَادَتِهِ، فَالسُّلْطَانُ: هُوَ الْحُجَّةُ والبُرهانُ، قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما. وَالمُرادُ بِالْحُجَّةِ هوَ الْأَمْرُ الْإِلَهِيُّ الْوَارِدُ فِي شَرَائِعِهِ عَلَى أَلْسِنَةِ رُسُلِهِ ـ عَلَيْهِمُ الصَّلاةُ والسَّلامُ. أَيْ يَعْبُدُونَ مَا لَا يَجِدُونَ لهُمْ عُذْرًا في عِبَادَتِهِ مِنَ الشَّرَائِعِ السَّالِفَةِ، وَقُصَارَى أَمْرِهِمْ أَنَّهُمُ اعْتَذَرُوا بِرُؤْيَتِهمِ آبَاءهِمْ يَعْبدونَها، وَلَمْ يَدَّعُوا أَنَّ نَبِيًّا أَمَرَ قَوْمَهُ بِعِبَادَةِ صَنَمٍ، وَلَا أَنَّ دِينًا إِلَهِيًّا رَخَّصَ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ.
قولُهُ: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} أَيْ: وَيَعْبُدُونَ مَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ اعْتِقَادٌ جَازِمٌ، وهَي الأَصَنَامَ، لِأَنَّ الِاعْتِقَادَ الْجَازِمَ لَا يَكُونُ إِلَّا عَنْ دَلِيلٍ، وَالْبَاطِلُ لَا يُمْكِنُ حُصُولُ دَلِيلٍ عَلَيْهِ. وَتَقْدِيمُ انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الشَّرْعِيِّ عَلَى انْتِفَاءِ الدَّلِيلِ الْعَقْلِيِّ لِأَنَّ الدَّلِيلَ الشَّرْعِيَّ هوَ الأَهَمُّ.
قولُهُ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} مَا: هُنَا نَافِيَةٌ. وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ معطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ" أَيْ: وَيَعْبُدُونَ مِنْ دونِ اللهِ مَا ذُكِرَ، وَمَا لَهُمْ نَصِيرٌ عَلَى ذَلِكَ، فَلَنْ تَنْفَعَهُمْ عِبَادَةُ الْأَصْنَامِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ الحَديثَ هُوَ عَنْ مُشْرِكِي مَكَّةَ فهم المَقْصُودُ بِـ "الظَّالِمِينَ"، لأَنَّهُمُ هُمُ الَّذينَ ارْتَكَبُوا مِثْلَ هَذَا الظُّلْمِ العَظِيمِ الَّذي تَقْضِي بِبُطْلانِهِ العُقُولُ السَّلِيمَةُ بَدِيهَةً، وبِكَونِهِ ظُلْمًا صُراحًا، ولذلكَ فإِنَّهم لَنْ يَجِدُوا لَهُمْ "مِن نَّصِيرٍ" يُسَاعِدُهُمْ فيمَا يَذْهَبونَ إلَيْهِ، أَوْ ينْصُرُهُم سَواءً كانَ بِتَقْرِيرِ رَأْيِهِمْ، أَوْ بِدَفْعِ العَذابِ عَنْهُمْ حينَ يَنْزِلُ بِهِم، عقوبةً مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، عَلَى ظُلْمِهِمْ هَذا. إذًا فَالْمُرَادُ بِالظَّالِمِينَ هُمُ الْمُشْرِكُونَ الْمُتَحَدَّثُ عَنْهُمْ. وَقَدْ جَاءَ هَذَا الْإِظْهَارُ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ لِلْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ سَبَبَ انْتِفَاءِ النَّصِيرِ لَهُمْ هُوَ ظُلْمُهُمْ، أَيْ كُفْرُهُمْ.
وَقَدْ أَفَادَ ذَلِكَ ذَهَابَ عِبَادَتِهِمُ الْأَصْنَامَ بَاطِلًا لِأَنَّهُمْ عَبَدُوهَا رَجَاءَ النَّصْرِ. وَيُفِيدُ بِعُمُومِهِ أَنَّ الْأَصْنَامَ لَا تَنْصُرُهُمْ فَأَغْنَى عَنْ مَوْصُولٍ ثَالِثٍ هُوَ مِنْ صِفَاتِ الْأَصْنَامِ كَأَنَّهُ قِيلَ: وَمَا لَا يَنْصُرُهُمْ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ الأَعْرَافِ: {وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ {وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُون} الْآيةَ: 197.
قولُهُ تَعَالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا} الوَاوُ: يَجُوزُ أَنْ تكونَ هِيَ الحَاليَّةَ، ويَجُوزُ أَنْ تَكونَ العَاطِفَةَ ـ كَمَا تقدَّمَ بَيَانُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسِيرِ. وَ "يعبُدُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ. وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفَاعِلِيَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ ضميرِ الفَاعِلِ في "يَعْبُدونَ"؛ أَيْ: حاَلَةَ كَوْنِهِمْ مُتَجَاوِزِينَ اللهَ ـ تَعَالَى، بِعِبَادَتِهِمْ، وَ "دُونِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَلَفْظُ الجَلَالةِ "اللهِ" في مَحلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْه. وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكُونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولٌ بِهِ، أَوْ نَكِرَةٌ مَوصوفةٌ.
قولُهُ: {لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا} لَمْ: حرفُ جَزْمٍ ونَفْيٍ وَقَلْبٍ. و "يُنَزِّلْ" فِعْلُ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَمْ"، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فِيِهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ "سُلْطَانًا"؛ لِأَنَّهُ فِي الأَصْلِ صِفَةُ نَكِرَةٍ قُدِّمَتْ عَلَيْهَا، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. وَ "سُلْطَانًا" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ صِلَةُ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، أَوْ صِفةً لها في مَحَلِّ النَّصْبِ إذا كانَتْ نَكِرةً مَوْصوفةً.
قوْلُهُ: {وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "مَا" مَعْطُوفٌ عَلَى "مَا" الأُولَى. وَ "لَيْسَ" فِعْلٌ نَاقِصٌ. و "لَهُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "ليسَ" مُقَدَّمًا عَلَى اسْمِها، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجَمعِ المُذَكَّرِ. وَ "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عِلْمٌ"، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. وَ "عِلْمٌ" اسْمُ "لَيْسَ" مُؤَخَّرٌ عَلَى خبَرِها مَرفوعٌ بها، وَجُمْلَةُ "لَيْسَ" مِنِ اسْمِها وخبَرِها، صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، أَوْ صفةٌ لَهَا في محلِّ النَّصْبِ إنْ كانتْ "ما" نَكِرةً مَوْصوفةً.
قَوْلُهُ: {وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ} وَمَا: الواوُ: للعَطْفِ، و "مَا" نَافِيَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. وَ "لِلظَّالِمِينَ: اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ مُقدَّرٍ، و "الظالمينَ" مَجْرورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ مُذَكَّرٍ سالمٌ. و "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ زَائدٍ. و "نَصِيرٍ" مَجرورٌ لفظًا بحرفِ الجَرِّ الزائدِ، مرفوعٌ محلًا بالابْتِداءِ. مُؤَخَّرٌ؛ والتقديرُ: وَمَا نَصْيرٌ موجودٌ للظَّالِمِينَ. وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ "يَعْبُدونَ".