ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ
(10)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} الْتِفَاتٌ مِنَ الغَيْبةِ إِلَى الخِطَابِ، أَيْ: إِذَا دَخَلَ النَّارَ فِي الْآخِرَةِ، قِيلَ لَهُ: ذَلِكَ الْعَذَابُ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ مِنَ الْمَعَاصِي وَالْكُفْرِ.
وَالْإِشَارَةُ بِـ "ذَلِكَ" إِلَى الْعَذَابِ، و "ذلكَ" هُنَا بِمَعْنَى هَذَا، فإِنَّهُ قَدْ تُسْتَعْمَلُ "ذلكَ" فِي الْإِشَارَةِ إِلَى حَاضِرٍ، وَإِنْ كَانَ مَوْضُوعًا لِلْإِشَارَةِ إِلَى غَائِبٍ، كَمَا قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ البقرة: {ذَلِكَ الكتابُ لا رَيْبَ فِيهِ} الآيةَ: 2، والمُرَادُ: هَذَا القرآنُ لا رَيْبَ فيهِ، وَكَمَا قَالَ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، في الآيةَ: 6، مِنْ سُورَةِ السَّجْدَةِ مُخْبِرًا عَنْ ذاتِهِ العَلِيَّةِ ـ جَلَّ جَلَالُهُ العَظِمُ: {ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ}، وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ الشَّاعِرِ: خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ:
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطِرُ مَتْنَهُ .................. تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
يُريدُ: أَنَا هَذَا. وَالمَعْنَى: ذَلِكَ الخِزْيُ الَّذي أَصَابَكَ فِي الدُّنْيَا، وعَذابُ الحَريقِ الَّذي تَذُوقُهُ في الآخِرةِ هوَ الجَزَاءُ على أَعْمالِكَ السَّيِّئَةِ الَّتي ارْتَكَبْتَها في الدُنْيَا، كَمُجادَلَتِكَ في اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ، وَإِعْرَاضِكَ عَمَّا بَيَّنَ لَكَ رَسُولُنا مِنْ حَقَائِقَ.
وَالْبَاءُ مِنْ قولِهِ "بما" هي للسَّبَبِيَّةِ، أَيْ: إِنَّ مَا أَصَابَكَ مِنْ خِزيٍّ وذُلٍ في الدُّنيا، وَمَا لَا قَيْتَ مِنْ سُوءِ العَذابِ في الآخِرةِ، هوَ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْ يداكَ.
وَ "مَا" هنا مَوْصُولَةٌ، وَقدْ عُطِفَ عَلَيْها قَوْلُهُ تَعَالَى: "وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ" لِأَنَّهُ فِي تَأْوِيل مَصْدَرٍ، أَيْ وَبِانْتِفَاءِ ظُلْمِ اللهِ الْعَبِيدَ، أَيْ ذَلِكَ الْعَذَابُ مُسَبَّبٌ لِهَذَيْنِ الْأَمْرَيْنِ، ولذلكَ فَإِنَّ ما لاقيتَ هوَ حقيقٌ بِكَ لِأَنَّهُ جَزَاء فَسَادِكَ، وَلِأَنَّهُ أَثَرُ عَدْلِ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، وَأَنَّهُ لَمْ يَظْلِمْهُ فِيمَا أَذَاقَهُ.
وَ "قَدَّمَ" ـ هُنَا، مَعْنَاهُ: أَسْلَفَ، فَقد جَعَلَ كُفْرَهُ كَالشَّيْءِ الَّذِي بَعَثَ بِهِ إِلَى دَارِ الْجَزَاء قَبْلَ أَنْ يَصِلَ هُوَ إِلَيْهَا، ليَسْبِقَهُ إِلَيْهَا، وَيَنْتَظِرَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيهَا، وَلِذَلِكَ فَقَدْ وَجَدَهُ حَاضِرًا في اسْتِقْبالِهِ هنالِكَ، يَنْتَظِرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ والحِسابِ والَجزاءِ، قَالَ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ: {وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حاضِرًا} الْآيةَ: 49.
وَقَدْ عَبَّرَ بِالْيَدِ عَنِ جُمْلَةِ الذُّنوبِ، لِأَنَّ الْيَدَ الَّتِي تَفْعَلُ وَتَبْطِشُ، فَهِيَ في الغالِبِ مَنْ تُباشِرُ الذُّنوبَ غالبًا. وَالذُّنُوبَ إِمَّا أَقْوَالٌ، أَوْ أَفْعَالٌ، أَوْ مِنْ عَمَلِ مِنْ القَلْبِ، كَالحِقْدِ والكُرْهِ وَالشِّرْكِ والنِّفاقِ.
قَوْلُهُ: {وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ} فَليسَ اللهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، بِظَالِمٍ حَتَّى يُعَذِّبَ أَحَدًا مِنْ عَبِيدِهِ بِغَيْرِ ذَنْبٍ اقْتَرَفَهُ، إِذْ لَا يَظْلِمُ اللهُ أَحَدًا أَبَدًا، وَقَدْ أَكَّدَ ذَلِكَ بِـ "أَنَّ".
وَهُوَ ـ جَلَّ ذِكْرُهُ، عَلَى أَيِّ وَجْهٍ شَاءَ أَنْ يَتَصَرَّفَ فِي عَبْدِهِ، فَحُكْمُهُ فيهِ عَدْلٌ وَلَيْسَ بِظُلْمٍ لأَنَّهُ إنَّما يتصَرَّفُ فيما يَمْلكُ، والظُّلْمُ هو التَّصَرُّفُ في مُلْكِ الغَيْرِ بِغَيْرِ وَجْهِ حَقٍّ.
بَلِ إنَّ الإنْسانَ هُوَ الَّذي يَظْلُمُ نَفْسَهُ بِكُفْرِهِ بِرَبِّهِ، وَمَعْصِيَتِهِ لَهُ، وَتَعْرِيضِ نَفْسِهِ لِغَضَبِ مَوْلَاهُ وَخَالِقِهِ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ النَّحْلِ: {وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ} الآيَةَ: 118.
وَ "ظَلَّام" هي صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنْ الظُّلْمِ، وَتَقْتَضِي بِظَاهِرِهَا نَفْيَ الظُّلْمِ الشَّدِيدِ مُطْلَقًا، وَالْمَقْصُودُ أَنَّ الظُّلْمَ مِنْ حَيْثُ هُوَ ظُلْمٌ أَمْرٌ شَدِيدٌ غَيْرُ مَقْبُولٍ، فَصِيغَتْ لَهُ زِنَةُ الْمُبَالَغَةِ، وَكَذَلِكَ الْتُزِمَتْ فِي ذِكْرِهِ حَيْثُمَا وَقَعَ فِي الْقُرْآنِ الكريمِ.
وَقَدِ اعْتَادَ جَمْعٌ مِنَ عُلَمَاءِ اللغَةِ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنْ يَجْعَلُوا الْمُبَالَغَةَ رَاجِعَةً لِلنَّفْيِ ولَيْسَ لِلْمَنْفِيِّ، وَهُوَ بَعِيدٌ.
وقيلَ: إِنَّما جِيءَ بِالْمُبالَغَةِ في هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ لِتَكْثِيرِ مَحَالِّهَا، فَإِنَّ العَبِيدَ جَمْعٌ.
وَالأَحْسَنُ مِنْهُ أَنْ يُقالَ: إِنَّ "فَعَّالًا" هُنَا للنَسَبِ وَلَيْسَتْ لِلْمُبَالَغَةِ، أَيْ: لَيْسَ بِذِي ظُلْمٍ أَصْلًا.
قَوْلُهُ تَعَالى: {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} ذَلِكَ: اسْمُ إِشارةٍ مَبنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخِطابِ. و "بِمَا" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وَالجُمْلُةُ فِي مَحَلَّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْديرُ: وَنَقُولُ لَهُ ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، و "مَا" مَوْصولةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الْجَرِّ.
قوْلُهُ: {قَدَّمَتْ يَدَاكَ} فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتحِ، والتاءُ السَّاكنةُ لِتَأْنيثِ الفاعِلِ. و "يَدَاكَ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ وعلامةُ رَفْعِهِ الأَلِفُ لأَنَّهُ مُثنَّى، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، والجُمْلَةٌ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ، والعائدُ مَحْذوفٌ، والتَّقْديرُ: قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ.
قَوْلُهُ: {وَأَنَّ اللهَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "أَنَّ" حَرْفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكِيدِ. ولَفْظُ الجَلَالةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وهذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ عَطْفًا عَلَى "مَا" المَوْصُولَةِ، والتَّقْديرُ: ذَلِكَ حَاصِلٌ بِسَبَبِ مَا قَدَّمَتْهُ يَدَاكَ، وَبِسَبَبِ عَدَمِ كَوْنِ اللهِ ظَلَّامًا للعَبِيدِ، فَيَجُوزُ عَطْفُهَا عَلَى السَّبَبِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ التَّقْديرُ: وَالأَمْرُ أَنَّ اللهَ، فَتَكُونُ مُنْقَطِعَةً عَمَّا قَبْلَها.
قولُهُ: {لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ} لَيْسَ: فِعْلٌ مَاضٍ نَاقِصٌ، وَاسْمُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى. وَ "بِظَلَّامٍ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ زائدٌ، وَ "ظَلَّامٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ الزائدِ لَفْظًا، مَنْصوبٌ مَحَلًا عَلَى كَوْنِهِ خَبَرَ "لَيْسَ". و "لِلْعَبِيدِ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "ظَلَّامٍ"، و "الْعَبِيدِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. والجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرًا لِـ "أَنَّ".
وَقدِ اخْتُلِفَ في الوَقْفِ عَلَى: "يَدَاكَ" فَقِيلَ: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّ التَّقْديرَ: وَبْأَنَّ اللهَ، أَيْ: أَنَّ هَذَا هُوَ العَدْلُ فِيكَ بِجَرَائِمِكَ. وَقِيلَ: يَجُوزُ بِمَعْنَى: وَالْأَمْرُ أَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ للعَبيدِ.