وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ
(72)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} عطْفٌ عَلَى قولِهِ {يَعْبُدُونَ} مِنَ الآيةِ التي قبلَهَا، أَيْ: يَعْبُدونَ مِنْ دونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وإِذَا تُلِيَتْ عليهِمْ آياتُنا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذينَ كَفَرُوا المُنْكَرَ.
فهُوَ بَيَانٌ لِجُرْمٍ آخَرَ مِنْ أَجْرَامِهِمْ إضافةً لجُرْمِ عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ، وَهُوَ جُرْمُ تَكْذِيبِ الرَّسُولِ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، وَالتَّكْذِيبِ بِالْقُرْآنِ الكريمِ.
وَالْآيَاتُ: هِيَ الْقُرْآنُ الكريمُ لَا غَيْرُهُ مِنَ الْمُعْجِزَاتِ لِقَوْلِهِ: "وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا". وَالبَيِّناتُ: أَيْ الواضِحَاتُ الدَّلَالَةِ عَلَى العَقائدِ السَّليمةِ الَّتي جاءَتْ هَذِهِ الآياتُ مِنْ عِنْدِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، والَّتي أَمَرَ اللهُ ـ تَعالى، بِهَا، وَيَقْبَلُهَا العَقْلُ السَّليمُ، والمِنْهَجُ القويمُ، والمَنْطِقُ المُستقيمُ، وَتَدُلُّ عَل حَقِّيَّتِهَا المَوْجُودَاتُ وَالوَقائعُ وَالحَقائِقُ الكَوْنِيَّةُ الثابتةُ كُلُّها، والأَحْكَامُ الصَّادِقَةِ. كَمَا تُشِيرُ هَذِهِ الآياتُ البَيِّناتُ إِلَى زيفِ حجَّتِهِمْ، وَبُطْلَان عَقَيدَتِهم، وَفَسَادِ عِبَادَتِهِمُ لِأَصْنَامِهم.
قولُهُ: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} تَعْرِفُ: الْخِطَابُ هوَ لِكُلِّ مَنْ يَصْلُحُ لِهذا لْخِطَابِ يدلُّ عَلَيْهِ قَوْلِهِ: "بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا". وَالتَّعْبِيرُ بِـ "الَّذِينَ كَفَرُوا" هُوَ مِنَ الإِظْهَارِ فِي مَقَامِ الْإِضْمَارِ. وَقَدْ كانَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ أَنْ تَكُونَ الصياغةُ: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهمُ المنكَرَ، أَيْ وُجُوهِ الَّذِينَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا، فَخُولِفَ مُقْتَضَى الظَّاهِرِ لِلتَّسْجِيلِ عَلَيْهِمْ بِالْإِيمَاءِ إِلَى أَنَّ عِلَّةَ ذَلِكَ هُوَ مَا يُبْطِنُونَهُ مِنَ الْكُفْرِ. وذلكَ للزِّيادَةِ عَلَيْهِمْ بِهِ.
وَ "المُنْكَرَ" هُوَ اسْمُ مَصْدَرٍ بِمَعْنَى الإِنْكَارِ، كَ "مُكْرَم" بِمَعْنَى "إِكْرَامِ"، أَيْ: تَرَى الإِنْكارَ ظاهِرًا عَلى وُجُوهِهِ الذينَ كَفَروا مِنْ شِدَّةِ تَجَهُّمِهَا واحْتِقَانِها، وَتَلْمَحُ فِي تَلَوُّنِهَا مَا يُضْمِرُونَهُ مِنَ شَرِّ، بِظُهُورِ مَخَايِلِهِ عَلَيهَا. لِأَنَّ ما يَعْتَلِجُ في الصَّدْرِ، بادٍ على الوجهِ لا محالةَ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى في صِفَةِ أهلِ الجَنَّةِ: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ} الآيةَ: 24، مِنْ سورةِ المُطَفِّفينَ، كِنَايَةً عَنْ وَفْرَةِ نَعِيمِهِمْ، وَفَرْطِ مَسَرَّتِهِمْ بِهِ، فإنَّ حالَ المَرْءِ وانفعالاتُهُ سَتَظْهَرُ آثارُها على وَجْهِهِ مهما، حاولَ وإِخْفاءَها وَكَظْمَهَا والتَسَتُّر عَلَيْها.
وَيجوزُ أَنْ يكونَ الْمُنْكَرُ اسْمًا، وَهُوَ مَا تُنْكِرُهُ الْأَنْظَارُ وَالنُّفُوسُ، أَيْ دَلَائِلُ كَرَاهِيَتِهِمْ وَغَضَبِهِمْ وَعَزْمِهِمْ عَلَى سَيِّءِ الأَقوالِ والأَعْمَالِ.
قولُهُ: {يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} أَيْ: يُوشِكُ أَنْ يَثِبُوا عَلى المُؤْمِنِينَ الَّذينَ يَتْلُون عَليهِمْ كِتَابَ اللهِ وآيَاتِه لِيَبْطِشُوا بِهِم مِنْ شِدَّةِ غضَبِهِمْ وفَرْطِ تَغَيُّظِهم، انتصارًا لما أَخَذُوا عَنْ آبائهِمْ مِنْ أَباطيلَ تَقْلِيدًا لَهُمْ دونَ تفكُّرٍّ وتعقُّلٍ وتَبَصُّرٍ. وَ "يَسْطُونَ" مِنَ السَّطْوَةُ وَهِيَ شِدَّةُ الْبَطْشِ، يُقَالُ: سَطَا بِهِ يَسْطُو إِذَا بَطَشَ بِهِ، أَكَانَ ذَلِكَ بِضَرْبٍ أَوْ شَتْمٍ أَوْ غيرِه، قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما: "يَسْطُونَ" بهم يَبْسُطُونَ إِلَيْهِمْ أَيْدِيَهُمْ. وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ كَعْبٍ القُرَظيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: أَيْ يَقَعُونَ بِهِمْ. وَقَالَ الضَّحَّاكُ ـ رَضيَ اللهُ عنْهُ: أَيْ يَأْخُذُونَهُمْ أَخْذًا بِالْيَدِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ عَزَّ وجَلَّ: "يَكادُونَ يَسْطُونَ" قَالَ: يَبْطُشُونَ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، في قولِهِ ـ تَعَالَى: "يَكَادونَ يَسْطُونَ" قَالَ: يَبْطُشُونَ. كُفَارُ قُرَيْشٍ، وَاللهُ أَعْلَمُ.
و "الذينَ يَتْلُونَ عليهِمْ آياتِنا" يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المُرَادَ هوَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيكونُ مِنْ إِطْلَاقِ اسْمِ الْجَمْعِ عَلَى الْوَاحِدِ، كَما قَالَ ـ تَعَالى مِنْ سورةِ الفُرْقان: {وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ} الْآيةَ: 37. وَيَجُوزُ أَنْ يكونَ المُرَادُ بِهِ كلُّ مَنْ يَقْرَأُ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنَ أكانَ الرَّسُولُ أَمْ أَيَّ مَنْ تَلَاهُ عَلَيهم مِنَ الْمُسْلِمِينَ.
وَأَصْلُ السَّطْوِ الْقَهْرُ وَالغَلَبَةُ، منْ سَطَا عَلَيْهِ وَبِهِ سَطْوًا إِذَا صالَ عَلَيْهِ، وبَطَشَ بهِ، وَقَهَرَهُ، وَالْمَرَّةُ الواحِدَةُ: سَطْوَةٌ. وَأَسْطى عَلَيْهِ أَيْضًا، ومنْ ذلكَ قولُ الشاعِرِ أَوْسِ بْنِ حجر:
ففاؤُوا ولَوْ أَسْطَوْا على أُمِّ بعضِهم ........ أَصاخَ فلم يُنْصِتْ وَلَمْ يَتكلَّمِ
وَقِيلَ: السَّطْوُ إِظْهَارُ مَا يُهَوِّلُ بِقَصْدِ الْإِخَافَةِ. وَيقالُ لِفُلانٍ سَطْوَةٌ، أَيْ: لَهُ تَسَلُّطٌ وَقَهْرٌ.
قولُهُ: {قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ} الخِطَابُ هُوَ لِلنَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالِاسْتِفْهَامُ بالهَمْزَةِ للِاسْتِئْذَانِ مِنْهم بِأَنْ يُنْبِئَهُمْ بِمَا هُوَ أَعْظَمُ شَرًّا مِنْ تَمَعُّرِ وَجْهِهِمْ وَتَبَسُّرِهِ، وَتَطَايُرِ شَرَرِ نارِ حقدِهِمْ كُلَّما سَمِعُوا أَحَدًا يَتْلُوا كِتابَ اللهِ وَآيَاتِهِ عَلَيْهِمْ.
وَالمُرَادُ بِهَذا الاسْتِئْذَانِ الاسْتِهْزاءُ وَالتَّهَكُّمُ بٍهِمْ، بدليلِ أَنَّهُ نَبَّأَهُمْ بِذَلِكَ دُونَ أَنْ يَنْتَظِرَ جَوَابَهُمْ بالمُوَافَقَةِ أَوِ الرَّفضِ. والتَّفْريعُ بِالْفَاءِ لِظُهُورِ أَثَرِ إِنْكَارِهم ذلكَ عَلَى وُجُوهِهِمْ، فَقد جَعَلَ دَلَالَةَ مَلَامِحِ وُجوهِهِمْ بِمَنْزِلَةِ دَلَالَةِ أَلْفَاظِهم، فَفُرِّعَ عَلَيْهَا الجَوَابَ. وَيَجُوزُ كَوْنُ التَّفْرِيعِ عَلَى التِّلَاوَةِ الْمَأْخُوذَةِ مِنْ قَوْلِهِ: "وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا"، والمعنى: اتْلُ عَلَيْهِمُ الْآيَاتِ الْمُنْذِرَةَ وَالْمُبَيِّنَةَ لِكُفْرِهِمْ، وَفُرِّعَ عَلَيْهَا وَعِيدُهُمْ بِالنَّارِ. وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ ابْتِدَائِيٌّ لِزِيَادَةِ إِغَاظَتِهِمْ، أَنْ أَمْرَ اللهِ ـ تَعَالَى، نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَنْ يَتْلُوَ عَلَيْهِمْ مِنَ القُرْآنِ الكريمِ مَا يُفِيدُ أَنَّهُمْ صَائِرُونَ إِلَى النَّارِ.
وَ "شَرّ" اسْمُ تَفْضِيلٍ، أَصْلُهُ "أَشَرُّ"، وقدْ كَثُرَ حَذْفُ الْهَمْزَةِ منها للتَّخْفِيفِ، كَمَا حُذِفَتْ مِنْ "خَيْر" الَّتي بِمَعْنَى أَخْيَرَ.
وَالْإِشَارَةُ بِاسْمِ الإشارةِ مِنْ "ذلِكُمُ" إِلَى مَا أَثَارَهُ إِنْكارُهم، وَثورةُ حَفِيظَتِهِمْ، أَيْ: بِمَا هُوَ أَشَدُّ شَرًّا عَلَيْكُمْ فِي نُفُوسِكُمْ مِمَّا سَمِعْتُمُوهُ فَأَغْضَبَكُمْ، أَيْ: فَإِنْ كُنْتُمْ غَاضِبِينَ لِمَا تُلِيَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ فَازْدَادُوا غَضَبًا بِهَذَا الَّذِي أُنَبِّئُكُمْ بِهِ.
قولُهُ: {النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ كَفَرُوا} إنَّها نارُ جَهَنَّمَ، التي تنتظِرُكم، أَنتمْ وكلَّ مَنْ كفرَ باللهِ ربِّ العالمينَ، فهي أَشَّدُ شَرَرًا، وأعظَمُ خطَرًا من نار غيظكم، فهي أَكثرُ حقدًا علكم وغيظًا منكم.
قولُهُ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} أَيْ: بِئْسَ المَصيرُ مَصِيرُهُمْ الذي هوَ النَّارُ، وَهَلَ ثَمَّةَ مِنْ مَصِيرٍ أَسْوَأ مِنْ هَذَا الذي يَصِيرُون إِلَيْهِ مِنْ عَذَابِ اللهِ ـ تَعَالى، إِيَّاهم؟. فَـ "أَل" التَّعْرِيفِ فيهِ عِوَضٌ عَنِ الْمُضَافِ إِلَيْهِ، وَالْجُمْلَةُ إِنْشَاءَ ذَمٍّ مَعْطُوفَةً عَلَى جُمْلَةِ الْحَالِ، عَلَى تَقْدِيرِ الْقَوْلِ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هَذا التَّعْرِيفُ لِلْجِنْسِ، فَيُفِيدَ الْعُمُومَ، أَيْ بِئْسَ الْمَصِيرُ هِيَ لِمَنْ صَارَ إِلَيْهَا مِنْهُمْ، وعليْهِ فَالْجُمْلَةُ تَذْيِيلٌ لما تَقَدَّمَ، لِمَا فِيهَا مِنْ عُمُومِ الْحُكْمِ لِلْمُخَاطَبِينَ وَغَيْرِهِمْ، وَإِذًا فالْوَاوُ اعْتِرَاضِيَّةٌ تَذْيِيلِيَّةٌ.
قولُهُ تَعَالى: {وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ} الواوُ: للعَطْفِ. و "إِذَا" ظَرْفٌ لِمَا يُسْتَقْبَلُ مِنَ الزَّمانِ خافضٌ لِشَرْطِهِ، مُتَعلِّقٌ بِجَوَابِهِ. و "تُتْلَى" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مبنيٌّ للمَجهولِ (مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ) مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَعَلامَةُ رَفعِهِ مُقَدَّرَةٌ عَلَى آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الأَلِفِ. و "عَلَيْهِمْ" على: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تُتْلَى"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجمعِ المُذكَّرِ. وَ "آيَاتُنَا" نَائبٌ عَنْ فاعِلِهِ، مرفوعٌ بِهِ، وهو مُضافٌ، وَضميرُ المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، متَّصِلٌ بِهِ، مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "بَيِّنَاتٍ" منصوبٌ على الحالِ مِنَ الآياتِ، وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بإضَافَةِ "إِذا" إِلَيْهَا عَلى كَوْنِهَا فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا. وَجُمْلَةُ "إِذَا" مَعْطُوفَةٌ عَلى جُمْلَةِ قَوْلِهِ: "يَعْبُدُونَ" مِنَ الآيةِ التي قبلَها.
قولُهُ: {تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ} تَعْرِفُ: فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أنت)، يَعُودُ عَلى سيدِنا مُحَمَّدٍ ـ صَلَّى اللهُ علَيْهِ وسَلَّمَ، ويجوزُ أنْ يعودَ عَلَى أيِّ شخصٍ أهلٌ للخطابِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "تَعْرِفُ"، و "وُجُوهِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "كَفَرُوا" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَخَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ الفارقةُ، والجملةُ الفِعْليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ. و "الْمُنْكَرَ" مَفْعُولٌ لـ "تَعْرِفُ" منْصُوبٌ بِهِ. وَجُمْلَةُ قولِهِ: "تعْرفُ" الِفعْلِيَةُ هَذِهِ جَوَابُ "إِذَا" لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ} يَكَادُونَ" فِعْلٌ مُضارِعٌ نَاقِصٌ مِنْ أَفعالِ المُقاربةِ، مَرْفوعٌ لتجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامَةُ رفعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لِأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ. وواوُ الجَماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ اسْمُهَا. و "يَسْطُونَ" فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخَمْسَةِ. وَوَاوُ الجَماعةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بِالفَاعِلِيَّةِ. و "بِالَّذِينَ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَسْطُونَ" في مَحَلِّ النَّصْبِ خَبَرُ "يَكَادُونَ"، وَ "الَّذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنيٌّ عَلى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحَرفِ الجَرِّ. وَجُمْلَةُ "يَكَادُون" هيَ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى الحَالِ مِنَ الاسْمِ المَوْصُولِ قَبْلَهُ. وَإِنْ كَانَ مُضافًا إِلَيْهِ؛ لِأَنَّ المُضَافَ جِزْؤُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ حَالًا مِنْ "وُجُوهِ"؛ لِأَنَّ المُرادَ بِالوُجوهِ أَصْحابُهَا، كما في قولِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ "عَبَسَ": {وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ} الآيةَ: 40، ثُمَّ قَالَ: {أُولئكَ هُمُ الكَفَرةُ الفَجَرةُ}. وَقد ضُمِّنَ "يَسْطُونَ" مَعْنَى "يَبْطِشُونَ" ولذلكَ فهُوَ يُعَدَّى تَعْدِيَتَهُ، وَإِلَّا فَهُوَ مُتَعَدٍّ بِـ "عَلَى". وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ هَذِهِ الجُمْلةُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ منْ جُمْلَةِ "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ" وَذَلِكَ لِأَنَّ الْهَمَّ بِالسَّطْوِ هوَ مِمَّا يَشْتَمِلُ عَلَيْهِ الْمُنْكَرُ.
قَوْلُهُ: {يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا} يَتْلُونَ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعَلامَةُ رَفعِهِ ثَباتُ النُّونِ في آخِرِهِ، لأَنَّهُ مِنَ الأَفْعَالِ الخَمْسَةِ. وَوَاوُ الجَماعةِ هَذا ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ على كونِهِ فَاعِلُهُ. وَ "عَلَيهِمْ" عَلَى: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَتْلُونَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ الجَمْعِ المُذَكَّرِ. وَ "آيَاتِنَا" آياتِ: مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرَةُ عِوَضًا مِنَ الفتْحَةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤَنَّثِ السَّالمُ، وهوَ مُضافٌ، وَ "نَا" ضَمِيرُ المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إليْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ الْمَوْصُولِ "الذينَ" لَا مَحَلَّ لَهُ مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {قُلْ} فِعْلٌ أَمْرٍ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجُوبًا تقديرُهُ (أنتَ)، يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ} الهَمْزَةُ لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْرِيعِيِّ، دَاخِلَةٌ عَلى مَحْذوفٍ، وَالْفَاءُ: عَاطِفَةٌ عَلَى ذَلِكَ المَحْذُوفِ، وَالتَّقْديرُ: قُلْ لَّهُمْ أَيُّها الرَّسُولُ، أَتَسْمَعُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ، فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمْ، والجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ مَقُولُ "قُلْ". و "أُنَبِّئُكُمْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنا) يعودُ على اللهِ ـ تباركَ وتعالى، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "بِشَرٍّ: حرفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بِـ "أُنَبِّئُكُمْ"، و "شَرٍّ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ: علامةُ جمعِ المُذكَّرِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "شَرٍّ". وَ "ذَلِكُمُ" ذَا: اسمُ إشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، واللامُ: للبُعْدِ، والكافُ: للخطابِ، والميمُ: علامةُ جَمْعِ المُذَكَّرِ، وُجُمْلَةُ "أُنَبِّئُكُمْ" فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَعْطُوفَةٌ عَلى تِلْكَ الجُمْلَةِ المَحذوفَةِ عَلى كَوْنِهَا مَقُولًا لِـ "قُلْ".
قَوْلُهُ: {النَّارُ} خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْديرُهُ: "هُوَ"، أَيْ: ذَلِكَ الشَّرُّ هوَ النَّارُ، أَوِ "النَّارُ" مُبْتَدَأٌ خبرُهُ جُمْلَةُ "وَعَدَهَا" التاليَةُ بعدَهُ، وَهذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ عَلَى كِلَا التَّقْديرَيْنِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ؛ لِأَنَّهَا مُفَسِّرَةٌ لِـ "شَرِّ". فَالْجُمْلَةُ اسْتِئْنَافٌ بَيَانِيٌّ، أَيْ إِنْ سَأَلْتُمْ عَنِ الَّذِي هُوَ أَشَدُّ شَرًّا فَاعْلَمُوا أَنَّهُ النَّارُ.
قولُهُ" {وَعَدَهَا اللهُ الَّذِينَ} وَعَدَ: فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ، و "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعُولُهُ الأَوَّلُ. ولفظُ الجلالةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَ "الَّذِينَ" سْمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفعولُهُ الثاني، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ، في مَحلِّ الرَّفعِ عَلَى كَونِهَا خَبَرُ المُبْتَدأِ "النَّارُ". ويَجوزُ أَنْ تكونَ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحالِ مِنَ "النَّار"، كما يجوزُ أَنْ تكونَ مُسْتَأْنَفَةً لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، أَوْ خَبَرًا بَعْدَ الخَبَرِ. وَلَعَلَّ الأَرْجَحَ أَنَّ الضَّميرَ فِي "وَعَدَهَا" هُوَ المَفْعُولُ الثاني، "وَالذينَ كَفَرُوا"، هُوَ المَفْعُولُ الأَّوَّلُ، لِأَنَّ المَوْصُولَ بِمَنْزِلَةِ الآخِذِ، والنَّارَ بِمَنْزِلَةِ المَأْخُوذِ فِي بابِ "أَعْطَى".
قالَ الشَّيْخُ أَبو حَيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ: الظَّاهِرُ أَنَّهُ هُوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ عَلَى أَنَّهُ تَعَالى وَعَدَ النَّارَ بالكُفَّارِ أَنْ يُطْعِمَهَا إِيَّاهُمْ، أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ} الآيةَ: 30، مِنْ سورةِ (ق)، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ الضَّمِيرُ هُوَ المَفْعُولَ الثاني، وَ "الذين كَفَرُواْ" هُوَ المَفْعُولَ الأَوَّلَ، كَمَا قاَلَ مِنْ سُورةِ التوبة: {وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمُنَافِقاتِ وَالكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ} الآيةَ: 68.
قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ: يَنْبَغِي أَنْ يَتَعَيَّنَ هَذَا الثَّاني؛ لِأَنَّهُ مَتَى اجْتَمَعَ ـ بَعْدَمَا يَتَعَدَّى إِلَى اثْنَيْنِ، شَيْئانِ لَيْسَ ثانِيهِما عِبَارَةً عَنِ الأَوَّلِ، فالفَاعِلُ المَعْنَوِيُّ رُتْبَتُهُ التَّقْديمُ، وَهُوَ المَفْعُولُ الأَوَّلُ. وَنَعْنِي بالفاعلِ المَعْنَوِيِّ مَنْ يَتَأَتَّى مِنْهُ فِعْلٌ. فإذا قُلتَ: وَعَدْتُ زَيدًا دِينارًا، فَالدِّينَارُ هُوَ المَفْعُولُ؛ لِأَنَّهُ لَا يَتَأَتَّى مِنْهُ فِعْلٌ، وَهُوَ نَظِيرُ: أَعْطَيْتُ زَيْدًا دِرْهَمًا، فَـ "زيدٌ" هُوَ الفَاعِلُ لأَنَّهُ آخِذٌ لِلدِّرْهَمِ.
قوْلُهُ: {كَفَرُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ عَلى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجَماعَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والألِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ"، لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} الواوُ: اسْتِئْنافيَّةٌ، و "بِئْسَ" فِعْلٌ مَاضٍ جامدٌ لإنْشاءِ الذَّمِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ. و "المَصيرُ" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ. والمَخْصُوصُ بِالذَّمِ مَحْذوفٌ؛ أَيْ: هِيَ "النَّار"، التَّقْديرُ: وَبِئْسَ المَصِيرُ هِيَ النارُ. وَالجُمْلَةُ الفعلِيَّةُ هَذِهَ جُمْلَةٌ إِنْشَائِيَّةٌ لِأَنَّها سِيقَتْ لِإِنْشَاءِ الذَّمِ. مُسْتَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {تَعْرِفُ المُنْكَرَ} عَلَى الخِطَابِ المَبْنِيِّ للفَاعِلِ. وَ "المُنكَرَ" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ. وَقَرَأَ عِيسَى بْنُ عُمَرَ "يُعْرَفُ" بِالْيَاءِ مِنْ تَحْتُ مَبْنِيًا للمفعولِ، ورَفْعِ "المُنْكر" عَلى أَنَّهُ نائبٌ عَنِ الفاعِلِ.
وَقَوْلُهُ: "النَّار" يَجُوزُ أَنْ يُقْرَأَ بِالْحَرَكَاتِ الثَّلاثِ: فَالرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ.
أَوَّلُهُما: الرَّفْعُ عَلى الابْتِدَاءِ، وخَبَرُهُ جُمْلَةُ قولِهِ: "وَعَدَهَا اللهُ"، والجُمْلَةُ تَفْسِيرِيَّةٌ مُسْتأْنَفَةٌ استِئْنافًا بيانيًا لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ فإنها مفسِّرةٌ لِـ "شَرٌّ" المُتَقَدِّمِ. فكَأَنَّهُ قِيلَ: مَا شَرٌّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ. وَقَدْ تقدَّمَ إيضاحُهُ في مَبْحَثِ الإعرابِ.
الثاني: أَنَّهَا خَبَرُ مُبْتَدَأٍ مُضْمًرٍ كًأًنهُ قِيلَ: مَا شَرُّ مِنْ ذَلِكَ؟ فَقِيلَ: النَّارُ، أَيْ: هو النَّارُ، وَحِينَئِذٍ يَجُوزُ فِي "وَعَدَهَا اللهُ" الرَّفْعُ، عَلَى كَوْنِهَا خَبَرًا بَعْدَ الخَبَرٍ.
وأُجِيزَ أَنْ تَكونَ بَدَلًا مِنَ "النَّارُ". وَفِيهِ نَظَرٌ: مِنْ حَيْثُ إِنَّ المُبْدَلَ مِنْهُ مُفْرًدٌ. وًقًدْ يُجابُ عَنْهُ: بِأنَّ الْجُمْلَةَ فِي تَأْويلِ مُفْرَدٍ، وَتَكونُ بَدَلَ اشْتِمَالٍ. كَأَنَّهُ قِيلَ: النَّارُ وَعَدَهَا اللهُ الكُفَّارَ. وَأُجِيزَ أَنْ تَكونَ مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ. وَلَا يَجُوزُ ِأَنْ تكونَ حالًا. قَالَ العُكْبُريُّ أَبُو البَقَاءِ: (لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الجُمْلَةِ مَا يَصْلُحُ أَنْ يَعْمَلَ في الحَالِ). وَظَاهْرُ نَقْلِ الشَّيْخِ أَبي حيَّانَ عَنِ الزَّمَخْشَرِيِّ أَنَّهُ يُجيزُ كَوْنَهَا حَالًا فَقد قَالَ: (وَأَجَازَ الزَّمَخْشَرِيُّ أَنْ تَكونَ "النَّارُ" مُبْتَدَأً، وَ "وَعَدَهَا" خبَرٌ، وَأَنْ يَكونَ حَالًا عَلَى الإِعْرابِ الأَوَّلِ). وَالإِعْرابُ الأَوَّلُ هُوَ كَوْنُ "النَّارُ" خَبَرَ مُبْتَدَأٍ مضمرِ. والزَّمَخْشَرِيُّ لِمْ يَجْعَلْهَا حَالًا إِلَّا إِذَا نَصَبْتَ "النّار" أَوْ جَرَرْتَها بإِضْمَارِ "قَدْ"، هَذَا هوَ نَصُّهُ. وَإِنَّمَا مَنَعَ ذَلِكَ لِمَا تَقَدَّمَ مِنْ قَولِ أَبي البَقَاءِ، وهُوَ عَدَمُ العامِلِ.
وَقرَأَ زَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَابْنُ أَبي عَبْلَةَ "النَّارَ" بِالنَصْبِ مِنْ ثَلاثَةِ أَوْجُهٍ،
الأوَّلُ: أَنَّهَا مَنْصُوبةٌ بِفِعْلٍ مُقَدَّرٍ يُفَسِّرُهُ الفِعْلُ الظَّاهِرُ، وَالْمَسْأَلَةُ مِنْ بابِ الاشْتِغَالِ.
الثاني: أَنَّها مَنْصوبَةٌ عَلى الاخْتِصَاصِ، قالَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ.
الثالثُ: أَنْ يَكونَ النَّصْبُ بِإضْمَارِ "أَعْنِي"، وَهُوَ قَريبٌ مِمَّا قَبْلَهُ أَوْ هُوَ هُوَ.
وقَرَأَ ابْنُ أَبي إِسْحَاقٍ، وَإبْراهيمُ بْنُ نُوحٍ بِالجَرِّ عَلَى البَدَلِ مِنْ "شَرّ".