وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ
(11)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} تَمْثِيلٌ لِحَالِ الْمُتَرَدِّدِ فِي عَمَلِهِ، يُرِيدُ تَجْرِبَةَ عَاقِبَتِهِ بِحَالِ مَنْ يَمْشِي عَلَى حَرْفِ جَبَلٍ أَوْ وَادٍ فَهُوَ مُسْتَعِدٌّ لِأَنْ يَزِلَّ عَنْهُ ويسْقُطَ إِلَى أَسْفَلِهِ. وَهُمْ فَرِيقٌ آخَرَ مِنَ ضَعيفِي الإِيمانِ بِاللهِ ـ تَعَالَى الْذينَ لَمْ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُهُمْ لِدِينِ الإِسْلامِ، فَهُمْ فِي زلْزَلَةٍ دَائِمَةٍ وَاضطِّرابٍ دَائمٍ، بَدَلًا مِنْ أَنْ يَتَّعِظُوا بَمَا حذَّرَ اللهُ بِهِ الْمُعْرِضِينَ عَنْ دينِهِ، ذلِكَ لِأَنَّهُمْ يُوازِنُونَ بَيْنَ مَا يُحَقُّقُهُ لَهُمْ دِينِهِمُ الْقَدِيمِ وَالدِّينِ الْإِسْلَامِي مِنْ مَكاسِبَ. فَهُمْ يَقْبَلُونَ دينَ الْإِسْلَامِ وَيَدْخُلُونَ فِي عِدَادِ المُسلمينَ بمقدارِ ما يحقِّقونَ فيهِ مِنْ مَكَاسِبَ مادِيَّةٍ، ومَصَالِحَ شَخْصِيَّةٍ.
والمُرادُ بالحَرْفِ: الطَّرَفِ والجانِبُ والحافَّةُ ـ سواءٌ أَكانَ مُرتفعًا كالجَبَلِ والوادي السَّحيقِ، أَوْ لمْ يكنْ مُرتفِعًا. أَيْ لَا يَنْغَمِسُ هؤُلاءِ في الدَّينِ فيَعِشُونَهُ حَيَاةً لَهُمْ، بَلْ هُمْ دائمًا مُتَوَفِّزُونَ مُسْتَعِدُّونَ للتَّخَلِّي عَنْهُ عِنْدَ أَوَّلِ شِدَّةٍ تَعْتَرِضُ سَبِيلَهُمْ، كَالَّذي يَكُونُ فِي طَرَفَ العَسْكَر: إِنْ رَأَى علاماتِ النَّصْرِ ثَبَتَ، وإِذَا لَاحَتْ لَهُ علاماتُ الهَزيمَةِ فَرَّ ونَجَا بِنَفْسِهِ، وَقَفَزَ مِنَ المَرْكَبِ يَغْرَقَ.
فقدْ أَخْرَجَ البُخَارِيُّ وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ"، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَقْدُمُ الْمَدِينَةَ، فَإِنْ وَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا وَنَتَجَتْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينٌ صَالِحٌ، وَإِن لَّمْ تَلِدِ امْرَأَتُهُ، وَلَمْ تَنْتجْ خَيْلُهُ، قَالَ: هَذَا دِينُ سُوءٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي الْآيَةِ، قَالَ: كَانَ أَحَدُهُمْ إِذَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ ـ وَهِيَ أَرْضٌ وَبِيئَةٌ، فَإِنْ صَحَّ بِهَا جِسْمُهُ وَنَتَجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا حَسَنًا، وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ غُلَامًا رَضِيَ بِهِ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَقَالَ: مَا أَصَبْتُ مُنْذُ كُنْتُ عَلَى دِينِي هَذَا إِلَّا خَيْرًا، وَإِنْ رَجَعَ مِنَ الْمَدِينَةِ، وَوَلَدَتِ لَهُ امْرَأَتُهُ جَارِيَةً، وَتَأَخَّرَتْ عَنْهُ الصَّدَقَةُ، أَتَاهُ الشَّيْطَانُ، فَقَالَ: وَاللهِ مَا أَصَبْتَ مُنْذُ كُنْتَ عَلَى دِينِكَ هَذَا إِلَّا شَرًّا، وَذَلِكَ الْفِتْنَةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ"، قَالَ: كَانَ الرَّجُلُ يَأْتِي الْمَدِينَةَ مُهَاجِرًا فَإِنْ صَحَّ جِسْمُهُ، وَتَتَابَعَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةٌ، وَوَلَدَتْ امْرَأَتُهُ غُلَامًا، وأَنْتَجَتْ فَرَسُهُ مُهْرًا قَالَ: وَاللهِ لَنِعْمَ الدِّينُ مُنْذُ وَجَدْتُ دِينَ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَذَا مَا زِلْتُ أَعْرِفُ الزِّيَادَةَ فِي جَسَدِي وَوَلَدِي، وَإِنْ سَقِمَ بِهَا جِسْمُهُ، واحْتَبَسَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ، وأَزْلَقَتْ فَرَسُهُ، وأَصَابَتْهُ الْحَاجَةُ، وَوَلَدَتِ امْرَأَتُهُ الْجَارِيَةَ قَالَ: وَاللهِ لَبِئْسَ الدِّينُ دِينُ مُحَمَّدٍ هَذَا، وَاللهِ مَازِلْتُ أَعْرِفُ النُّقْصَانَ فِي جَسَدِي وَأَهلي وَوَلَدي وَمَالِي.
قولُهُ: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ} أَيْ: فإذا وَجَدَ بُحْبُوحَةً وَسَعَةً في انْتِمائِهِ إلى الدِّينِ الجديدِ سَكَنَ وَاسْتَقَرَّ فِي مَكَانِهِ، وَاسْتَمَرَّ عَلَى التَّوْحِيدِ مُسْتَبْشِرًا بما أصابهُ مِنْ خَيْرِ.
وَ "اطْمَأَنَّ" زَالَ عَنْهُ التَّرَدُّدُ وَشَعَرَ بالرَّاحَةِ وَالسَّكِينَةِ. وَهُوَ مِنَ الِاطْمِئْنَانُ عكسُ الاضطِرابِ وَهُوَ المَصْدَرُ، والاسْمُ الطُّمَأْنِينَةُ. والتَّطامُنُ: الثباتُ والاسْتِقْرارُ والسُّكونُ، ومِنْهُ: وَتَّدَ اللهُ الأَرْضَ بِالجِبَالِ فَاطْمَأَنَّتْ، أَيْ ثبتَتْ واستقرَّتْ. وَحَالُ هَؤُلَاءِ قَرِيبٌ مِنْ حَالِ الْمُؤَلَّفَةِ، كَمَا قُالَ الضَّحَّاكُ، وَذَكَرَ مِنْهُمُ العبَّاسَ بْنَ مِرْداسٍ، وَعُيَيْنَةَ ابْنَ حِصْنٍ، وَالْأَقْرَعَ بْنَ حَابِسٍ، وَقَالَ: فيهِمْ نَزَلَتِ الآيةُ.
قولُهُ: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} الْفِتْنَةُ: الشَّرُّ اضْطِرَابُ الْحَالِ، وَتَقَلْقُلُ الْبَالِ خَوْفًا مِنْ حُدُوثِ شَرٍّ لَا مَدْفَعَ لَه وَلَا تحوُّلَ عَنْهُ.
وَالفَتَّانُ: الشَّيْطَانُ، واسْتَغْوَتْهُمُ الفُتَّانُ أَيْ: الشَّيَاطِينُ. وَهُوَ مَفْتُونٌ بالدُّنْيَا وَمُفْتَتَنٌ بِهَا وَمُفْتَتِنٌ، فَقَدْ فَتَنَتْهُ وَأَفْتَنَتْهُ. والفِتْنَةُ ـ أَيْضًا: الحَرْبُ. ويَتَفَاتَنُونَ: يَتَحَارَبُونَ. ودِينَارٌ مَفْتُونٌ: أَيْ أُدْخِلَ النارَ لتخليصِهِ مِنَ الخَبَثِ، وَكُلُّ شَيْءٍ أُدْخِلَ النَّارَ فَقَدْ فُتِنَ، قالَ تَعَالى مِنْ سُورَةِ الذاريات: {يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ * ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ} الآيتانِ: (13 ـ 14).
قولُهُ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} تَمْثِيلٌ لِحَالِهِمْ، فَالِانْقِلَابُ هُنَا مُسْتَعْمَلٌ فِي حَقِيقَتِهِ، لأَنَّ مَعْنَى قَلَبَ الشَّيْءَ: أَيْ كَبَّهُ عَلَى وُجْهِهِ، وَأَلْقَاهُ بِعَكْسِ مَا كَانَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ مَا كَانَ أَعْلَى إلى أَسْفَلَ كَمَا يُقْلَبُ الْقَالَبُ ـ بِفَتْحِ اللَّامِ، وهُوَ الْمُنَاسِبُ لِقَوْلِهِ: "عَلى وَجْهِهِ" أَيْ: سَقَطَ وَانْكَبَّ عَلَى وَجْهِهِ. قالَ تَعَالَى مِنْ سورةِ الشُّعراءِ: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ * وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ} الآيتانِ: (94 ـ 95)، كَقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ صَلَاةُ اللهِ وَسَلَامُهُ: ((إِنَّ هَذَا الْأَمْرَ فِي قُرَيْشٍ لَا يُنَازِعُهُمْ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا كَبَّهُ اللهُ عَلَى وَجْهِهِ ما أَقاموا الدِّينَ)). أَخْرَجَهُ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ: (4/94، رقم: 16898)، وَالبُخارِيُّ: (3/1289، رقم: 3309). وَالدَّارِمِيُّ: (2/315، رقم: 2521)، والنَّسَائِيُّ: (5/228، رقم: 8750)، وابْنُ أَبي عَاصِمٍ في السُّنَّةِ: (2/528، رقم: 112)، والطَّبَرَانِيُّ: (19/338، رقم: 780)، والبَيْهَقِيُّ: (8/141، رقم: 16311). مِنْ حديثِ معاويةَ بِنِ أبي سُفْيانَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. ومِنْهُ قَوْلُ امْرِئِ الْقَيْسِ:
فأَضْحَى يَسُحُّ المَاَء حَوْلَ كُتَيْفَةٍ ..... يَكُبُّ عَلَى الأَذْقَانِ دَوْحَ الكَنَهْبَلِ
الكَنَهْبَلُ: الكَهْبَلُ، فالنُّونُ زائدَةٌ فيه، وَهُوَ شَجَرٌ عِظَامٌ مِنَ العِضَاهِ.
وَيُطْلَقُ الِانْقِلَابُ كَثِيرًا عَلَى الِانْصِرَافِ مِنَ الْجِهَةِ الَّتِي أَتَاهَا إِلَى الْجِهَةِ الَّتِي جَاءَ مِنْهَا، وَهُوَ مَجَازٌ شَائِعٌ وَبِهِ فَسَّرَ الْمُفَسِّرُونَ. وَلَا يُنَاسِبُ اعْتِبَارُهُ هُنَا لِأَنَّ مِثْلَهُ يُقَالُ فِيهِ: انْقَلَبَ عَلَى عَقِبَيْهِ لَا عَلَى وَجْهِهِ، كَمَا قَالَ تَعَالَى منْ سورةِ البقرة: {إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ} الْآيةَ: 143، إِذِ الرُّجُوعُ إِنَّمَا يَكُونُ إِلَى جِهَةٍ غَيْرِ جِهَةِ الْوَجْهِ.
قولُهُ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} أَي: خسِرَ الطُمَأْنِينَةَ والرَّاحةَ النَّفسيةَ الَّتي يَجِدُهَا المُؤمِنُ في التعامُلِ معَ اللهِ ـ تعالى، وَخَسِرَ العِزَّةَ والنَّصْرَ الذي مَنَّ اللهُ بهِ على المُؤمنينَ، وخسِرَ ثِقَةَ الصّالحينَ مِنْ عبادِ اللهِ وحُسْنَ معاملتِهِم، هذا في الدُّنيا. وَخَسِرَ الجَنَّةَ وما فيها مِنَ النعيمِ المقيمِ في الآخرَةِ، وأَلقى بنفسِهِ في نارِ جَهَنَّمَ مُخَلَّدًا في عَذابِها.
قولُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} المُبينُ: البَيِّنُ شديدُ الوُضوحِ الذي لا خفاءَ فيهِ. وَهَلْ مِنْ خُسْرٍ في الدُّنيا والآخِرةِ يُعَادِلُ هَذِهِ الخَسَارَةَ وَيُوَازِيها أَوْ يُساويها؟. وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ"، قَالَ: عَلَى شَكٍّ. وَفِي قَوْلِهِ: "فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ" قَالَ: رَخَاءٌ وَعَافِيَةٌ. و "اطْمَأَنَّ بِهِ" قَالَ: اسْتَقَرَّ. و "إِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ" قَالَ: عَذَابٌ وَمُصِيبَةٌ. و "انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ" قَالَ: ارْتَدَّ عَلَى وَجْهِهِ كَافِرًا. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ"، قَالَ: عَلَى شَكٍّ. و "فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ" يَقُولُ: إِنْ أَصَابَ خِصْبًا وَسَلْوَةً مِنَ عَيْشٍ وَمَا يَشْتَهِي اطْمَأَنَّ إِلَيْهِ، وَقَالَ: أَنَا عَلَى حَقٍّ، وَأَنَا أَعْرِفُ الَّذِي أَنَا عَلَيْهِ، "وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ"، أَيْ بَلَاءٌ، "انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ"، يَقُولُ: تَرَكَ مَا كَانَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ فَأَنْكَرَ مَعْرفَتَهُ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ. يَقُولُ: خَسِرَ دُنْيَاهُ الَّتِي كَانَ لَهَا يَحْزَنُ، وَبِهَا يَفْرَحُ، وَلَهَا يَسْخَطُ، وَلَهَا يَرْضَى، وَهِيَ هَمُّهُ وَسَدْمُهُ وَطِلْبَتُهُ وَنِيَّتُهُ، ثُمَّ أَفْضَى إِلَى الْآخِرَةِ، وَلَيْسَ لَهُ حَسَنَةٌ يُعْطَى بِهَا خَيْرًا، "ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ الْمُبِينُ".
وَفي سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ الكَريمةِ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، بِسَنَدٍ صَحِيحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قَالَ: كَانَ نَاسٌ مِنَ الْأَعْرَابِ يَأْتونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُسْلِمُونَ، فَإِذَا رَجَعُوا إِلَى بِلَادِهِمْ، فَإِنْ وَجَدُوا عَامَ غَيْثٍ، وَعَامَ خِصْبٍ، وَعَامَ وِلَادٍ حَسَنٍ، قَالُوا: إِنَّ دِينَنَا هَذَا صَالِحٌ، فَتَمَسَّكُوا بِهِ، وَإِنْ وَجَدُوا عَامَ جَدْبٍ، وَعَامَ وِلَادِ سُوءٍ، وَعَامَ قَحْطٍ، قَالُوا: مَا فِي ديننَا هَذَا خَيْرٌ. فَأَنْزَلَ اللهُ تَعَالَى: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ عَطِيَّةَ عَنْ أَبي سَعِيدٍ الخُدْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: أَسْلَمَ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَذَهَبَ بَصَرُهُ وَمَالُهُ وَوَلَدُهُ، فَتَشَاءَمَ بِالْإِسْلَامِ، فَأَتَى النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَقَالَ: أَقِلْنِي. فَقَالَ: ((إِنَّ الْإِسْلَامَ لَا يُقَالُ)). فَقَالَ: لَمْ أُصِبْ فِي دِيني هَذَا خَيْرًا، ذَهَبَ بَصَرِي وَمَالِي، وَمَاتَ وَلَدِي. فَقَالَ: ((يَا يَهُودِيُّ الْإِسْلَامُ يَسْبِكُ الرِّجَالَ كَمَا تَسْبِكُ النَّارُ خَبَثَ الْحَدِيدِ وَالذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ)). وَنَزَلَتْ: "وَمِنَ النَّاسِ مَن يَّعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ".
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ} الوَاوُ: ، وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بخبرٍ مُقدَّمٍ، و "النَّاسِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، مُؤَخَّرٌ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لبَيَانِ حَالِ المُرْتَابِينَ، أَوْ مَعْطُوفُةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ} مِنَ الآيَةِ الَّتي قبلَها.
قولُهُ: {يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} يَعْبُدُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجَازِمِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ" وَلفظُ الجلالةِ "اللهَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنْ فاعِلِ "يَعْبُدُ" أَيْ: حَالَةَ كَوْنِهِ مُضطَّرِبًا مُتَرَجْرِجًا، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ صِلَةٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ أَوِ المَوْصُوفَةِ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ} فَإِنْ: الفاءُ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَفْصِيلٍ، و "إِنَّ" حَرْفُ شَرْطٍ جازمٌ. و "أَصَابَهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعولِيَّةِ. و "خَيْرٌ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" الشَّرْطِيَّةُ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "يَعْبُدُ" عَلَى كَوْنِهَا صِلَةَ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {اطْمَأَنَّ بِهِ} اطْمَأَنَّ: فِعْلٌّ مَاضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَنْ" عَلَى كَوْنِهِ جَوَابًا لَهَا، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جَوَازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى ذَلِكَ العابِدِ، وَ "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اطْمَأَنَّ".
قولُهُ: {وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ} الوَاوُ: عَاطِفَةٌ، وَ "إِنْ" حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ، و "أَصَابَتْهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "أَنْ"، عَلَى كَوْنِهِ جَوَابًا لَهَا، والتاءُ الساكنةُ لتَأْنيثِ الفاعِلِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعولِيَّةِ. وَ "فتنةٌ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّة مَعْطُوفُةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنْ" الأُولَى على كونِها صِلةَ "مِنْ" المَوْصُولةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ} انْقَلَبَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ في مَحَلِّ الجَزْمِ بـ "إِنْ" الشَّرطِيَّةِ على كونِهِ جوابَ شَرطٍ لها، وَفَاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى العابِدِ، وَ "على" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "انْقَلَبَ" أَوْ بِحالٍ مِنْ فاعلِهِ. وَ "وَجْهِهِ" مجرورٌ بِحَرف الجَرِّ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ.
قولُهُ: {خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ} خَسِرَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى العَابِدِ. و "الدُّنْيَا" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ فَتْحَةٌ مُقَدَّرةٌ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. وَ "الْآخِرَةَ" مَعْطوفٌ عَلَى "الدُّنْيَا" مَنْصوبٌ مِثلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ، أَوْ حَالٌ مِنْ فَاعِلِ "انْقَلَبَ"، وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْديرِ "قَدْ" عَلَى الصَّحيحِ، أَوْ هيَ بَدَلٌ مِنْ قَوْلِهِ: "انْقَلَبَ" كَمَا أُبْدِلَ المُضَارِعُ مِنْ مِثْلِهِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَي مِنْ سُورةِ الفُرْقان: {يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ} الآيتانِ: (68 و 69).
قولُهُ: {ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ} ذَلِكَ: اسمُ إِشارةٍ مَبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصْلٍ للتَّوْكِيدِ. و "الْخُسْرَانُ" خَبَرُهُ مَرفوعٌ، و "الْمُبِينُ" صِفَةٌ لِـ "الْخُسْرَانُ" مَرْفوعَةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {خَسِرَ} فِعْلًا مَاضِيًا. وَهُوَ يَحْتَمِلُ ثَلاثةَ وُجوهٍ: الاسْتِئْنافَ، وَالحَالِيَّةَ مِنْ فاعِلِ "انْقَلَبَ" والبدَلِيَّةَ كَمَا تَقَدَّمَ توضيحُهُ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ.
وَقَرَأَ مُجاهِدٌ، وَالأَعْرَجُ وابْنُ مُحَيْصِنٍ وَالجَحْدَرِيُّ في آخَرينَ "خاسِرَ" بِصِيغَةِ اسْمِ فَاعِلٍ مَنْصُوبٍ عَلَى الحَالِ، وَهِيَ تُؤَيِّدُ كَوْنَ المَاضِي في قِرَاءَةِ العامَّةِ حَالًا.
وَقُرِئَ "خاسِرُ" بِرَفْعِهِ. وَفِيهِ وَجْهَانِ، أَحَدُهُما: أَنْهُ فاعِلٌ بِـ "انْقَلَبَ" وَيَكونُ مِنْ وَضْعِ الظاهِرِ مَوْضِعَ المُضْمَرِ، أَيْ: انْقَلَبَ خَاسِرُ الدُّنْيَا. وَالأَصْلُ: انْقَلَبَ هُوَ.
والثاني: أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، أَيْ: هُوَ خَاسِرُ. وَهَذِهِ القِراءَةُ تُؤَيِّدُ الاسْتِئْنَافَ فِي قِرَاءَةِ المُضِيِّ عَلَى التَّخْريجِ الثَّاني. وحَقُّ مَنْ قَرَأ "خاسِر" رَفْعًا وَنَصْبًا أَنْ يَجُرَّ "الآخِرَةِ" لِعَطْفِها عَلَى "الدّنْيا" المَجْرُورِ بالإِضافَةِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَبْقَى النَّصْبُ فِيهَا؛ إِذْ يَجُوزُ أَنْ تَكونَ "الدُّنْيا" مَنْصُوبَةً. وَإِنَّما حُذِفَ التَّنْوينُ مِنْ "خاسِر" لِالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ.