وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ
لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ
(26)
قولُه ـ تَعَالى شأْنُهُ: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} أَيْ: وَاذْكُرْ إِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكانَ البَيْتِ، وَ "بَوَّأَ" بِمَعْنَى "مَكَّنَ"، يُقَالُ: بَوَّأْتُهُ وَبَوَّأْتُ لَهُ مَنْزِلًا. كَمَا يُقَالُ: مَكَّنْتُهُ وَمَكَّنْتُ لَهُ، فَاللَّامُ هُنا صِلَةٌ لِلتَّأْكِيدِ ـ عنْدَ الفرَّاءِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ النَّملِ: {رَدِفَ لَكُمْ} الآيَةَ: 72.
وَقِيلَ: هيَ بِمَعْنَى "أَرَيْنا"، أَيْ: أَرَيْنَاهُ مَكَانَ البَيْتِ، وَهُوَ أَصْلَهُ وأَساسُهُ لِيَبْنِيَهُ عَلَيْهِ، إِذْ كانَ قَدْ دَرَسَتْ معالِمُهُ ومَحاهَا الطُّوفَانِ وَالحِدْثانُ، فَلَمَّا أَمَرَهُ اللهُ بِبُنْيَانِهِ، جَاءَ إِلَى مَوْضِعِهِ فَلَمْ يَجْدْ لَهُ أَثَرًا، فَبَعَثَ اللهُ رِيحًا فَكَشَفَتْ لَهُ عَنْ الأَسَاسِ الذي بَنَاهُ عَلَيْهِ أَبوهُ آدَمُ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، فَرَتَّبَ قَوَاعِدَهُ عَلَيْهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ كَعْبِ الْأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: كَانَ الْبَيْتُ غَثاةً (وَهِيَ المَاءُ) قَبْلَ أَنْ يَخْلُقَ اللهُ الأَرْضَ بِأَرْبَعِينَ عَامًا، وَمِنْهُ دُحِيَتِ الأَرْضُ.
وَرُوِيَ أَنَّ الكَعْبَةَ المشَرَّفةَ بُنِيَتْ خَمْسَ مَرَّاتٍ، الأُولَى يومَ بَنَتها المَلَائِكَةُ، وَكَانَ بِنَاؤها مِنْ يَاقُوتَةٍ حَمْرَاءَ، ثُمَّ رُفِعَتِ الياقُوتَةُ أَيَّام الطُّوفَانِ الأَعْظَمِ المَعروفِ بِطُوفانِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي المُصَنَّفِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطاءِ بْنِ أَبي رَبَاحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: لَمَّا أَهْبَطَ اللهُ آدَمَ مِنَ الْجَنَّةِ كَانَ رِجْلَاهُ فِي الْأَرْضِ وَرَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ، يَسْمَعُ كَلَامَ أَهْلِ السَّمَاءِ وَدُعَاءَهُمْ، يَأْنَسُ إِلَيْهِمْ، فَهَابَتْهُ الْمَلَائِكَةُ، حَتَّى شَكَتْ إِلَى اللهِ فِي دُعَائِهَا وَفِي صَلَاتِهَا، فَخَفَضَهُ إِلَى الْأَرْضِ؛ فَلَمَّا فَقَدَ مَا كَانَ يَسْمَعُ مِنْهُمْ، اسْتَوْحَشَ حَتَّى شَكَا ذَلِكَ إِلَى اللهِ فِي دُعَائِهِ وَفِي صَلَاتِهِ، فَوُجِّهَ إِلَى مَكَّةَ، فَكَانَ مَوْضِعُ قَدَمِهِ قَرْيَةً وَخَطْوُهُ مَفَازَةً، حَتَّى انْتَهَى إِلَى مَكَّةَ. وَأَنْزَلَ اللهُ يَاقُوتَةَ مِنْ يَاقُوتِ الْجَنَّةِ، فَكَانَتْ عَلَى مَوْضِعِ الْبَيْتِ الْآنَ، فَلَمْ يَزَلْ يَطُوفُ بِهِ حَتَّى أَنْزَلَ اللهُ الطُّوفَانَ، فَرُفِعَتْ تِلْكَ الْيَاقُوتَةُ، حَتَّى بَعَثَ اللهُ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَبَنَاهُ، فَذَلِكَ قَوْلُ اللهِ ـ تَعَالَى: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ" الآيةَ. مُصَنَّفُ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيِّ: (5/91)، وتَفْسِيرُ "جَامِعُ البَيَانِ" للإمامِ الطَّبَرِيِّ: (2/551).
وَقَالَ الإِمَامُ، الحَافِظُ، شَيْخُ الإِسْلاَمِ، مَعْمَرُ بنُ رَاشِدٍ أَبُو عُرْوَةَ الأَزْدِيُّ مَوْلاَهُم: وَأَخْبَرَنِي أَبَانُ بْنُ تَغْلِبَ الرَّبَعِيُّ الكُوْفِيُّ أَنَّ الْبَيْتَ أُهْبِطَ يَاقُوتَةً وَاحِدَةً، أَوْ دُرَّةً وَاحِدَةً.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ مِنْ طَرِيقِ مُعَمَّرٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: وَضَعَ اللهُ الْبَيْتَ مَعَ آدَمَ حِينَ أَهْبَطَ اللهُ آدَمَ إِلَى الأَرْضِ ـ وَكَانَ مَهْبِطُهُ بِأَرْضِ الْهِنْدِ، وَكَانَ رَأْسُهُ فِي السَّمَاءِ وَرِجْلَاهُ فِي الأَرْضِ، وَكَانَتِ الْمَلَائِكَةُ تَهَابُهُ، فَنَقُصَ إِلَى سِتِّينَ ذِرَاعا، فَحَزِنَ آدَمُ إِذْ فَقَدَ أَصْوَاتَ الْمَلَائِكَةِ وَتَسْبيحَهُمْ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَى اللهِ، فَقَالَ اللهُ: يَا آدَمُ إِنِّي قَدْ أَهْبَطْتُ لَكَ بَيْتًا يُطَافُ بِهِ كَمَا يُطَافُ حَوْلَ عَرْشِي، وَيُصَلَّى عِنْدَهُ كَمَا يُصَلَّى عِنْدَ عَرْشِي، فَاخْرُجْ إِلَيْهِ. فَخَرَجَ إِلَيْهِ آدَمُ، وَمَدَّ لَهُ فِي خَطْوِهِ، فَكَانَ بَيْنَ كُلِّ خُطْوَتَيْنِ مَفَازَةٌ، فَلَمْ تَزَلْ تِلْكَ المَفَاوِزُ بَعْدُ عَلى ذَلِكَ، وَأَتَى آدَمُ فَطَافَ بِهِ، وَمَنْ بَعْدَهُ مِنَ الْأَنْبِيَاءِ.
وَأَخْرَجَ أَبُو الشَّيْخِ، وَابْنُ عَدِيٍّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، والدَّيْلَمِيُّ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ، عَنْ أُمِّ المُؤمنينَ السَّيِّدةِ عَائِشَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْها، أَنَّها قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، دُثِرَ مَكَانُ الْبَيْتِ، فَلَمْ يَحِجَّهُ هُودٌ وَلَا صَالِحٌ، حَتَّى بَوَّأَهُ اللهُ لِإِبْرَاهِيمَ.
والثَّانِيَةُ: بِنَاءُ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ، وابْنِهِ إسْماعيلَ ـ عَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، لَهَا بأَمْرٍ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، فقَد أَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ طَرِيقِ حَارِثَةَ بْنِ مُضَرِّبٍ العَبْدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنْ أَميرِ المُؤمنينَ عَليِّ بْنِ أَبي طَالِبٍ ـ كرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ، أَنَّهُ قَالَ: لَمَّا أُمِرَ إِبْرَاهِيمُ بِبِنَاءِ الْبَيْتِ، خَرَجَ مَعَهُ إِسْمَاعِيلُ وَهَاجَرُ ـ عَلَيْهِمُ السَّلامُ، فَلَمَّا قَدِمَ مَكَّةَ، رَأَى عَلَى رَأْسِهِ فِي مَوْضِعِ الْبَيْتِ مِثْلَ الغَمَامَةِ، فِيهِ مِثْلُ الرَّأْسِ، فَكَلَّمَهُ، فَقَالَ لَهُ: يَا إِبْرَاهِيمُ، ابْنِ عَلَى ظِلِّي، أَوْ عَلَى قَدْرِي، وَلَا تَزِدْ وَلَا تَنْقُصْ، فَلَمَّا بَنَى خَرَجَ وَخَلَّفَ إِسْمَاعِيلَ وَهَاجَرَ، وَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللهُ ـ تَعَالى: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ".
وقَالَ الإِمامُ مَعْمَرُ بْنُ رَاشِدٍ الأَزْدِيُّ ـ أَيْضًا: وَبَلَغَنِي أَنَّ سَفِينَةَ نُوحٍ طَافَتْ بِالْبَيْتِ سَبْعًا حِينَ أَغْرَقَ اللهُ قَوْمَ نُوحٍ، رَفَعَهُ اللهُ وَبَقِيَ أَسَاسُهُ فَبَوَّأَهُ اللهُ لِإِبْرَاهِيمَ، فَبَنَاهُ بَعْدَ ذَلِكَ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ ـ تَعَالَى جَدَّهُ في الآيةَ: 127، مِنْ سورةِ البقرة: {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ}، وقولُهُ هُنَا في هَذِهِ الآيةِ الكريمَةِ: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْراهيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ". تفسيرُ الإمامِ عبد الرَّزَّقِ الصَّنْعانِيِّ: (2/401).
وَقَالَ مُعَمَّرٌ ـ أَيْضًا: قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: قَالَ نَاسٌ: أَرْسَلَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ سَحَابَةً فِيهَا رَأْسٌ، فَقَالَ الرَّأْسُ: يَا إِبراهيم، إِنَّ رَبَّكَ يَأْمُرُكَ أَنْ تَأْخُذَ قَدْرَ هَذِهِ السَّحَابَةِ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَيْهَا، وَيَخُطَّ قَدْرَهَا، قَالَ الرَّأْس: قَدْ فَعَلْتَ؟. قَالَ إِبراهيمُ: نَعَم. ثُمَّ ارْتَفَعَتِ السَّحابَةُ، فَحَفَرَ، فَأَبْرَزَ عَنْ أَسَاسٍ ثَابِتٍ فِي الأَرْضِ.
وَقَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: قَالَ مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَقْبَلَ الْمُلْكُ وَالصَّرْدُ (البَرْدُ) وَالسَّكِينَةُ مَعَ إِبْرَاهِيمَ مِنَ الشَّامِ، فَقَالَتِ السَّكينَةُ: يَا إِبْرَاهِيمُ رِيضَ عَلَى الْبَيْتِ. قَالَ: فَلذَلِكَ لَا يَطُوفُ الْبَيْتَ أَعْرَابِيٌّ وَلَا مَلِكٌ مِنْ هَذِهِ الْمُلُوكِ إِلَّا رَأَيْتَ عَلَيْهِ السَّكِينَةَ وَالْوَقارَ.
قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَقَالَ ابْنُ الْمُسَيَّبٍ: قَالَ عَليُّ بْنُ أَبي طَالِبٍ ـ كرَّمَ اللهُ وجهَهُ: (وَكَانَ اللهُ اسْتَوْدَعَ الرُّكْنَ أَبَا قُبَيْسٍ، فَلَمَّا أَتَى إِبْرَاهِيمُ، نَادَاهُ أَبُو قُبَيْسٍ: يَا إِبْرَاهِيمُ، هَذَا الرُّكْنُ فِيَّ فَخُذْهُ، فَاحْتَفَرَ عَنْهُ فَوَضَعَهُ، فَلَمَّا فَرَغَ إِبْرَاهِيمُ مِنْ بِنَائِهِ. قَالَ: قَدْ فَعَلْنَا أَيْ رَبِّ فَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا، أَبْرِزْهَا لَنَا، عَلِّمْنَاهَا، فَبَعَثَ اللهُ جِبْرِيلَ ـ علَيْهِ السَّلامُ، فَحَجَّ بِهِ، حَتَّى أَتَى عَرَفَةَ فَقَالَ: قَدْ عَرَفْتُ ـ وَكَانَ قَدْ أَتَاهَا مَرَّةً قَبْلَ ذَلِكَ، فَلِذَلِكَ سُمِّيَتْ عَرَفَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ يَوْمُ النَّحْرِ، عَرَضَ لَهُ الشَّيْطَانُ فَقَالَ: احْصِبْ، فَحَصَبَ بِسَبْعِ حَصَيَاتٍ، ثُمَّ الْيَوْمَ الثَّانِي، وَالثَّالِثَ، فَسَدَّ مَا بَيْنَ الْجَبَلَيْنِ ـ يَعْنِي إِبْلِيسَ الْمَلْعُونَ، فَلِذَلِكَ كَانَ رَمْيُ الْجِمَارِ، قَالَ: اعْلُ عَلَى ثَبِيرٍ، فَعَلَاهُ، فَنَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: يَا عِبَادَ اللهِ، أَجِيبُوا اللهَ، يَا عِبَادَ اللهِ، أَطِيعُوا اللهَ، فَسَمِعَ دَعْوَتَهُ مَا بَيْنَ الْأَبْحُرِ السَّبْعِ مِمَّنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ إِيمَانٍ، فَهُوَ الَّذِي أَعْطَاهُ اللهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمَنَاسِكِ: قَوْلُهُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ، اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ". فَلَمْ يَزَلْ عَلَى وَجْهِ الْأَرْضِ سَبْعَةٌ مُسْلِمُونَ فَصَاعِدًا، فَلَوْلَا ذَلِكَ هَلَكَتِ الْأَرْضُ وَمَنْ عَلَيْهَا). قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: وَأَمَّا مُجَاهِدٌ، فَقَالَ: (عَلَا إِبْرَاهِيمُ مَقَامَهُ، فَقَالَ: يَا عِبَادَ اللهِ أَجِيبُوا اللهَ، يَا عِبَادَ اللهِ أَطِيعُوا اللهَ، فَمَنْ حَجَّ الْيَوْمَ فَهُوَ مِمَّنِ اسْتَجَابَ لِإِبْرَاهِيمَ يَوْمَئِذٍ فَهِيَ الَّتِي أَعْطَاهَا اللهُ إِبْرَاهِيمَ فِي الْمَنَاسِكِ قَوْلُهُ: "لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ"، ثُمَّ بَنَاهُ إِبْرَاهِيمُ. مُصَنَّفُ الإمامِ عَبْدِ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانِيِّ: (5/96).
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: إِنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ، أَمَرَ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، أَنْ يَبْنِيَ الْبَيْتَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ ـ عليهِما السَّلامُ، فَانْطَلق إِبْرَاهِيم حَتَّى أَتَى مَكَّة فَقَامَ هُوَ وَإِسْمَاعِيلُ، وَأَخَذَا المَعَاوِلَ لَا يَدْرِيانِ أَيْنَ الْبَيْتُ، فَبَعَثَ اللهُ رِيحًا يُقَالُ لَهَا رِيحُ الخَجُوجِ (السريعةُ المَتَلَوِّيَةُ)، لَهَا جَنَاحَانِ وَرَأْسٌ فِي صُورَةِ حَيَّةٍ، فَكَنَسَتْ لَهُمَا مَا حَوْلَ الْكَعْبَةِ مِنَ الْبَيْتِ الأَوَّلِ، واتْبَعَاهَا بِالْمَعَاوِلِ، يَحْفِرَانِ حَتَّى وَضَعَا الأَساَسَ. فَذَلِكَ حِينَ يَقُولُ اللهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى: "وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ"، فَلَمَّا بَنَيَا الْقَوَاعِدَ، فَبَلَغَا مَكَانَ الرُّكْنِ، قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِإِسْمَاعِيلَ: اطْلُبْ لِي حَجَرًا حَسَنًا أَضَعهُ هَهُنَا. قَالَ: يَا أَبَتِ إِنِّي كَسْلَانٌ لَغِبٌ. قَالَ: عَلَيَّ بِذَلِكَ.
فَانْطَلَقَ يَطْلُبُ لَهُ حَجَرًا، فَأَتَاهُ بِحَجَرٍ، فَلَمْ يَرْضَهُ فَقَالَ: ائْتِنِي بِحَجَرٍ أَحْسَنَ مِنْ هَذَا.
فَانْطَلَقَ يَطْلُبُ لَهُ حَجَرًا، فَجَاءَهُ جِبْرِيلُ بِالْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْجَنَّةِ. وَكَانَ أَبْيَضَ ياقُوتَةً بَيْضَاءَ مِثْلُ الثَّغَامَةِ (نباتٌ يكونُ في الجِبالِ يَبْيَضُّ إذا يَبِسَ)، وَكَانَ آدَمُ هَبَطَ بِهِ مِنَ الْجَنَّةِ، فاسْوَّدَّ مِنْ خَطَايَا النَّاسِ، فَجَاءَهُ إِسْمَاعِيلُ بِحَجَرٍ، فَوَجَدَهُ عِنْدَ الرُّكْنِ، فَقَالَ: يَا أَبَتِ مَنْ جَاءَكَ بِهَذَا؟ قَالَ: جَاءَنِي بِهِ مَنْ هُوَ أَنْشَطُ مِنْكَ.
فَبَيْنَمَا هُمَا يَدْعُوانِ بِالْكَلِمَاتِ الَّتِي ابْتَلَى بِهَا إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ، فَلَمَّا فَرَغَا مِنَ الْبُنْيانِ أَمَرَهُ اللهُ أَنْ يُنَادِي، فَقَالَ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ}.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ حَوْشَبِ بْنِ عَقِيلٍ، أَنَّهُ قَالَ: سَأَلْتُ مُحَمَّدَ ابْنَ عَبَّادِ بْنِ جَعْفَرٍ: مَتَى كَانَ الْبَيْت؟ قَالَ: خُلِقَتِ الْأَشْهُرُ لَهُ. قُلْتُ: كَمْ كَانَ طُولُ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ؟ قَالَ: ثَمَانِيَةَ عَشَرَ ذِرَاعًا. قُلْتُ: كَمْ هُوَ الْيَوْمَ؟ قَالَ: سِتَّةٌ وَعِشْرُونَ ذِرَاعًا: قُلتُ: هَلْ بَقِيَ مِنْ حِجَارَةِ بِنَاءِ إِبْرَاهِيمَ شَيْءٌ؟ قَالَ: حُشِيَ بِهِ الْبَيْتُ إِلَّا حَجَرَيْنِ مِمَّا يَلِيَ الْحَجَرَ.
وَالثَّالِثَةُ: بِنَاءُ قُرَيْشٍ لَهَا فِي الجَاهِلِيَّةِ قَبْلَ بِعْثَةِ سَيِّدِنا رَسُولِ اللهِ محمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، حَيْثُ اخْتَلَفُوا عَلَى مَنْ يَرْفَعُ الحَجَرَ الأَسْوَدَ إِلى مَكَانِهِ، قالَ محمَّدُ ابْنُ إِسُحاق: (حُدِّثْتُ أَنَّ قُرَيْشًا وَجَدُوا فِي الرُّكْنِ كِتَابًا بِالسُّرْيَانِيَّةِ، فَلَمْ يَدْرُوا مَا هُوَ حَتَّى قَرَأَهُ لَهُمْ رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، فَإِذَا هُوَ أَنَا اللهُ ذُو بَكَّةَ، خَلَقْتُهَا يَوْمَ خَلَقْتُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، وَصَوَّرْتُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ، وَحَفَفْتُهَا بِسَبْعَةِ أَمْلَاكٍ حُنَفَاءَ، لَا تَزُولُ حَتَّى يَزُولَ أَخْشَبَاهَا، مُبَارَكٌ لِأَهْلِهَا فِي الْمَاءِ وَاللَّبَنِ، قَالَ وَحُدِّثْتُ أَنَّهُمْ وَجَدُوا فِي الْمَقَامِ كِتَابًا فِيهِ: مَكَّةُ بَيْتُ اللهِ الْحَرَامُ يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ ثَلَاثَةِ سُبُلٍ، لَا يَحِلُّهَا أَوَّلُ مَنْ أَهَلَّهَا.
قَالَ ابْنُ إِسْحَاقَ ثُمَّ إِنَّ الْقَبَائِلَ مِنْ قُرَيْشٍ جَمَعَتِ الْحِجَارَةَ لِبِنَائِهَا، كُلُّ قَبِيلَةٍ تَجْمَعُ عَلَى حِدَةٍ، ثُمَّ بَنَوْهَا حَتَّى بَلَغَ الْبُنْيَانُ مَوْضِعَ الرُّكْنِ، فَاخْتَصَمُوا فِيهِ كُلُّ قَبِيلَةٍ تُرِيدُ أَنْ تَرْفَعَهُ إِلَى مَوْضِعِهِ دُونَ الْأُخْرَى، حَتَّى تَحَاوَرُوا وَتَخَالَفُوا وَاعْتَدُّوا لِلْقِتَالِ، فَقَرَّبَتْ بَنُو عَبْدِ الدَّارِ جَفْنَةً مَمْلُوءَةً دَمًا، ثُمَّ تَعَاهَدُوا هُمْ وَبَنُو عَدِيِّ بْنِ كَعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ عَلَى الْمَوْتِ، وَأَدْخَلُوا أَيْدِيَهُمْ فِي ذَلِكَ الدَّمِ فِي تِلْكَ الْجَفْنَةِ، فَسُمُّوا لَعَقَةُ الدَّمِ، فَمَكَثَتْ قُرَيْشٌ عَلَى ذَلِكَ أَرْبَعَ لَيَالٍ أَوْ خَمْسًا، ثُمَّ إِنَّهُمُ اجْتَمَعُوا فِي الْمَسْجِدِ، فَتَشَاوَرُوا وَتَنَاصَفُوا، فَزَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الرِّوَايَةِ أَنَّ أَبَا أُمَيْنَةَ بْنَ الْمُغِيرَةِ بْنِ عَبْدِ اللهِ بْنِ عُمَرَ بْنِ مَخْزُومٍ ـ وَكَانَ يَوْمَئِذٍ أَسَنَّ قُرَيْشٍ كُلِّهَا، فَقَالَ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ اجْعَلُوا بَيْنَكُمْ فِيمَا تَخْتَلِفُونَ فِيهِ أَوَّلَ مَنْ يَدْخُلُ عَلَيْكُمْ مِنْ بَابِ هَذَا الْمَسْجِدِ، يَقْضِي بَيْنَكُمْ فِيهِ، فَفَعَلُوا، فَكَانَ أَوَّلَ دَاخِلٍ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا رَأَوْهُ قَالُوا: هَذَا الْأَمِينُ، رَضِينَا، هَذَا مُحَمَّدٌ، فَلَمَّا انْتَهَى إِلَيْهِمْ أَخْبَرُوهُ الْخَبَرَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَلُمَّ إِلَيَّ ثَوْبًا، فَأُتِيَ بِهِ، فَأَخَذَ الرُّكْنَ فَوَضَعَهُ فِيهِ بِيَدِهِ، ثُمَّ قَالَ لِتَأْخُذْ كُلُّ قَبِيلَةٍ بِنَاحِيَةٍ مِنَ الثَّوْبِ، ثُمَّ ارْفَعُوهُ جَمِيعًا، فَفَعَلُوا، حَتَّى إِذَا بَلَغُوا بِهِ مَوْضِعَهُ، وَضَعَهُ هُوَ بِيَدِهِ، ثُمَّ بُنِيَ عَلَيْهِ، قَالَ: وَكَانَتْ قُرَيْشٌ تُسَمِّي رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِلَ عَلَيْهِ الْوَحْيُ: الْأَمِينَ. قَالَ: وَكَانَتِ الْكَعْبَةُ عَلَى عَهْدِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ثَمَانِيَ عَشْرَةَ ذِرَاعًا، كَانَتْ تُكْسَى الْقَبَاطِيَّ، ثُمَّ كُسِيَتِ الْبُرُودَ، وأَوَّلُ مَنْ كَسَاهَا الدِّيباجَ الحَجَّاجُ بْنُ يُوسُفٍ الثَّقفيُّ). التمهيد لما في المُوَطَّأِ مِنَ المَعَانِي وَالأَسَانِيدِ لأبي عُمَرَ القُرطُبيُّ: (10/45).
والرَّابِعَةُ: هِيَ بِنَاءُ عَبْدِ اللهِ ابْنِ الزُّبَيْرِ بْنِ العَوَّامِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمَا، لَهَا.
والخَامِسَةُ: بِنَاءُ الحَجَّاجِ بْنِ يُوسُفٍ الثَّقَفِيِّ لَهَا، وَهُوَ الَّذي مَا زَالَ قائمًا حَتَّى هذا الْيَوْمَ.
وَقِيلَ: "بَوَّأْنا" نَازِلَةٌ مَنْزِلَةَ فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِاللَّامِ، نَحْوَ "جَعَلْنَا"، والمعنى: جَعَلْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ مُبَوَّأً. وَمنه قَولُ الصَّحابيِّ الشَّاعِرِ الفارِسِ عَمْرِو بْنِ مَعْدي كَرِبَ الزُّبيْدِيِّ ـ رَضِي اللهُ تعالى عَنْهُ:
كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجِدٍ ............................... بَوَأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
والبيتُ مِنْ قصيدةٍ لهُ يقولُ فيها:
نَهْدًا وَذا شُطَبٍ يَقِدُّ الــ .......................... ـــبِيضَ وَالأَبْدَانَ قَدَّا
وَعَلِمْتُ أَنَّي يَومَ ذاكَ ............................... مُنَازِلٌ كَعْبًا وَنَهْدا
قوْمٌ إِذَا لَبِسُوا الحَديـــ ............................ ـــدَ تَنَزَّرُوا حِلَقًا وَقَدَّا
كُلُّ امْرِئٍ يَجْرِي إِلى ........................... يَوْمِ الهِيَاجِ بِمَا اسْتَعَدَّا
لَمَّا رَأَيْتُ نِسَاءَنَا .............................. يَفْحَصْنَ بالمِعْزَاءِ شَدَّا
وَبَدَتْ لَمِيسُ كَأَنَّهَا ............................ بَدْرُ السَّمَاءِ إِذَا تَبَدَّى
وَبَدَتْ مَحَاسِنُهَا الَّتِي ......................... تَخْفَى وَكَانَ الأَمْرُ جِدَّا
نَازَلْتُ كَبْشَهُمُ وَلَمْ ............................ أَرَ مِنْ نِزَالِ الكَبْشِ بُدَّا
هُمْ يَنْذُرُونَ دَمِي وأَنْــــ ........................ ــــذُرُ إِنْ لَقِيتُ بِأَنْ أَشُدَّا
كَمْ مِنْ أَخٍ لِي مَاجدٍ ............................... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
مَا إِنْ جَزِعْتُ وَلَا هَلِعْـــ ...................... ــتُ ولَا لَطَمْتُ عَلَيْهِ خَدَّا
أَلْبَسْتُهُ أَثْوابَهُ ... .......................... وَخُلِقْتُ يَوْمَ خُلِقْتُ جَلْدَا
ذَهَبَ الَّذينَ أُحِبُّهُمْ ......................... وَبَقِيتُ مِثْلَ السَّيْفِ فَرْدَا
قوْلُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} مَفَسِّرٌ لِقَوْلِهِ "بَوَّأْنَا"، والخِطَابُ لِسَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، في قراءةِ الجُمْهورِ، وَقُرِئَ: "أَنْ لَا يُشْرِكَ"، بِضَمِيرِ الغائِبِ الْيَاءِ، فَيَكُونُ المَعْنَى عَلَى نَقْلِ مَا قِيلَ لَهُ ورِوايتِهِ. وَعَلَيْهِ فَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ الْكَافِ، لِيَكونَ المَعْنَى "لِئَلَّا يُشْرِكَ بي شَيْئًا". وَقِيلَ بأَنَّ "أَنْ" هُنَا هِيَ المُخَفَّفَةُ مِنَ الثَّقِيلَةِ. وَقِيلَ هِيَ المُفَسِّرَةُ. وَقِيلَ: بَلْ هي زَائِدَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، فهوَ كقولِهِ مِنْ سورةِ يوسُفَ ـ عليْهِ السَّلام: {فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ} الآيةَ: 96.
وَفِيها طَعْنٌ عَلَى مَنْ أَشْرَكَ مِنْ سُكَّانِ الْبَيْتِ الحَرَامِ، أَيْ: كَانَ هَذَا الشَّرْطَ عَلَى أَبِيكُمْ فَمَنْ بَعْدَهُ، وَهو سارٍ عَلَيْكُمْ، فَلِمَاذا لَمْ تَفُوا بِعَهْدِ أَبِيكُمْ؟ بَلْ إِنَّكمْ فَعَلْتُمُ العَكْسَ فأَشْرَكْتُمْ بِرَبِّكمْ.
وَقَيلَ: إِنَّ الخَطابَ بِقَوْلِهِ: "أَنْ لَا تُشْرِكْ" ـ بحَسَبِ هَذِه القراءةِ مُتوَجَّهٌ بِهِ إِلَى سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما أُمِرَ أَيْضًا بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ الحرامِ، وَالْأَذَانِ في النَّاسِ بِالْحَجِّ إلَيْهِ.
قوْلُهُ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ} الْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّ هَذَا الخِطابَ مُوَجَّهٌ لِسَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَهُوَ الْأَصَحُّ. وَالمُرادُ بِتَطْهِيرِ الْبَيْتِ عَامٌّ فِيما كانَ سَائِدًا حَوْلَهُ مِنَ الْكُفْرِ باللهِ ـ تَعَالى، وَالْبِدَعِ، وَالدِّمَاءِ المَسْفوكةِ وَجَمِيعِ الْأَنْجَاسِ. وَقِيلَ: عَنَى بِهِ التَّطْهِيرَ عَنِ الْأَوْثَانِ، فيَكونُ كَقَولِهِ في الآيَةِ: 30، مِنْ هذِهِ السُّورةِ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ}، وَذَلِكَ أَنَّ جُرْهُمًا وَالْعَمَالِقَةَ كَانَتْ لَهُمْ أَصْنَامٌ داخِلَ الكَعْبَةِ وَحَوْلَها، قَبْلَ أَنْ يَرفعَ قواعِدَها سَيِّدُنا إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ. وَقِيلَ: الْمَعْنَى نَزِّهْ بَيْتِيَ عَنْ أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ أَحدٌ غَيْرِي مِنْ صَنَمٍ أَوْ غيرُهُ. فيكونُ هَذَا أَمْرًا لَهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، بِإِظْهَارِ التَّوْحِيدِ، ورفعِ كَلِمَتِهِ فِي البَيْتِ الحَرَامِ. عَلَيْهِ
قولُهُ: {وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} وَالْقَائِمُونَ هُمُ الْمُصَلُّونَ. فَقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْن الْمُنْذرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَطاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "للطائفين" قَالَ: الَّذينَ يَطُوفونُ بِهِ، وَ "القائمين" قَالَ: الْمُصَلِّينَ عِنْدَهُ.
وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ: "وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالقائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ" قَالَ: طَوَافُ قَبْلِ الصَّلَاةِ. وَقَدْ قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، الطَّوَافُ بِالْبَيْتِ بِمَنْزِلَةِ الصَّلَاةِ، إِلَّا أَنَّ اللهَ قَدْ أَحَلَّ فِيهِ الْمَنْطِقَ، فَمَنْ نَطَقَ فَلَا يَنْطِقْ إِلَّا بِخَيْرٍ.
أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ، وَابْنُ جريرٍ الطَّبَريُّ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، أَنَّهُ قَالَ: "القائمينَ" المُصَلِّينَ. وَقد ذَكَرَ اللهُ ـ تَعَالَى، مِنْ أَرْكَانِ الصَّلَاةِ أَعْظَمَها، وَهُوَ القِيَامُ وَالرُّكوعُ وَالسُّجُودُ. واللهُ أَعلمُ.
قولُه تَعالى: {وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَ "إِذْ" ظَرْفٌ لِمَا مَضَى مِنَ الزَّمَانِ، مُتَعَلِّقٌ بِمَحْذُوفٍ، والتَّقْديرُ: وَاذْكُرُوا إِذْ بَوَّأْنَا، وَالجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ. و "بَوَّأْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكُونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "لِإِبْرَاهِيمَ" اللامُ حَرفُ جَرٍّ لِلتَّعْلِيلِ، وَمَفْعُولُ "بَوَّأْنا" مَحْذوفٌ، أَيْ: بَوَّأْنَا النَّاسَ لِأَجْلِ إِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ. وَ "بَوَّأَ" جاءَ مُتَعَدِّيًا صَرِيحًا كَقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ} الآيةَ: 93، وقولِهِ مِنْ سُورةِ العَنْكُبُوتِ: {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا} الآيةَ: 58. وَمنْهُ قَوْلُ الشَّاعِرِ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبيْدِيِّ:
كَمْ مِنْ أَخٍ ليَ مَاجِدٍ ............................... بَوَّأْتُهُ بِيَدَيَّ لَحْدَا
وَقدْ تقدَّمَ في مَبْحَثِ التَّفْسيرِ. وَقيلَ: يَجُوزُ أَنْ تَكونَ مَزيدةً فِي المَفْعُولِ بِهِ. وَهُوَ قولٌ ضَعِيفٌ؛ لِأَنَّها لَا تُزَادُ إِلَّا إِنْ تَقَدَّمَ المَعْمُولُ، أَوْ كانَ العامِلُ فَرْعًا. وَقِيلَ: يجوزُ أَنْ تَكونَ مُعَدِّيَةً لِلْفِعْلِ عَلَى أَنَّهُ مُضَمَّنٌ مَعْنَى فِعْلٍ يَتَعَدَّى بِهَا، أَيْ: هَيَّأْنَا لَهُ مَكَانَ البَيْتِ، كَقَوْلِكَ: هَيَّأْتُ لَهُ بَيْتًا، فَتَكُونُ اللَّامُ مُعَدِّيَةً. قَالَ مَعْنَاهُ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَاذْكُرْ حِينَ جَعَلْنَا لَإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البَيْتِ مَبَاءَةً. فَفَسَّرَ المَعْنَى بِأَنَّهُ ضَمَّنَ "بَوَّأْنَا" مَعْنَى جَعَلْنا، وَلَا يُريدُ تَفْسيرَ الإِعْرَابِ. وَ "إِبْراهيمَ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَعَلامَةُ جَرِّهِ الفَتْحَةُ نِيابَةً عَنِ الكَسْرَةِ لأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرْفِ بالعَلَمِيَّةِ والعُجْمَةِ. وَ "مَكَانَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وَقَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُرِيُّ: يَجُوزُ "أَنْ يَكونَ ظَرْفًا". وَهُوَ مُمْتَنِعٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ ظَرْفٌ مُخْتَصٌّ فَحَقُّهُ أَنْ يَتَعَدَّى إِلَيْهِ بـ "فِي". وَهُوَ مُضافٌ، وَ "الْبَيْتِ" مَجْرُورٌ بِالْإِضَافَةِ إِلَيْهِ. وَالجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بِإِضَافَةِ "إِذْ" إِلَيْها.
قولُهُ: {أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا} أَنْ: قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: هِيَ المُفَسِّرَةُ، فَإِنْ قُلْتَ: كَيْفَ يَكونُ النَّهْيُ عَنِ الشِّرْكِ وَالأَمْرُ بِتَطْهِيرِ البَيْتِ تَفْسيرًا للتَّبْوِئَةِ؟ قُلْتُ: كَانَتِ التَّبْوِئَةُ مَقْصُودَةً مِنْ أَجْلِ العِبادَةِ، وَكَأَنَّهُ قِيلَ: تَعَبَّدْنَا إِبْراهِيمَ، قُلْنا لَهُ: لَا تُشْرِكْ. يَعْني أَنَّ "أَنْ" المُفَسِّرَةَ لَا بُدَّ أَنْ يَتَقَدَّمَهَا مَا هُوَ بِمَعْنَى القَوْلِ لَا حُروفِهِ، وَلَمْ يَتَقَدَّمْ إِلَّا التَّبْوِئَةُ، وَلَيْسَتْ بِمَعْنَى القَوْلِ، فَضَمَّنَها مَعْنَى القَوْلِ، ولا يُريدُ بِقَوْلِهِ قُلْنا: لَا تُشْرِكْ "تفسيرُ الإِعْرابِ بَلْ تَفسيرُ المَعنى؛ لأَنَّ المفسِّرةَ لا تُفسِّرُ القولَ الصَّريحَ. وقالَ العُكْبُريُّ: تقديرُه: قائِلينَ لَهُ: لا تشركْ فـ "أَنْ" مُفَسِّرةٌ للقولِ المُقدَّرِ. وقال ابنُ عطيَّةَ: هِيَ المخفَّفةُ من الثقيلةِ، وفيه نظرٌ من حيث إِنَّ "أَنْ" المخفَّفةَ لا بُدَّ أَنْ يتقدَّمَها فعلُ تحقيقٍ أَوْ ترجيحٍ، كحالِها إذا كانَتْ مشدَّدةً. وقيلَ: هِيَ المَصْدَرِيَّةُ الَّتي تَنْصِبُ المُضَارِعَ، وَهِيَ تُوْصَلُ بِالماضي والمُضارعِ والأَمْرِ، وَالنَّهْيُ كَالْأَمْرِ. وَعَلى هَذَا فَتكونُ "أَنْ" مَجْرُورةً بِلَامِ العِلَّةِ المُقَدَّرَةِ، أَيْ: بَوَّأَنَاهُ لِئَلَّا تُشْرِكَ. وَعَلى هَذَا الوَجْهِ فَقد كانَ مِنْ حَقِّ اللَّفْظِ أَنْ يَكونَ: "أَن لَّا يُشْرِكَ" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وَقُرِئَ بِذَلِكَ. قَالَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ: وَقَوَّى ذَلِكَ قِرَاءَةُ مَنْ قَرَأَهُ بالياءِ، يَعْنِي مِنْ تَحْتُ. وَوَجُهُ قِرَاءَةِ العامَّةِ عَلَى هَذَا التَّخْريجِ أَنْ تَكونَ الْتِفَاتًا مِنَ الغَيْبَةِ إِلَى الخِطَابِ.
وقيلَ: هِيَ النَّاصِبَةُ، وَمَحلُّها الجَرُّ بِاللامِ أَيْضًا. إِلَّا أَنَّ اللَّامَ مُتَعَلِّقَةٌ بِمَحْذوفٍ، أَيْ: فَعَلْناهُ ذَلِكَ لِئَلَّا تُشْرِكَ، فَجَعَلَ النَّهْيَ صِلَةً لَهَا. وَقَوَّى ذَلِكَ قِراءَةُ الياءِ. قَالَهُ أَبُو العُكْبُريُّ، وَالأَصْلُ عَدَمُ التَّقْديرِ مَعَ عَدَمِ الاحْتِياجِ إِلَيْهِ.
وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو نُهَيْكٍ: "أَن لَّا يُشْرِكَ" بالياءِ. قَالَ الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ: عَلَى مَعْنَى: أَنْ يَقُولَ مَعْنَى القَوْلِ الذي قِيلَ لَهُ. وقالَ أَبُو حَاتِمٍ: وَلَا بُدَّ مِنْ نَصْبِ الكَافِ عَلَى هَذِهِ القِرَاءَةِ بِمَعْنَى "لِئَلَّا تُشْرِكَ". كَأَنَّهُ لَمْ يَظْهَرْ لَهُ صِلَةٌ "أَنْ" المَصْدَرِيَّةِ بِجُمْلَةِ النَّهْيِ. فَجَعَلَ "لا" نَافِيَةً، وَسَلَّطَ "أَنْ" عَلى المُضَارِعِ بعدَها، حَتَّى صَارَ عِلَّةً للفْعْلِ قَبْلَهُ. وَهَذَا غَيْرُ لَازِمٍ لِمَا تَقَدَّمَ لَكَ مِنْ وُضُوحِ المَعْنَى مَعَ جَعْلِهَا نَاهِيَةً. وَ "لَا" نَاهِيَةٌ جَازِمَةٌ، و "تُشْرِكْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَجْزُومٌ بِـ "لَا" النَّاهِيَةِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "بِي" الباءُ حَرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُشْرِكْ"، وَياءُ المُتَكَلِّمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصَلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "شَيْئًا" مَفْعُولٌ بِهِ لِـ "تُشْرِكْ" مَنْصوبٌ بِهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ، عَلَى كَوْنِها مَقُولَ القولِ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقديرُ: قَائِلِينَ لَهُ: لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا، وَيَصِحُّ أَنْ تَكُونَ "أَنْ" هيَ المُفَسِّرَة، لِوُقُوعِهَا بَعْدَ قَوْلٍ مُقَدَّرٍ؛ أَيْ: قَائِلِينَ أَن لَّا تُشْرِكَ، وقد تقدَّمَ.
قولُهُ: {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ} الوَاوُ: حرفُ جَرٍّ، و "طَهِّرْ" فِعْلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ وجوبًا تقديرُهُ (أَنتَ) يَعُودُ عَلَى سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. و "بَيْتِيَ" مَفْعُولُهُ منْصوبٌ بِهِ، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الفَتْحَةُ المُقدَّرَةُ عَلَى آخِرِهِ لانْشِغَالِ المَحَلِّ بِالحَرَكَةِ المُنَاسِبَةِ لِيَاءِ المُتَكَلِّمِ، وَهُوَ مُضافٌ، وَياءُ المُتكَلِّمِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ. و "لِلطَّائِفِينَ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "طَهِّرْ"، و "الطَّائفينَ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، وعلامةُ جَرِّهِ الياءُ لأنَّهُ جمعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ. وَ "الْقَائِمِينَ" مَعْطوفٌ عَلَى "الطائفينَ" مجرورٌ مِثْلُهُ. و "الرُّكَّعِ" معطوفٌ عليهِ أَيْضًا مجرورٌ مِثْلُهُ. و "السُّجُودِ" صِفَةٌ لِـ "الرُّكَّعِ" مَجرورةٌ مِثلُهُ. وَالأَوْلَى أَنْ تُجْعَلَ الكَلِمَتَانِ، بِمَثَابَةِ الكَلِمَةِ الوَاحِدَةِ؛ لِأَنَّهُما في حقيقتِهِما عَمَلَانِ في عَمَلٍ وَاحِدٍ، وَهُوَ الصَّلاة. وَالجُمْلَةُ مَعْطوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "لَا تُشْرِكْ" عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِقَوْلٍ مَحْذُوفٍ.
قَرَأَ العَامَّةُ: {أَنْ لا تُشْركَ} وَهوَ الْتِفَاتٌ مِنَ الغَيْبَةِ إِلَى الخِطَابِ. وَقَرَأَ عِكْرِمَةُ، وَأَبُو نُهَيْكٍ: "أَن لَّا يُشْرِكَ" بِيَاءِ الغَيْبَةِ، وقدْ تقدَّمَ التوجيهُ في مبحثِ الإعرابِ.