ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)
قوْلُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ} ذَلِكَ: اسْمُ إِشَارَةٍ للْبَعِيدِ أُوثِرَ على اسْمِ الإشارةِ (هَذَا) الَّذي يُسْتَعْمَلُ للقريبِ، فالإشارةُ إلى البَعِيدِ لِلدَّلَالَةِ عَلَى بُعْدِ المَكَانَةِ وَالْمَنْزِلَةِ، كِنَايَةً عَنْ تَعْظِيمِ مَضْمُونِ مَا قَبْلَهُ. وَقَدْ جِيءَ بِه لِلْفَصْلِ بَيْنَ وَجْهَيْنِ مِنْ الكَلَامٍ، بِقَصْدِ الِاهْتِمَامِ بِمَا سَيُذْكَرُ بَعْدَهُ. فإنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، لَمَّا ذَكَرَ آنِفًا بَهِيمَةَ الْأَنْعَامِ وَتَعْظِيمَ حُرُمَاتِ اللهِ ـ تعالى، أَعْقَبَ ذَلِكَ بِإِبْطَالِ مَا حَرَّمَهُ الْمُشْرِكُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَهُوَ مِنْ أَسَالِيبِ الِاقْتِضَابِ فِي الِانْتِقَالِ. وَفي العَرَبيةِ يُسْتَعْمَلُ لِهَذَا الغَرَضِ (هَذَا) أَوْ (ذَلِكَ)، كَمَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ (ص): {هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ} الآيَةَ: 55، وَمِثْلُهُ قَوْلُ زُهَيْرِ بْنِ أَبي سُلْمَى بَعْدَ أَنْ تَقَدُّمَ جُمَلٌ فِي وَصْفِ هَرِمَ بْنِ سِنَانٍ:
هَذَا وَلَيْسَ كَمَنْ يَعْيَا بِخُطْبَتِهِ ............ وَسْطَ النَّدِيِّ إِذَا مَا قَائِلٌ نَطَقَا
وكثيرًا مَا يَسْتَعْمِلُ الكُتَّابُ هَذَا الأُسْلوبَ إِذَا أَرَادَوا الانتقالَ مِنْ مَوضوعٍ إِلَى آخَرَ، أَوِ الخَوْضَ فِي مَعْنًى آخَرَ.
وَالْحُرُمَاتُ: جَمْعُ "حُرُمَةٍ" ـ بِضَمَّتَيْنِ: وَهِيَ مَا يَجِبُ احْتِرَامُهُ. وَالِاحْتِرَامُ: اعْتِبَارُ الشَّيْءِ ذَا حَرَمٍ وعَدَمِ انْتِهَاكِهِ بِمُخَالَفَةِ أَمْرِ اللهِ ـ تعالى فِي شَأْنِهِ وما يَخُصُّهُ. وَتشْمَلُ الْحُرُمَاتُ كُلَّ مَا أَوْصَى اللهُ بِتَعْظِيمِ أَمْرِهِ ومنْ ذَلِكَ مَنَاسِكَ الْحَجِّ كُلَّهَا.
رُوِيَ عَنْ زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ الْحُرُمَاتِ خَمْسٌ وهيَ: الْمَسْجِدُ الْحَرَامُ، وَالْبَيْتُ الْحَرَامُ، وَالْبَلَدُ الْحَرَامُ، وَالشَّهْرُ الْحَرَامُ، وَالْمُحْرِمُ مَا دَامَ مُحْرِمًا. أَخْرَجَهُ عَنْهُ ابْنُ جَريرٍ. فَقدْ قَصْرُهُ عَلَى الذَّوَاتِ دُونَ الْأَعْمَالِ. لَكِنَّ ظاهِرَ الآيَةِ الكَريمةِ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَدَايَا وَالْقَلَائِدَ وَالْمَشْعَرَ الْحَرَامَ وَغَيْرَ ذَلِكَ مِنْ أَعْمَالِ الْحَجِّ، كَالْغُسْلِ فِي مَوَاقِعِهِ، وَالْحَلْقِ وَمَوَاقِيتِهِ وَمَنَاسِكِهِ، كلُّ ذلكَ مَشْمولٌ بها ومعدودٌ مِنَ الحُرُماتِ. فقد أَخْرَجَ ابْنُ أَبِي شَيْبَةَ وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ"، قَالَ: الْحُرُمَاتُ: الْحَجُّ، وَالْعمْرَةُ، وَمَا نَهَى اللهُ عَنْهُ مِنْ مَعَاصِيهِ كُلِّهَا.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ أَيْضًا عَنْ عَطاءٍ وَعِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُما قالا: "ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ"، الْمعاصِي.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ، وابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ مَاجَةَ، وابْنُ أبي عاصِمٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عَيَّاشِ بْنِ أَبي رَبيعَةَ المَخْزُومِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَقُولُ: ((لَا تَزَالُ هَذِهِ الْأُمَّةُ بِخَيْرٍ مَا عَظَّمُوا هَذِهِ الْحُرْمَةَ حَقَّ تَعْظِيمِهَا فَإِذَا تَرَكُوهَا وَضَيَّعُوهَا هَلَكُوا)). مُسْنَدُ الإمامِ أَحْمَدٍ: (4/347، رقم: 19259)، ومُصَنَّفُ ابْنِ أَبي شَيْبَةَ: (3/268، برقم: 14090)، وابْنُ مَاجَةَ: (3110)، و (الآحادُ وَالمَثاني) لابْنِ أَبي عاصِمٍ: (2/20، رقم: 689).
قوْلُهُ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} أَي: فإِنَّ تَعْظيمَ حُرُماتِ اللهِ مَجْلبَةٌ للخَيْرِ عِنْدَ اللهِ تَعَالَى، فَتَعْظِيمُ المَرْءِ حُرُمَاتِ اللهِ خَيْرٌ كُلُّهُ، وهذا كَقَوْلِهِ تَعَالى مِنْ سُورةِ المائدةِ: {اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ للتَّقْوَى} الآيةَ: 8، وَظاهرُ: "خيرٌ" هُنَا التَّفْضِيلُ.
قوْلُهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} أَيْ: أَحَلَّ اللهُ لكمْ أَنْ تأْكُلوا مِنْ لُحومِ الأنْعامِ كلِّها إِلَّا ما سَوَفَ يذكُرُهُ فيما بعدُ.
فيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذَا الاسْتِثْنَاءُ مُتَّصِلًا، فَيُصْرَفُ إِلَى مَا حَرَّمَ اللهُ مِنْ بَهِيمَةِ الأَنْعَامِ لِسَبَبٍ عَارِضٍ كَالْمَوْتِ وَنَحْوِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُنْقَطِعًا؛ إِذْ لَيْسَ فِيهَا مُحَرَّمٌ.
قوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ: اتْرُكُوهُ، وَابْتَعِدُوا عَنْهُ، وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ"، يَقُولُ: اجْتَنِبُوا طَاعَةَ الشَّيْطَان فِي عِبَادَةِ الْأَوْثَانِ.
و "اجْتَنِبوا" مُشْتَقٌّ مِنَ الجَنْبِ، وَالجَانِبِ: وهوَ النَّاحِيَةُ، وَكَذَلِكَ الجَنَبَةُ. وَجَانَبَهُ وَتَجَانَبَهُ، وَتَجَنَّبَهُ واجْتَنَبَهُ كُلُّهُ ذلكَ بِمَعْنَى. وَرَجُلٌ أَجْنَبِيُّ، وَأَجْنَبُ، وَجَنَبٌ وَجانِبٌ كُلُّهُ بِمَعْنَى أَيْضًا. وَجَنَبْتُ الدَّابَّةَ، وَالأَسِيرَ جَنَبًا. وَجَنَبْتُهُ الشَّيْءَ وَجَنَّبْتُهُ: نَحَّيْتُهُ عَنْهُ. قَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ إبراهيم: {وَاجْنُبْني وَبَنيَّ أنْ نَعبدَ الأصنامَ} الآيةَ: 35. والجَنَابُ، مَا قَرُبَ مِنْ مَحَلَّةِ القَوْمِ؛ والجمع أجْنِبَةٌ. يُقَالُ: أَخْصَبَ جَنَابُ القَوْمِ، وَهوَ خَصيبُ الجَنابِ، وجَديبُ الجَنابِ. وجَنَابَيْ الرَّجُلِ، نَاحِيَتَيْهِ. وَفَرَسٌ طَوْعُ الجِنَابِ بِكَسْرِ الجِيم، أَيْ سَلِسُ القِيادِ. وَجنَّبَ القَوْمُ: قَلَّتْ أَلْبَانُ إِبِلِهِمْ. ومنهُ قَولُ الجُمَيْحِ بِنِ مُنْقِذٍ في امْرَأَتِهِ:
لَمَّا رَأَتْ إِبِلِي قَلَّتْ حَلُوبَتُهَا .............. وَكُلُّ عَامٍ عَلَيْهَا عَامُ تَجْنِيبِ
والتَجْنِيبُ والتَّحْنِيبُ أَيْضًا: انْحِنَاءٌ وَتَوتِيرٌ فِي رِجْلِ الفَرَسِ، وَهُوَ
صِفَةٌ مُسْتَحَبٌّ فيها. قَالَ أَبُو دُؤَادٍ الإيادِيُّ:
وَفِي اليَدَيْنِ إِذَا مَا المَاءُ أَسْهَلَهَا ........ ثَنْيٌ قَليلٌ وَفِي الرِجْلَيْنِ تَجْنِيبُ
وَقالَ الأَصْمَعِي: التَّحْنِيبُ فِي الفَرَسِ: انْحِنَاءٌ وَتَوْتِيرٌ فِي الصُلْبِ
واليَدَيْنِ، فإِذَا كانَ ذَلِكَ فِي الرَّجُلِ فَهُوَ التَّجْنِيبُ بالجِيمِ. ومِنْ ذلكَ قَولُ طَرَفَةَ بْنِ العَبْدِ:
وكَرِّي إِذَا نَادَى المُضَافُ مُحَنَّبًا ........... كَسيدِ الغَضَى نَبَّهْتَهُ المُتَوَرِّدِ
وَقَالَ أَبُو عُبَيْدٍ: المُحَنَّبُ: البَعِيدُ مَا بَيْنَ الرِّجْلَيْنِ مِنْ غَيْرِ فَحَجٍ، وَهُوَ مَدْحٌ. وَتَحَنَّبَ فُلانٌ، أَيْ تَقَوَّسَ وَانْحَنَى.
وَالجَنِيبُ: الغَريبُ. وَجَنَبَ فَلانٌ فِي بَنِي فُلانٍ يَجْنُبُ جَنَابَةً، إِذَا نَزَلَ فِيهم غَريبًا، فهوَ جانِبٌ، والجَمْعُ جُنَّابٌ. قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ:
فَلَا تَحْرِمَنِّي نائِلًا عنْ جَنَابَةٍ ............ فإِنِّي امْرُؤٌ وَسْطَ القِبَابِ غَرِيبُ
فقولُهُ "عَنْ جَنَابةٍ": أَي: عَنْ بُعْدِ. والجَنْبَةُ: جِلْدةٌ مِنْ جَنْبِ البَعِيرِ. ويقولونَ نَزَلَ فُلانٌ جَنْبَةً، أَيْ نَاحِيَةً وَاعْتَزَلَ النَّاسَ. وَرَجُلٌ جُنُبٌ مِنَ الجَنَابَةِ، يَسْتَوي فِيهِ الوَاحِدُ والجَمْعُ والمُذَكَّرُ وَالمُؤَنَّثُ، ويُجْمَعُ على أَجْنَابٍ وَجُنُوبُونَ. وَأَجْنَبَ الرَّجُلُ وَجَنُبَ بِمَعْنَى. وَالجَنُوبُ: رِيحٌ تُقَابِلُ الشَّمُولَ. وَجَنَبَتِ الرِّيحُ: تَحَوَّلَتْ جَنُوبًا. وَالمَجْنُوبُ: الذي بِهِ ذَاتُ الجَنْبِ، وَهِيَ قَرْحَةٌ تُصِيبُ الإِنْسانَ دَاخِلَ جَنْبِهِ. وَالمِجْنَبُ بالكَسْرِ:
التُرْسُ. والمَجْنَبُ، بالفتح: الشَّيْءُ الكَثيرُ.
وَ "الرِّجْس": حَقِيقَتُهُ الْخُبْثُ وَالْقَذَارَةُ، قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 145، مِنْ سُورَةِ الْأَنْعَامِ: {قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللهِ بِه}.
وَالرِّجْسُ في اللُّغَةِ: القَذَرُ، والنَّجاسَةُ، ورَجُسَ الشَّيْءُ، يَرْجُسُ رَجاسَةً، وإِنَّهُ لَرِجْسٌ مَرْجُوسٌ، أَي: نَجِسٌ، وَكُلُّ قَذَرِ رِجْسٌ، وَالرَّجَاسَةُ والنَّجَاسَةُ وَفِيما أخرجَهُ الطَّبَرِيُّ وغيرُهُ مِنْ حَديثِ أَبي أُمامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ إِذَا دَخَلَ الْخَلَاءَ: ((اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الرِّجْسِ النَّجِسِ الْخَبِيثِ الْمُخْبِثِ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)). (جَامِعُ البَيَانِ) لَه: (9/552)، وأخرجَهُ أَيْضًا ابْنُ مَاجَهْ: (1/109، رَقَم: 299)، وَالطَّبَرانِيُّ: (8/210، رقم: 7849). وَقَدْ يُعَبَّرُ بِهِ عَنِ الكُفْرِ، واللَّعْنَةِ، وَالحَرَامِ، وَالفِعْلِ القَبيحِ، وَالعَذَابِ. وَقَالَ الزَّجَّاجُ: الرِّجْسُ اللَّعْنَةُ فِي الدُّنْيَا، وَالعَذَابُ فِي الآخِرَةِ. والرَّجْسُ بالفتحِ شِدَّةُ الصَّوْتِ، وَرِجْسُ الشيطان وَسْوَسَتُه، والرَّجْسُ، وَالرَّجْسَةُ، والرَّجَسانُ، والارْتِجاسُ: صَوْتُ الشَّيْءِ المُخْتَلِطِ العَظيمِ، كالجَيْشِ وَالسَّيْلِ وَالرَّعْدِ، يُقَالُ: رَجَسَ، يَرْجُسُ، رَجْسًا فَهُوَ رَاجِسٌ، ورَجَّاسٌ، وَسَحَابٌ وَرَعْدٌ رَجَّاسٌ: شَديدُ الصَّوْتِ. قالَ العجَّاجُ الرَّاجِزُ:
وَكُلُّ رَجَّاسٍ يَسُوقُ الرُجَّسا .............. مِنَ السُيُولِ والسَّحابِ المُرَّسَا
يَعْنِي الَّتِي تَمْتَرِسُ الأَرَضَ فَتَجْرُفُ مَا عَلَيْهَا. وَبَعِيرٌ رَجَّاسٌ، وَمِرْجَسٌ: أَيْ شَديدُ الهَديرِ، وَنَاقَةٌ رَجْسَاءُ الحَنِينِ مُتَتَابِعَتُهُ، وَقالَ أَيْضًا:
يَتْبَعْنَ رَجْسَاءَ الحَنِينِ بَيْهَسَا ............... تَرَى بأَعْلى فَخِذَيْهَا عَبَسَا
مِثْلَ خَلُوقِ الفَارِسِيِّ أَعْرَسَا
وَ "الأوثانُ" جَمْعُ وَثَنٍ، وَهُوَ الصَّنَمُ، ويُجْمَعُ أَيْضًا على: وُثْنٍ. قَالَ ابْنُ الأَثيرِ: الفَرْقُ بَيْنَ "الوَثَنِ" و "الصَّنَمِ" أَنَّ الوَثَنَ كُلُّ مَا لَهُ جُثَّةٌ مَعْمُولَةٌ مِنْ جَوَاهِرِ الأَرْضِ أَوْ مِنَ الخَشَبِ وَالحِجَارَةِ، كَصُورَةَ الآدَمِيِّ تُعْمَلُ وتُنْصَبُ فتُعْبَدُ، والصَّنَمُ الصُّورَةُ بِلَا جُثَّةٍ، وَمِنْهُم مَنْ لَّمْ يُفَرِّقْ بَيْنَهُمَا.
وَقَدْ يُطْلَقُ الوَثَنُ عَلَى غَيْرِ الصُّورَةِ، وَالجَمْعُ: "أَوْثانٌ"، و "وُثُنٌ" و "وُثْنٌ" و "أُثُنٌ" عَلَى إِبْدالِ الهَمْزَةِ مِنَ الواوِ. قَالَ عَدِيُّ بْنُ حاتمٍ الطَّائيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَدِمْتُ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي عُنُقِي صَلِيبٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَقَالَ لِي: ((أَلْقِ هَذَا الوَثَنَ عَنْكَ)) أَرَادَ بِهِ الصَّلِيبَ. ثُمَّ قَرَأَ: {اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللهِ}، قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ مَا كُنَّا نَعْبُدُهُمْ. قَالَ: ((أَلَيْسَ كَانُوا يُحِلُّونَ لَهُمْ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْهِمْ فَيُحِلُّونَهُ وَيُحَرِّمُونَ عَلَيْهِمْ مَا أَحَلَّ اللهُ لَهُمْ فَيُحَرِّمُونَهُ؟. قَالَ: فَتِلْكَ عِبَادَتُهُمْ))؛ أَحْكَامُ القُرْآنِ للجَصَّاصِ: (3/412)، عَوْنُ المَعْبُودِ شَرْح سُنَنِ أَبي دَاوُدَ: (ج: 7/ص: 297).كَمَا سَمَّاهُ الأَعْشَى وَثَنًا في قَوْلِهِ:
يَطوفُ العِبَادُ بِأَبْوَابِهِ ..................... كَطَوْفِ النَّصَارَى ببَيْتِ الوَثَنْ
ووُثِنَتِ الأَرْضُ مُطِرَتْ. وَاسْتَوْثَنَت الإِبلُ نَشَأَت أَوْلادُها مَعَهَا، وَاسْتَوْثَنَ النَّحْلُ، صَارَ فِرْقَتَيْنِ كِبَارًا وَصِغَارًا، وَاسْتَوْثَنَ المَالُ: كَثُرَ، وَاسْتَوثَنَ مِنَ المَالِ اسْتَكْثَرَ مِنْهُ. وَالواثِنُ: الثابِتُ الدائِمُ، والمُقيمُ، الرَّاكِدُ، وَالثابِتُ. وَقَدْ وَثَنَ في المكانِ: أَقامَ فيهِ، قَالَ رُؤْبَةُ:
أَمْطَرَ فِي أَكْنَافِ غَيْنٍ مُغْيِنِ .................. عَلَى أَخِلَّاءِ الصَّفاءِ الوُثَّنِ
وَوَصْفُ الْأَوْثَانِ بِالرِّجْسِ لأَنَّهَا رِجْسٌ مَعْنَوِيٌّ لِكَوْنِ اعْتِقَادِ إِلَهِيَّتِهَا فِي النُّفُوسِ بِمَنْزِلَةِ تَعَلُّقِ الْخُبْثِ بِالْأَجْسَادِ، فَإِطْلَاقُ الرِّجْسِ عَلَيْهَا هوَ مِنَ التَشْبِيهِ البَلِيغِ.
قوْلُهُ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الزَّورُ: الكَذِبُ، يَأَمُرُ اللهُ ـ تَعَالَى، عِبادَهُ بِاجْتِنَابِ الْكَذِبِ عَلَى اللهِ بِأَنْ يَقَوْلوا لِبَعْضِ الْمُحَرَّمَاتِ هَذَا حَلالٌ، كالدَّمِ الذي حَرَّمَهُ اللهُ، وَمَا أُهِّلَ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ، وَقَوْلِ بعْضِهِمْ لِبَعْضٍ: هَذَا حَرامٌ. قَالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّحلِ: {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللهِ الْكَذِبَ} الآيةَ: 116.
وَأَخْرَجَ الأَئِمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَيْمَنَ بْنِ خُرَيْمٍ بْنِ فاتِكٍ الأسديِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: قَامَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَطِيبًا، فَقَالَ: ((يَا أَيُّهَا النَّاسُ عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ إِشْرَاكًا بِاللهِ، ثَلَاثًا، ثُمَّ قَرَأَ: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ". المسند الإمامِ أَحْمَدٍ: (4/178، رقم: 17747) والتِّرْمِذِيّ: (2299).
وَفي رِوَايَةٍ أُخْرَى لِخُرَيْمٍ قَالَ ـ صَلَّى رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، صَلَاةَ الصُّبْحَ، فَلَمَّا انْصَرفَ قَائِمًا قَالَ: عَدَلَتْ شَهَادَةُ الزُّورِ الْإِشْرَاكَ بِالله ثَلَاثًا، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ". أَخْرَجَهُ أَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَأَبو دَاوُد، وَابْنُ ماجَةَ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الإيمانِ). المعجَمُ الكبيرُ للطَّبرانيِّ: (4/209).
وَأَخْرَجَ الأئمَّةُ: أَحْمَدُ، وَالْبُخَارِيُّ، وَمُسْلِمٌ، وَالتِّرْمِذِيُّ، عَن أَبِي بَكْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَال: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَلَا أُنَبِّئُكُمْ بِأَكْبَرِ الْكَبَائِرِ؟. قُلْنَا: بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ. قَالَ: ((الْإِشْرَاكُ بِاللهِ وَعُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ ـ وَكَانَ مُتَّكِئًا فَجَلَسَ، فَقَالَ: أَلَا وَقَوْلُ الزُّورِ، أَلَا وَشَهَادَةُ الزُّورِ)). فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا حَتَّى قُلْنَا لَيْتَهُ سَكَتَ. مُسْنَدُ أَحْمَد: (5/36، رقم: 20656)، وصحيحُ البُخَارِي: (3/225، برقم: 2654) وصحيحُ مُسلم: (1/64، رقم: 172)، وسُنَن التِّرمِذيِّ: (1901 و 2301 و 3019).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَالْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، والخَرَائِطِيُّ، فِي مَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ، وَالْبَيْهَقِيُّ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: شَهَادَةُ الزُّورِ تعْدَلُ بِالشِّرْكِ بِاللهِ ثُمَّ قَرَأَ: "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَاجْتَنبُوا قَوْلِ الزُّورِ"، يَعْنِي الافْتِراءَ عَلَى اللهِ، وَالتَّكْذيبَ بِهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلٍ ـ رضيَ اللهُ عَنْهُ: "وَاجْتَنبُوا قَوْلَ الزُّورِ"، يَعْنِي الشِّرْكَ بِالْكَلَامِ، وَذَلِكَ أَنَّهمْ كَانُوا يَطُوفونَ بِالْبَيْتِ، فَيَقُولُونَ فِي تَلْبِيَتِهِمْ: لَبَّيْكَ لَا شَريكَ لَكَ إِلَّا شَرِيكًا هُوَ لَكَ تَمْلُكُهُ وَمَا مَلَكَ.
قوْلُهُ تَعَالى: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ} ذَلِكَ: "ذا" اسْمُ إِشَارَةٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، والتَّقْديرُ: الأَمْرُ والشَّأْنُ ذَلِكَ المَذْكُورُ، أَوْ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ، وَالخَبَرُ مَحْذُوفٌ؛ والتقديرُ: ذَلِكَ الأَمْرُ الذي ذَكَرْتُهُ. وَقِيلَ: هوَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِفعلٍ مَحْذُوفٍ، والتقدير: امْتَثِلُوا ذَلِكَ. اللامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ. وَعَلَى كُلِّ الأَحوالِ فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٍ مبنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ: وَخَبَرُه جُمْلَةُ الشَّرْطِ، أَوْ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا مَعًا. و "يُعَظِّمْ" فِعْلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ: (هو)، يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "حُرُماتِ" مَفعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامَةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ نيابةً عَنِ الفتْحَةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤنَّثِ السَّالِمُ، وهوَ مُضافٌ. ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ.
قوْلُهُ: {فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} فَهُوَ: الفاءُ: رَابِطَةٌ لِجَوَابِ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ وُجُوبًا، و "هُوَ" ضَمِيرُ فَصلٍ عَائِدٌ إِلَى التَّعْظِيمِ الْمَأْخُوذِ مَنْ فِعْلِ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ، مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ. و "خَيْرٌ" خَبَرُهُ مَرْفوعٌ. و "لَهُ" اللامُ: حرفُ جرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ "خَيْرٌ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "عِنْدَ" مَنْصوبٌ على الظّرْفِيَّةِ الاعتباريَّةِ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ محذوفَةِ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي "خَيْرٌ"؛ أَيْ: حَالَ كَوْنِهِ مُدَّخَرًا لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ، وهوَ مُضافٌ، وَ "ربِّهِ" اسمٌ مجرورٌ بالإضافةِ إليْهِ مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إليْهِ، وهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ في مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ عَلَى كَوْنِهَا جَوَابًا لَهَا، وَجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ هَذِهِ جُملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ لَيْسَ لَهَا مَحَلَّ مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ، أَوْ عَاطِفَةٌ، وَ "أُحِلَّتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مُغَيَّرُ الصِيغَةِ (مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ). والتَّاءُ السَّاكنةُ للتأْنيثِ، و "لَكُمُ" اللَّامُ: حَرْفُ جَرِّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أُحِلَّ"، وكافُ الخطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ. و "الْأَنْعَامُ" مرفوعٌ بالنِّيابَةِ عَنْ فَاعِلِهِ، والجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهِ جملةٌ مُسْتَأْنَفَة لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، وَيجوزُ أَنْ تكونَ مَعْطُوفَةً عَلى الجُمْلَةِ الَّتي قَبْلَهَا.
قوْلُهُ: {إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ، تقدَّمَ الحديثُ عنها في مَبْحَثِ التَّفسيرِ. و "مَا" اسْمٌ مَوْصُولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الاسْتِثْنَاءِ. و "يُتْلَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، ونائبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلى "مَا". و "عَلَيْكُمْ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُتْلَى"، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ لتذْكيرِ الجمعِ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ "ما" المَوْصُولةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ} الفاءُ: هيَ الفَصِيحَةُ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ والتَّقْديرُ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّ تَعْظِيمَ حُرُمَاتِ اللهِ خَيْرٌ لِمَنْ عَظَّمَهَا، وَأَرَدتُّمْ بَيَانَ مَا هُوَ اللَّازِمُ لَكُمْ؟ فَأَقُولُ لَكُمْ اجْتَنِبُوا الرَّجْسَ. وَ "اجْتَنِبُوا" فعلُ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ عَلَى حَذْفِ النُّونِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ. و "الرِّجْسَ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِحَالٍ مِنَ "الرِّجْسَ"، وَ "مِنَ" بَيَانِيَّةٌ لِبيانِ الجِنْسِ فهي هُنا لبَيَانِ مُجْمَلِ الرِّجْسِ، فَتَدْخُلُ عَلَى بَعْضِ أَسْمَاءِ التَّمْيِيزِ بَيَانًا لِلْمُرَادِ، ولَيْسَ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ الرِّجْسَ هُوَ عَيْنُ الْأَوْثَانِ بَلِ الرِّجْسُ أَعَمُّ أُرِيدَ بِهِ هُنَا بَعْضُ أَنْوَاعِهِ، وَهُوَ مَشْهُورُ قَوْلِ المُعْرِبِينَ، وَيَتَقَدَّرُ بِقَوْلِكَ: الرِّجْسُ الَّذي هُوَ الأَوْثان. وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ الابْتِدائيَّةَ لِابْتِدَاءِ الغايَةِ. وَقَدْ خَلَطَ أَبُو البَقَاءِ القَوْلَيْنِ فَجَعَلَهُما قَوْلًا وَاحِدًا فَقَالَ: وَ "مِنْ" لِبَيَانِ الجِنْسٍ، أَيْ: اجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنْ هَذَا القَبيلِ، وَهُوَ بِمَعْنَى ابْتِداءِ الغَايَةِ هَهُنا. يَعْنِي أَنَّهُ فِي المَعْنَى يَؤُولُ إِلَى ذَلِكَ، وَلَا يَؤُولُ إِلَيْهِ البَتَّةَ. ويجوزُ أَنْ تكونَ للتَّبْعِيضِ. وَقَدْ غَلَّطَ ابْنُ عَطِيَّةَ القائلَ بِكَوْنِهَا للتَّبْعِيضِ، فَقَالَ: وَمَنْ قَالَ: إِنَّ "مِنْ" للتَّبْعيضِ فَقَدْ قَلَبَ مَعْنَى الآيَةِ فَأَفْسَدَهُ. وَقَدْ يُمْكِنُ التَّبْعِيضُ فِيهَا: بِأَنْ يَعْني بالرِّجْسِ عِبَادَةَ الأَوْثانِ. وَبِهِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ، وابْنُ جُرَيْجٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فَكَأَنَّهُ قَالَ: فَاجْتَنِبُوا مِنَ الأَوْثَانِ الرِّجْسَ وَهُوَ العِبَادَةُ؛ لِأَنَّ المُحَرَّمَ مِنَ الأَوْثانِ إِنَّما هُوَ العِبَادَةُ أَلَا تَرَى أَنَّهُ قَدْ يُتَصَوَّرُ اسْتِعْمَالُ الوَثَنِ فِي بِنَاءٍ وَغِيْرِهِ مِمَّا لَمْ يُحَرِّمِ الشَّرْعُ اسْتِعْمَالَهُ، وَلِلْوَثَنِ جِهَاتٌ مِنْهُا عِبادَتُها، وَهِيَ بَعْضُ جِهَاتِهَا. قالَهُ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ. وَهُوَ تَأْويلٌ بَعيدٌ. و "الأَوثانِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولٌ لِجَوَابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ. وَجُمْلَةُ "إذا" المُقَدَّرَةِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعراب، وَقِيلَ الفاءُ: تَفْريعُ عَلَى قَوْلِهِ: {وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللهِ}.
قوْلُهُ: {وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ} الواوُ: للعَطْفِ، وَ "اجْتَنِبُوا" معطوفٌ على "اجْتَنِبُوا" الأَوَّلُ وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. و "قَوْلَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَهوَ مُضافٌ. و "الزُّورِ" مَجرورٌ بالإضافَةِ إِلَيْهِ. والجُمْلةُ مَعْطُوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ "فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ".