الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ
(41)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} وَصْفٌ للمُؤمِنينَ المَظْلُومِينَ الَّذينَ تَحَدَّثتْ عَنْهُمُ الآياتُ السَّابِقَةُ، الَّذينَ سَمَحَ اللهُ لَهُمْ أَنْ يُقاتِلُوا المُشْركينَ دِفَاعًا عَنْ أَنْفُسِهِمْ، وَأَهْلِيهمْ، وَأَمْوالِهِمْ، وَمُعْتَقَدَاتِهِمْ، وَدِينِهِمْ، وَمَعابدِهم، ومُقَدَّسَاتِهِمْ. فَوَصَفَهُمْ هُنَا بأَنَّهُمُ إِذَا مَكَنَّ اللهُ لَهُمْ فِي الأَرْضِ، وَحَقَّقَ لَهُمُ النَّصْرَ عَلَى المُشْرِكِينَ، وَكَانَتْ لَهُمُ الغَلَبَةُ عَلَى أَعْدَائهِمُ الظَّالِمِينَ، وَكانَتِ العَاقِبَةُ لَهُمُ، وصارتْ مَقَالِيدُ الأُمُورِ إِلَيْهِمْ، عَمِلُوا بِأَمْرِ اللهِ وَمَا يُرْضِيهِ، وَابْتَعَدُوا عَمَّا فِيهِ سَخَطُهُ، وَاجْتَنُبوا مَا نَهَاهُم عَنْهُ، وَحَذَّرَهُمْ مِنْ سُوءِ مَآلِهِ وَعَاقِبَتِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ أَبِي الْعَالِيَةَ الرّياحِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ" قَالَ: هُمْ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ" قَالَ: هُمُ الْوُلَاةُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ" قَالَ: أَرْضِ الْمَدِينَةِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ"، قَالَ: هَذَا شَرْطُ اللهِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
قَوْلُهُ: {أَقامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكاةَ} أَقَامُوا الصَّلاَةَ: أَيْ أَدَّوْهَا حَقَّ أَدَائِهَا، باستيفاءِ شُرُوطِهَا وَأَرْكَانِهَا وَوَاجِبَاتِهَا، وحضورِ القلْبِ فِيها، كَمَا أَدَّاها رسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، بِحَسَبِ اسْتِطاعتِهِمْ، وَدَفَعُوا زَكَاةَ أَمْوَالِهِمْ إِلَى مُسْتَحِقِّها كَمَا حَدَّدَهَا الشَّرْعُ الشَّريفُ. والمُلَاحَظُ في القرآنِ الكَريمِ أَنَّ ألأَمْرَ بإقامةِ الصَّلَاةِ يَعْقُبُهُ دائمًا الأمْرُ بإقامةِ الزَّكاةِ، ذَلِكَ لأنَّ الصَّلاةَ صِلَةٌ بَيْنَ العَبْدِ وَرَبِّهِ، وَالزَّكاةَ صِلَةٌ لرابِطَةِ الأخوَّةِ بيْنَ الإنْسَانِ وَأَخِيهِ الإِنْسَانِ، وَفِي الصَّلَاةِ تَقْوِيَةٌ لِعَلاقَةِ المُؤْمِنِ باللهِ مَوْلَاهِ، وَإِصْلَاحٌ لنَفسِهِ وطَهَارَةٌ لَهَا، وأَمَّا الزَّكاةُ فَفِيهَا تَقْوِيَةُ الرَّوَابِطِ الاجْتَمَاعِيَّةِ بَيْنَ أَفْرَادِ المُجْتَمَعِ الواحِدِ، وَصَلَاحُ شُؤونِ المُجْتمعِ، وَهَذَا هُوَ الإسْلامُ في حقيقتِهِ صْلَاحٌ للفَرْدِ وَالْمُجْتَمَعِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بِنِ
أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلَهِ: "أَقَامُوا الصَّلَاةَ" قَالَ: الْمَكْتُوبَةَ. و "آتَوُا الزَّكَاةَ" قَالَ: الْمَفْرُوضَةَ.
قوْلُهُ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} أَمَرُوا بالمَعْرُوفِ، فَحَثُّوا النَّاسَ عَلَى فِعْلِ الخَيْرِ وَمَا فيهِ صَالِحُ أَمْرِهِمْ، وَرِضَا رَبِّهمْ عَنْهُمْ، وَنَهَوْا العاصِينَ المُتَجَاوِزِينَ عَلَى حُدُودِ اللهِ عَمَّا يأتونَ مِنْ المُنْكَرِ، وما يَفِعْلونَ مِمَّا يُغْضِبُ رَبَّ العالَمينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بِنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلَهِ: "وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ" بِـ "لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ. و "نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ" قَالَ: الشِّرْكِ بِاللهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَن أَبِي الْعَالِيَةَ الرّياحيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ، قَالَ: كَانَ أَمْرُهُم بِالْمَعْرُوفِ أَنَّهُمْ دَعَوْا إِلَى اللهِ وَحْدَهُ، وَعِبَادَتُهُ لَا شَريكَ لَهُ، وَكَانَ نَهْيُهُمْ أَنَّهُمْ نَهَوْا عَنْ عِبَادَةِ الشَّيْطَانِ، وَعِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
قولُهُ: {وَللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} فَيجْزِي كُلَّ وَاحِدٍ عَلَى عَمَلِهِ. لِأَنَّ المَرْجِعَ فِي نِهَايَةِ المَطَافِ إِلَيْهِ، وَعِنْدَهُ حِسَابُ جَميعِ الخَلْقِ، فيجْزي المُحْسِنَ عَلَى إِحْسَانِهِ، والمُسِيءَ عَلَى إِسَاءتِهِ.
فاسْتَبْشِرْ أَخي المُؤمِنَ فَإِنَّ عَاقِبَةَ لِرَبِّكَ إِلَى رَبِّكَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيم، ومنتهى أَمْرِكَ إلى ربِّ العالمينَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ زَيْدِ بِنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلَهِ: "وَللهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ" قَالَ: وَعِنْدَ اللهِ ثَوَابُ مَا صَنَعُوا.
قولُهُ تَعَالى: {الَّذِينَ} الَّذِينَ: اسمٌ مَوْصولٌ بَدَلٌ مِنَ {الَّذِينَ} الَّذي قَبْلَهُ، أَوْ نَعْتٌ ثَانٍ لِـ {الَّذِينَ} الأُولَى، أَوْ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، أَوْ بَدَلٌ مِنْ {مَنْ} المَوْصُولَةِ فِي قَوْلِهِ: {مَنْ يَنْصُرُهُ}؛ أَيْ: لَيَنْصُرَنَّ اللهُ الَّذينَ هُمْ إِنْ مَكَنَّاهُمْ. فَيَجُوزُ فيهِ كلُّ مَا جَازَ فِي المَوْصُولِ قَبْلَهُ، ويَزِيدُ عَلَيْهِ: بِأَنْ يَجُوزَ أَنْ يَكُونَ بَدَلًا مِنْ {مَنْ يَنْصُرُه} كما قالَ أَبو إسحاقٍ الزَّجَّاجُ، أَيْ: ولَيَنْصُرَنَّ اللهُ الَّذي إِنْ مَكَّنَّاهم. وَالْجُمْلَةُ الشَّرْطِيَّةُ بِأَسْرِهَا صِلَةُ المَوْصُولِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب.
قولُهُ: {إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ} إِنْ: حَرْفُ شَرْطٍ جازِمٌ. و "مَكَّنَّاهُمْ" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمُ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" الشَّرطيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ على المَفْعُولِيَّةِ، والميمُ للجمعِ المُذكَّر. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "مَكَّنَّا"، و "الْأَرْضِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ.
قولُهُ: {أَقامُوا الصَّلاةَ} أَقَامُوا: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ
بواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ هي الفارِقَةُ. وَ "الصَّلاةَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "إِنْ" عَلَى كَوْنِها جَوَابَ شَرْطٍ لَهَا، وَجُمْلَةُ "إِنْ" الشَّرْطِيَّةِ مِنْ فعلِ شَرْطِها وجوابِهِ صِلَةُ المَوْصُولِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {وَآتَوُا الزَّكاةَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "آتَوُا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصَالِهِ بِوَاوِ الجَماعَةِ، وعلامةُ الضَّمِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَواوُ الجَماعَةِ هَذِهِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ، في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ هِيَ الفَارِقَةُ. وَ "الزَّكَاةَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في محلِّ الجَزمِ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "أَقَامُوا".
قوْلُهُ: {وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ} الوَاوُ: حرفُ عطْفٍ، و "أَمَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ هي الفارِقَةُ. و "بِالْمَعْرُوفِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَمَرُوا"، وَ "المعروفِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَزمِ أَيْضًا وذلكَ عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَقَامُوا".
قَوْلُهُ: {وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ} وَنَهَوْا: الوَاوُ: للعَطْفِ، و "آتَوُا" فِعْلٌ
ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لِاتِّصَالِهِ بِوَاوِ الجَماعَةِ، وعلامةُ الضَّمِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهِ عَلَى الأَلِفِ، وَواوُ الجَماعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ الفارِقَةُ. "عَنِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نَهُوا"، وَ "المَنْكَرِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَزمِ أَيْضًا عَطْفًا عَلَى جُمْلَةِ "أَقَامُوا".
قولُهُ: {وَللهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ} الوَاوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، وَ "للهِ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، و "عَاقِبَةُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤَخَّرٌ، وَهوَ مُضافٌ. و "الْأُمُورِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرَابِ.