أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ
(65)
قوْلُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} أَيْ: أَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، جَعَلَّ جميعَ مَا فِي الأَرضِ مِنْ أَحْيَاءَ وأَشْيَاءَ وجماداتٍ، مُعَدًّا لِمَنْفَعَتِكُمْ، مُسَهَّلًا مُذَلَّلًا مُيِسَّرًا لَكُمْ، تَتَصَرَّفُونَ فِيهِ كَيْفَ شِئْتُمْ، لِتَسْتَعِينُوا بِهِ إِعْمارِ هَذا الكَوْنِ وَدَيْمُومَةِ حَيَاتِكمْ فِيهِ، واسْتِمْرَارِها، وتَحْسِينِ ظُروفِها.
قوْلُهُ: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} والفَلْكُ مِنْ هَذِهِ الجَمَادَاتِ المُسَخَّرَةِ للإنْسانِ، وَتَسْخِيرُها بِتَعْلِيمِهِ كَيْفِيَّةَ صُنْعِهَا، وتَسْخِيرِ الرِّياحَ لإبْحارِهَا وجَرْيِها، وَتسْخيرِ المَاءِ لِيَحْمِلَهَا مَعَ مَا عَلى ظَهْرِهَا مِنْ أَثقالٍ قَدْ تبلُغُ أَحيانًا مِئَاتِ آلَافِ الأَطْنَانِ مِنْ ركَّابٍ وَبَضَائِعَ. وهوَ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤُهُ، الحامِلُ حقيقةً، قالَ ـ تَعَالَى في الآيةِ: 11، مِنْ سُورَةِ الحاقَّة: {إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ}، وَإِنَّمَا هيَ حكمتُهُ ـ تَعَالَى، الَّتِي قَضَتْ بأَنْ يَجْعَلَ في هَذِهِ الحياةِ أَسْبابًا، وأَنْ تَظْهَرَ أفعالُهُ بمخلوقاتِهِ، وكأَنَّها هِيَ الفَاعَلَةِ، فيُبرِزَ دوْرَ الإيمانِ بهِ فاعِلًا في هذا الوُجودِ الذي خَلَقَهُ، ويَمْتازَ المُؤمنُ بهِ بالجزاءِ الأَوْفَى يَوْمَ القِيامَةِ.
فَكَمَا سَخَّرَ لَكمُ رَبُّكم الدَّوَابَّ في البرِّ مِنْ خَيْلٍ وَبِغالٍ وَحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا، كذلكَ سَخَّرَ لكمُ السُّفنَ في البَحْرِ، لِتَيْسيرِ نَشَاطَاتِكُمْ وَأَسْفَارِكُمْ وَحَرَكَةِ حَيَاتِكُمْ. قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ النَّحْلِ: {وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ * وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ * وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ} الآياتِ: (5 ـ ، وَكَقَوْلِهِ مِنْ سُورَةِ يَس: {وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ} الآيتانِ: (41 ـ 42). وفي هَذِهِ الآياتِ المُبَارَكاتِ إِلْماحٌ إِلَى مَا كانَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْ مَرْكباتٍ مُتَعَدِّدَةٍ للنَّقْلِ البَرِّيِّ، مِنْ قطاراتٍ وَسَيَّاراتِ وَوَسَائطَ مُختلفةٍ، وَمَا سَيَكُونُ إِلَى أَنْ يَرِثَ اللهُ ـ تَعَالَى، الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، كَمَا قالَ: {وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
وَ "بِأَمْرِهِ" المُرادُ بالأَمْرُ هُنَا هُوَ أَمْرُ التَّكْوِينِ، إِذْ جَعَلَ الْبَحْرَ صَالِحًا لِحَمْلِهَا، وَأَوْحَى إِلَى نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، مَعْرِفَةَ صُنْعِهَا، ثُمَّ تَتَابَعَ إِلْهَامُ الصُّنَّاعِ لِزِيَادَةِ إِتْقَانِ صناعَتِهَا.
قوْلُهُ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ} كَانَتْ تِلْكَ بَعْضُ نِعَمِهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى، الَّتي امْتَنَّ بِهَا عَلَى عِبَادِهِ في البَرِّ والْبَحْرِ، وَفِي هَذِهِ الجملةِ العَظيمةِ يُذَكِّرُنا مَوْلَانَا العَظيمُ ـ جَلَّ جَلالُهُ، بِجَانِبٍ مِنْ نِعَمِهِ عَلَيْنَا فِي السَّمَاءِ. كَقَوْلِهِ ـ تَبَارَكَ وتَعَالى مِنْ سُورةِ الحِجْرِ: {وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ} الآيةَ: 17، وقولِهِ مِنْ سُورةِ الجاثيةِ: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الآيةَ: 13.
وَالْإِمْسَاكُ: ضِدُّ الْإِلْقَاءِ، والإمساكُ أَيْضًا: الشَّدُّ. وأَمْسَكَ عنِ الشَّيْءِ: كفَّ عنهُ وامتنعَ، وأَمْسَكَ الشَّيءَ بيدِهِ: قبضَ عَلَيْهِ، وأمْسَكَ الغيثُ: توقَّف، وتَمَسَّكَ بدينِهِ: حافظَ عليهِ والتزمَ تَعَالِيمَهُ، وتمسَّكَ برأْيِهُ: تعصَّبَ لَهُ، وَمَسَكَ الشَّيءَ: تعلَّقَ بِهِ وأَخَذَ بِهِ واعتصَمَ. والإمساكُ: احتباسُ الفَضَلَاتِ في الأمعاءِ، والإمساكُ: البُخْلُ، والإمْساكُ في رمضانَ: الامتناعُ والتَّوَقُّفُ عنِ الطعامِ والشَّرابِ وَغَيْرِهِ مِنَ المُفطِّراتِ كَمَا هوَ معلومٌ، والمِسْكُ: الجِلْدُ ويجمعُ على مُسوكٍ، والمِسْكُ أَيْضًا مِنْ أنواعِ الطِّيبِ ويؤْخَذُ مِنَ الغزلانِ. وقولُهُ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ الأحزابِ: {أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَك} الآيةَ: 37، يعني: دعْها على ذِمَّتِكَ ولا تُطلِّقْها. وَقولُهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيما رَواهُ أَميرُ المُؤمنينَ عُمَرُ بْنُ الخَطَّابِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: ((إِني أُمْسِكُ بحُجَزكُمْ هَلُمَّ عَنِ النَّارِ وَتَقاحَمُونَ فِيهَا تَقَاحُمَ الفَراشِ والجنادِبِ ..)). أَخرَجَهُ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ: (6/309، رقم: 31678)، وابْنُ أَبي عاصمٍ في السُّنَّةِ: (2/346، رقم: 744). وأخرجهُ أيْضًا أَبُو يَعَلَى المَوصِلِيُّ في مُسْنَدِهِ، والرَّامَهُرْمُزِيُّ في الأَمْثَالِ، والشِّهابُ القُضاعِيُّ في مُسندِهِ. وَقَدْ ضُمِّنَ مَعْنَى الْمَنْعِ هُنَا وَفِي قَوْلِهِ تَعَالَى منْ سُورَةِ فَاطِر: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا} الآيةَ: 41، فَيُقَدَّرُ حَرْفُ جَرٍّ لِتَعْدِيَةِ فِعْلِ الْإِمْسَاكِ بَعْدَ هَذَا التَّضْمِينِ فَيُقَدَّرُ (عَنْ) أَوْ (مِنْ). وَمُنَاسَبَةُ عَطْفِ إِمْسَاكِ السَّمَاوَاتِ عَلَى تَسْخِيرِ مَا فِي الْأَرْضِ، وَتَسْخِيرِ الْفُلْكِ لِلإنْسانِ، هِيَ أَنَّ إِمْسَاكَ السَّمَاءِ عَنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ ضَرْبٌ مِنَ التَّسْخِيرِ أَيْضًا، لِمَا فِي عَظَمَةِ الْمَخْلُوقَاتِ السَّمَاوِيَّةِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَغَلُّبِهَا عَلَى الْمَخْلُوقَاتِ الْأَرْضِيَّةِ، وَحَطْمِهَا إِيَّاهَا، لَوْلَا مَا قَدَّرَ اللهُ ـ تَعَالَى، لِكُلِّ نَوْعٍ مِنْهَا مِنْ سُنَنٍ وَنُظُمٍ تَمْنَعُ مِنْ تَسَلُّطِ بَعْضِهَا عَلَى بَعْضٍ، كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورَةِ يَس: {لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} الآيةَ: 40. فَكَمَا سَخَّرَ اللهُ لِلنَّاسِ مَا ظَهَرَ عَلَى وَجْهِ الأَرْضِ سَخَّرَ لَهُمْ ما فِي السَّماءِ أَيضًا، وذلكَ بِأَنْ لا يُفْعَلُ فيها أَوْ مِنْ قِبَلِهَا، أَوْ مِنْ قِبَلِ سُكانِها مَا يَضُرُّ بِالإنْسَانِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لفظُ السَّماءِ في قولِهِ "وَيُمْسِكُ السَّماءَ" بِمَعْنَى مَا قَابَلَ الْأَرْضَ، فَيَكُونُ شَامِلًا لِلْعَوَالِمِ الْعُلْوِيَّةِ كُلِّهَا الَّتِي لَا نُحِيطُ بِعِلْمِهَا، ولا نَعْلمُ شَيئًا عَنْها، كَالْكَوَاكِبِ السَّيَّارَةِ وَغَيْرِهَا مِمَّا لَا يَعْلَمُ بِهِ سِوَى اللهِ ـ تَعَالَى، وَمَا قد يَكْشِفُهُ لِلنَّاسِ فِي قَادمِ الْأَزْمَانِ. ووُقُوعُهَا عَلَى الْأَرْضِ، يَعْني سُقُوطَها، أَوْ سُقُوطَ شَيْءٍ مِنْهَا. فَقد رَفَعَ اللهُ السَّمَاءَ بِقُدْرَتِهِ، وَأَمْسَكَهَا بقوَّتِهِ، وَمَنَعَهَا بِلُطْفِهِ مِنْ أَنْ تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، وَلَوْ شَاءَ لأَذِنَ لَهَا فَسَقَطَتْ عَلَيْهَا فَدَمَّرَتْها وَأَهْلَكَتْ مَنْ فِيهَا.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ لَفْظُ السَّمَاءِ قَدْ أُطْلِقَ عَلَى جَمِيعِ الْمَوْجُودَاتِ الْعُلْوِيَّةِ الَّتِي يَشْمَلُهَا لَفْظُ السَّماءَ الَّذِي هُوَ مَا عَلَا الْأَرْضَ فَأُطْلِقَ عَلَى مَا يَحْوِيهِ، كَمَا أُطْلِقَ لَفْظُ الْأَرْضِ عَلَى سُكَّانِهَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سورةْ الرَّعْد: {أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها} الآيةَ:41. فَاللهُ يُمْسِكَ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الشُّهُبِ وَمِنْ كُرَيَّاتِ الْأَثِيرِ وَالزَّمْهَرِيرِ عَنِ اخْتِرَاقِ كُرَةِ الْهَوَاءِ، وَيُمْسِكُ مَا فِيهَا مِنَ الْقُوَى كَالْمَطَرِ وَالْبَرَدِ وَالثَّلْجِ وَالصَّوَاعِقِ مِنَ الْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ وَالتَّحَكُّكِ بِهَا إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ فِيمَا اعْتَادَ النَّاسُ إِذْنَهُ بِهِ مِنْ وُقُوعِ الْمَطَرِ وَالثَّلْجِ وَالصَّوَاعِقِ وَالشُّهُبِ وَمَا لَمْ يَعْتَادُوهُ مِنْ تَسَاقُطِ الْكَوَاكِبِ. وَأَنَّهُ لَوْ شَاءَ لَأَذِنَ لَها فَسَقَطَتْ عَلَى الْأَرْضِ فَأَهْلَكَتْ مَنْ عَلَيْهَا، كَمَا قَالَ في الآيةِ: 9، مِنْ سورةِ سَبَأ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ}، وَقَدْ أَشَارَ ـ تباركَ وَتَعَالَى، إِلى هَذَا الْمَعْنَى فِي غَيْرِ هَذَا الْمَوْضِعِ أَيْضًا مِنْ كِتَابِهِ العَزِيزِ، فقَالَ في الْآيَةَ: 32، منْ سُورَةِ الأَنْبِيَاءِ: {وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا}. وَقَالَ منْ سُورَةِ سَبَأ: {إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ} الآيةَ: 9. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ فَاطِر: {إِنَّ اللهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ} الآيةَ: 41، وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الذَّارِياتِ: {وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ} الآيةَ: 47. وَقَالَ: {وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا} الآيةَ: 12، مِنْ سُورةِ النَّبَأ.
وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ، يَدُلُّ دَلَالَةً وَاضِحَةً، عَلَى أَنَّ مَا يَزْعُمُهُ مَلَاحِدَةُ الْكَفَرَةِ، وَمَنْ قَلَّدَهُمْ مِنْ مَطْمُوسِي الْبَصَائِرِ مِمَّنْ يَدَّعُونَ الْإِسْلَامَ أَنَّ السَّمَاءَ فَضَاءٌ لَا جُرْمٌ مَبْنِيٌّ، أَنَّهُ كُفْرٌ وَإِلْحَادٌ وَزَنْدَقَةٌ، وَتَكْذِيبٌ لِنُصُوصِ الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللهِ ـ تَعَالَى.
فَيَكُونُ مُوقِعُ وَيُمْسِكُ السَّماءَ بَعْدَ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، هُنَا: "وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ" كَمَوْقِعِ قَوْلِهِ منْ سُورةِ الجاثيةِ: {اللهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّماواتِ وَما فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ} الْآيَتانِ: (12 و 13). فَيَكُونُ الْمَعْنَى: أَنَّ اللهَ بِعِلْمِهِ وَتَدْبِيرِهِ وَقُدْرَتِهِ قد جَعَلَ لِلسَّمَاءِ نِظَامًا يَمْنَعُهَا مِنَ الْخُرُورِ عَلَى الْأَرْضِ، وَعَليْهِ فقَوْلُهُ "وَيُمْسِكُ السَّماءَ" امْتِنَانٌ عَلَى النَّاسِ بِأَنْ سَلَّمَهُمْ مِمَّا يُفْسِدُ حَيَاتَهُمْ.
وَقَوْلُهُ: "إِلَّا بِإِذْنِهِ" إِلاَّ بِمَشِيئَتِهِ، ويكونُ ذَلِكَ يَوْمَ القيامَةِ، وَالْإِذْنُ: قَوْلٌ يُطْلَبُ بِهِ فِعْلُ شَيْءٍ، وَقدِ اسْتُعِيرَ هُنَا لِلْمَشِيئَةِ الإلهِيَّةِ وَالتَّكْوِينِ، وَهُمَا مُتَعَلِّقُ الْإِرَادَةِ وَالْقُدْرَةِ. فإنَّهُ ـ سُبحانَهُ وَتَعَالى، سَخَّرَ كلَّ مَا في الْأَرْضِ مِنْ مَوْجُودَاتٍ ـ مَعَ مَا فِي طَبْعِ كَثِيرٍ مِنْهَا مِنْ مُقْتَضَيَاتِ إِتْلَافِ الْإِنْسَانِ، كَمَا سَخَّرَ لَهُمُ الْأَحْوَالَ الَّتِي تَبْدُو لِلنَّاسِ مِنْ مَظَاهِرِ الْأُفُقِ مَعَ كَثْرَتِهَا وَسِعَتِهَا وَتَبَاعُدِهَا، وَمَعَ مَا فِي تِلْكَ الْأَحْوَالِ مِنْ مُقْتَضَيَاتِ تَعَذُّرِ الضَّبْطِ، كَذَلِكَ سَخَّرَ لِمَصْلَحَةِ النَّاسِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ مِنَ الْمَوْجُودَاتِ بِالْإِمْسَاكِ الْمُنَظَّمِ الْمَنُوطِ بِمَا قَدَّرَهُ اللهُ كَمَا أَشَارَ إِلَيْهِ قَوْلِهِ: "إِلَّا بِإِذْنِهِ" أَيْ: إلَّا بِتَقْدِيرِهِ.
وَفي هَذَا رَدٌّ واضِحٌ للقولِ بِاسْتِمْسَاك الأَجْرامِ السَّماويَّةِ بِذَاتِها، فإنَّها مُسَاوِيَةٌ فِي الجِسْمِيَّةِ لِسَائِرِ الأَجْسَامِ القابِلَةِ لِلْمَيْلِ الهابِطِ، وإذًا فَهِيَ تَقْبَلُهُ كما يَقْبَلهُ غَيْرِهَا. وفي هَذا احْتِرَاسٌ جُمِعَ فيهِ بَيْنَ الامْتِنَانِ بالسَّلامةِ وَالتَّخْويفِ مِنْ أَنَّ مِثْلَ ذَلِكَ الخَطَرِ مُمْكِنٌ إِذَا أَذِنَ اللهُ بِهِ عُقُوبَةً للنَّاسِ عَلَى كُفْرِهِمْ وَظُلْمِهِمْ، لِيَشْكُرَ النَّاسُ ربَّهُمْ مُسْتَزِيدِينَ مِنْ نِعَمِهِ خَائِفِينَ مِنْ غضَبِهِ وَنِقَمِهِ. وَقَيلَ إنَّ الْمُرادَ بِهَذَا الِاسْتِثْنَاءِ هوَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ حيثُ يَأْذَنُ اللهُ ـ تَعَالَى للسَّماءِ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ. وَلَكِنَّ ما وَرَدَ فِي الْقرآنِ الكَريمِ هُوَ تَشَقُّقُ السَّمَاءِ وَانْفِطَارُهَا، وليسَ وُقوعَها عَلَى الأَرْضِ وَسُقُوطُها، كقولِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الانْفِطارِ: {إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ * وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ * وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ * وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ * عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ} الآياتِ: (1 ـ 5)، وَقولِهِ في الآياتِ: (1 ـ 5) مِنْ سُورةِ الانشقاقِ: {إذا السَّماءُ انشقتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ}.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ "السَّماءَ" بِمَعْنَى "الْمَطَرِ"، كَما في قَوْلِ زَيْدِ بْنِ خَالِدٍ الْجُهَنِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي حَدِيثِ مُوَطَّأِ الإمامِ مالكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ الْحُدَيْبِيَةِ عَلَى إِثْرِ سَمَاءٍ كَانَتْ مِنَ اللَّيْلِ)، وكَما هوَ في قَوْلِ الشَّاعرِ مُعَاوِيَةَ بْنِ مَالِكٍ:
إِذَا نَزَلَ السَّمَاءُ بِأَرْضِ قَوْمٍ ................... رَعَيْنَاهُ وَإِنْ كَانُوا غِضَابَا
فَيَكُونُ مَعْنَى الْآيَةِ الكريمةِ: أَنَّ اللهَ ـ سُبْحانَهُ، جَعَلَ لِنُزُولِ الْمَطَرِ عَلَى الْأَرْضِ مَوَاقيتَ ومَقَادِيرَ قَدَّرَ أَسْبَابَهَا بِتَقْدِيرِهِ، فَلَو أَنَّ نُزُولَ الْمَطَرَ اسْتَمَرَّ بالنزولِ عَلَى الْأَرْضِ لَاسْتَحالتْ حَيَاةُ الإنْسَانِ عَلَيْهَا، ولذلك فَإِنَّ فِي مَنْعِهِ مِنَ النُّزُولِ بِاطِّرَادٍ عَلَى النَّاسِ وَإِمْسَاكِه، مَنْفَعَةً لَهُمْ لِيَسْتَطِيعُوا مُزَاوَلَةَ أَعمالِهم ومباشَرةَ مَصالحِهِم، فَتَقْدِيرُ نُزُولِ مِيَاهِ الأَمْطَارِ عَلَى الأَرْضِ عِنْدَما كَوَّنَها رَبُّها مِنَّةٌ عليْهِم مِنْهُ أَيْضًا.
وَيَكُونُ فِي قَوْلِهِ: "إِلَّا بِإِذْنِهِ" إِدْماجٌ بَيْنَ الِامْتِنَانِ وَالتَّخْوِيفِ: فَإِنَّ مِنَ الْإِذْنِ بِالْوُقُوعِ عَلَى الْأَرْضِ مَا هُوَ مَرْغُوبٌ لِلنَّاسِ، وَمِنْهُ مَا هُوَ مَكْرُوهٌ، وَهَذَا الْمَحْمَلُ الثَّالِثُ أَجْمَعُ لِمَا فِي الْمَحْمَلَيْنِ الْآخَرَيْنِ وَأَوْجَزُ، فَهُوَ لِذَلِكَ أَنْسَبُ بِالْإِعْجَازِ.
وإِذًا فقدِ اشْتَمَلَتْ هَذِهِ الجملةُ عَلَى ذِكْرِ نِعْمَتَيْنِ، هُمَا: نِعْمَةُ الإغَاثةِ بِمِياهِ الأَمْطارِ، وَنِعْمَةِ السَّلَامَةِ مِنْ طُغْيَانِها. وَقَدِ اسْتَوْعَبَتِ هَذِهِ الْآيَةُ الكريمةُ الْعَوَالِمَ الثَّلَاثَةَ: الْبَرَّ، وَالْبَحْرَ، وَالْجَوَّ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} حَيْثُ هَيَّأَ الأْسَبَابَ لِعَبَادَهِ جَمِيعًا، وَفَتَحَ عَلَيْهِمْ أَبْوابَ رِزْقِهِمْ، وَيَسَّرَ لَهُمْ طَريقَ مَعَاشِهِمْ، وَأَوْضَحَ لَهُمْ مَنَاهِجَ الاسْتِدْلَالِ بِالآياتِ التَّكْوينِيَّةِ وَالتَّنْزِيلِيَّةِ لِبُلوغِ مَنَافَعِهم.
والرَّؤُوفُ: صِيغَةُ مُبَالَغَةٍ مِنَ الرَّأْفَةِ، أَوْ صِفَةٌ مُشَبَّهَةٌ، وَتَقْتَضِي صَرْفَ الضُّرِّ عمَّنْ يَرْأَفُ بهِمْ.
وَالرَّحِيمُ: صِفَةٌ لهُ ـ تَعَالَى، مُشْتقَّةٌ مِنَ الرَّحْمَةِ، وَتَقْتَضِي تقديمَ النَّفْعِ لِمَنْ يَحْتَاجُ إلَيْهِ. وَقَدْ تَتَعَاقَبُ هاتانِ الصِّفَتَانِ، وَالْجَمْعُ بَيْنَهُمَا يُفِيدُ مَا تَخْتَصُّ بِهِ كُلُّ صِفَةٍ مِنْهُمَا وَيُؤَكِّدُ مَا تَجْتَمِعَانِ عَلَيْهِ. وَمِنْ رَأْفَتِهِ ـ جَلَّ وعَزَّ، بِخَلْقِهِ، وَرَحْمَتِهِ بهِمْ أَنَّهُ أَمْسَكَ السَّمَاءَ عَنْهُمْ، وَلَمْ يُسْقِطْهَا أَوْ يُسَلِّطْها عَلَيْهِمْ، بالشَّرِّ والضَّرَرِ. فهوَ رَفِيقٌ رَحِيمٌ بِهِمْ فِيمَا سَخَّرَ لَهُمْ وَحَبَسَ عَنْهُمْ فَلَا تَقَعُ عَلَيْهِمُ السَّماءُ، أَوْ شَيْءٌ منها فَيُهْلِكَهم.
وَقدْ وَقَعَتْ هَذهِ الجُمْلَةُ الكَريمَةُ مَوْقِعَ التَّعْلِيلِ لِلتَّسْخِيرِ وَالْإِمْسَاكِ المَذْكورينِ فيما تَقَدَّمَ مِنْ هَذِهِ الآيَةِ المُبَارَكَةِ بِاعْتِبَارِ الِاسْتِثْنَاءِ، لِأَنَّ فِي ذَلِكَ جَمِيعِهِ رَأْفَةً بِالنَّاسِ ورحمةً بِتَيْسِيرِ اللهِ مَنَافِعِهِمْ لهُمْ، وَالَّذِي مِنْ ضِمْنِهِ دَفْعُ الضُّرِّ عَنْهُم.
قوْلُهُ تَعَالَى: {أَلَمْ تَرَ} أَلَمْ: الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ، و "لمْ" حَرْفُ نفيٍ وجَزْمٍ وقلبٍ. وَ "تَرَ" فعلٌ مُضارعٌ مجزومٌ بِـ "لَمْ" وعلامةُ جَزْمِهِ حذْفُ حَرْفِ العِلَّةِ مِنْ آخِرِهِ. وفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ) يعودُ على سيِّدِنا محمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، وَيَعُمُّ لِيِشْمَلَ كُلَّ مَنْ هُوَ أَهْلٌ للنَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ وَالتَّفَكُّرِ وَالتَدَبُّرِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {أَنَّ اللهَ} أَنَّ: حَرْفٌ نَاصِبٌ، نَاسِخٌ، مُشَبَّهٌ بِالْفِعْلِ للتَّوْكيدِ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ. وخبرُهُ جملةُ "سَخَرَ"، والجملةُ مِنْ "أَنَّ" واسْمِها وَخَبَرِها في تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ "ترَ" لِأَنَّ الرُّؤْيَةَ هُنَا عِلْمِيَّةٌ عَقْلِيَّةٌ نظَريَّةٌ.
قوْلُهُ: {سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ} سَخَّرَ: فِعْلٌ مِاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يعودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "لَكُمْ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "سَخَّرَ"، وقُدِّمَ عَلَى المَفْعُولِ الصَّريحِ لِلاهْتِمَامِ بهِ وَالتَّشْويقِ إِلَى ما بعدَهُ، والكافُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والمِيمُ عَلَامَةُ الجَمعِ المُذَكَّرِ. وَ "ما" اسْمٌ مَوصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، أَوْ نَكِرةٌ مَوْصُوفَةٌ، وَ "في" حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِصِلَةِ "مَا"، أَوْ بِصِفةٍ لَهَا، وَ "الْأَرْضِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَجُمْلَةُ "سَخَّرَ" فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قوْلُهُ: {وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ} الواوُ: للعطْفِ، و "الْفُلْكَ" مَنْصٌوبٌ بِالْمَفْعُولِيَّةِ عَطْفًا عَلَى "مَا". وهُوَ مِنْ عَطْفِ الخَاصِّ عَلَى العَامِّ للتَّنْبيهِ إِلَى غَرَابَةِ تَسْخِيرِهَا وَكَثْرَةِ مَنَافِعِهَا، أَيْ: سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ، وَسَخَّرَ لَكُمُ الفُلْكَ. وَ "تَجْرِي" فِعْلٌ مُضارِعٌ مرفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازمِ، وعلامةُ رفعِهِ ضَمَّةٌ مُقَدَّرةٌ عَلى آخِرِهِ لثِقَلِها عَلَى اليَاءِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هِيَ) يَعُودُ عَلَى "الفُلْك". وَ "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "تَجْرِي"، و "الْبَحْرِ" مَجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "بِأَمْرِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ لِلسَّبَبِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَجْرِي" أَوْ بِحالٍ مِنْ فَاعِلِهِ. وَ "أَمْرِهِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، والهاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافَةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هذِهِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنَ قولِهِ: "الفُلْك".
قوْلُهُ: {وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "يُمْسِكُ" فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجازِمِ. وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" تَبَاركَ وتَعَالى. وَ "السَّمَاءَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جملةِ "سَخَّرَ" على كونِها فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قَوْلُهُ: {أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ} أَنْ: حَرْفُ نَصْبٍ مَصْدَرِيٌّ. و "تَقَعَ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بِـ "أَنْ"، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتِتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هيَ) يَعُودُ عَلى السَّمَاءِ. و "عَلَى" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقَعَ"، وَ "الْأَرْضِ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" الْمَصْدَرِيَّةِ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ، بِإِضَافَةِ المَصْدَرِ المُقَدَّرِ المُعَلِّلِ لِلْجُمْلَةِ الفِعْلِيَّةِ هَذِهِ، والتَّقْديرُ: كَرَاهِيَةَ وُقُوعِهَا عَلَى الأَرْضِ، أَوْ فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِـ "مِنْ" المُقَدَّرَةِ، والتَّقْديرُ: وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ مِنْ وُقُوعِهَا عَلى الأَرْضِ. أَوْ في مَحلِّ النَّصْبِ بِنَزْعِ حَرْفِ الجَرِّ المُقدَّرِ "مِنْ"، وَاخْتَارَ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ، وَغَيْرُهُ، أَنْ تَكُونَ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنَ السَّمَاءِ فَتَكونُ في مَحَلِّ النَّصْبِ أَيْضًا إِنَّما عَلى المَفْعُولِيَّةِ؛ والتقديرُ: يُمْسِكُ السَّماءَ وُقُوعَهَا عَلَى الأَرْضِ، بِمَعْنَى يَمْنَعُهُ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ عَلَى المَفْعُولِ مِنْ أَجْلِهِ، والتَّقْديرُ: كَرَاهَة أَنْ تَقَعَ عَلَى الأرضِ، وهوَ تَقديرُ البَصْريِّينَ. أَوْ لِئَلَّا تَقَعَ عَلَى الأَرْضِ، كَمَا يُقَدِّرُهُ الكُوفِيُّونَ.
قولُهُ: {إِلَّا بِإِذْنِهِ} إِلَّا: أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ مِنْ أَعَمِّ الأَحْوَالِ، وَهُوَ لَا يَقَعُ فِي الكَلَامِ المُوجِبِ، إِلَّا أَنَّ قَوْلَهُ: "وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ" فِي قُوَّةِ النَّفْيِ؛ أَيْ: لَا يَتْرُكَهَا تَقَعُ فِي حَالَةٍ مِنَ الأَحْوَالِ، إِلَّا فِي حَالَةِ كَوْنِهَا مُلْتَبِسَةً بِإِذْنِ اللهِ وَمَشِيئَتِهِ. فَالْبَاءُ لِلْمُلَابَسَةِ. و "بِإِذْنِهِ" الباءُ حَرْفُ جَرٍّ للمُلابَسَةِ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَقَعَ"، أَيْ: إِلَّا بِإِذْنِهِ فَتَقَعَ. أَوْ يتعلَّقُ بِمَحْذُوفِ حَالٍ مِنْ فَاعِلِ "تَقَعَ"؛ أَيْ: لَا تَقَعَ عَلى الأَرْضِ إِلَّا حَالَةَ كَوْنِهَا مُلْتَبِسَةً بِإِذْنِ اللهِ ـ تَعَالَى. وَيَجوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "يُمْسِكُ". فقد قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَعُودَ قَوْلُهُ: "إِلَّا بِإِذْنِهِ" عَلَى الإِمْسَاكِ، لِأَنَّ الكَلَامَ يَقْتَضِي بِغَيْرِ عَمَدٍ وَنَحْوَهُ، كَأَنَّهُ أَرَادَ: إِلَّا بِإذْنِهِ، فَبِهِ يُمْسِكُها. فَقَالَ الشَّيْخُ أبو حيَّانَ: وَلَوْ كَانَ عَلى مَا قَالَ لَكَانَ التركيبُ: بإِذْنِهِ، دُونَ أَدَاةِ الاسْتِثْنَاءِ. وَيَكُونُ التَّقْديرُ: وَيُمْسِكُ السَّماءَ بِإِذْنِهِ. قالَ السَّمينُ الحلبيُّ: وَهَذَا الاسْتِثْنَاءُ مُفَرَّغٌ، وَلَا يَقَعُ في مُوجَبٍ، لَكِنَّهُ لَمَّا كانَ الكلامُ قَبْلَهُ فِي قُوَّةِ النَّفْيِ سَاغَ ذَلِكَ، إِذِ التَّقديرُ: لَا يَتْرُكُها تَقَعُ إلَّا بِإِذْنِهِ. والذي يَظْهَرُ أَنَّ هَذِهِ الباءَ حَالِيَّةٌ، أَيْ: إِلَّا مُلْتَبِسَةً بِأَمْرِهِ. وَ "إِذْنِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ. والهَاءُ: مَجْرورٌ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوْكِدِ. وَلَفظُ الجَلَالةِ "اللهَ" اسْمُ "إِنَّ". و "بِالنَّاسِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَؤُوفٌ"، وَ "النَّاسِ" مَجْرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "لَرَءُوفٌ" اللَّامُ: هِيَ المُزَحلقةُ (حَرْفُ ابْتِداءٍ). وَ "رؤوفٌ" خَبَرُ "إِنَّ" الأَوَّلُ مرفوعٌ بِهَا. و "رَحِيمٌ" خَبَرُها الثاني مرفوعٌ بها أيْضًا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قَرَأَ العامَّةُ: {والفُلْكَ} بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى قولِهِ: "مَا فِي الأَرْضِ"، وَأَفْرَدَها بِالذِّكْرِ ـ وَإِنِ انْدَرَجَتْ تَحْتَ "مَا" بِطَريقِ العُمومِ مِنْ قَوْلِهِ: "مَا فِي الأَرْضِ" لِظُهُورِ الِامْتِنانِ بِهَا، وَلِعَجِيبِ تَسْخِيرِها دُونَ سائر المُسَخَّراتِ. وَعَلى هَذَا فإنَّ "تَجْري" في محلِّ النَّصْبِ على الحالِ. وَيَجوزُ أَنْ تكونَ مَعطوفةً عَلَى اسْمِ الجَلَالَةِ والتَّقْديرُ: أَلَمْ تَرَ أَنَّ الفُلْكَ تَجْري فِي البَحْرِ، وَعَلَى هَذَا فـ فَـ "تَجَري" خَبَرُ "أَنَّ".
وقرَأَ الكِسَائِيُّ "الفُلُكَ" بِضَمِّ اللَّامِ وَرَوَاهُ قراءَةً عَنِ الحَسَنِ ـ رضِيَ اللهُ عنْهُ، وَهِيَ قِراءَةُ شَيْخِ القُرَّاءِ العَلاَّمَةِ مُحَمَّدِ بْنِ الحَسَنِ بْنِ يَعْقُوْبَ أَبُي بَكْرِ بْنِ مِقْسَمٍ البَغْدَادِيِّ العَطَّارِ. وَقَرَأَ أَبو عَبْدِ الرَّحْمَنِ السُّلَميُّ، وَطَلْحَةُ بْنُ مُصَرِّفٍ، وَأَبو صَفْوَانَ الأَعْرَجُ حَمِيدُ بْنُ قَيْسٍ المَكِيُّ الأَسَدِيُّ، وَأَبُو حَيَوَةَ، شُرَيحٌ الحِمْصِيُ الحَضرَميُّ الشَّامِيُّ، والزَّعْفَرَانيُّ سَعِيدُ بْنُ مُحَمَّدِ أَبُو عُثْمَانَ الْحِيرِيُّ الْمُقْرِئُ: "وَالفُلُكُ" بِرَفْعِها عَلَى الابْتِدَاءِ، وَ "تَجْرِي" الخَبَرُ بَعْدهُ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ ارْتِفَاعُهُ عِطْفًا عَلَى مَحَلِّ اسْمِ "أَنَّ" عِنْدَ مَنْ يُجَوِّزُ ذَلِكَ، نَحْوَ: إِنَّ زَيْدًا وَعَمْروٌ قائمانِ. وَعَلَيْهِ فـ "تَجْري" في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحَالِ أَيْضًا.