أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ
(63)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} الاسْتِفهامُ تقْريرٌ لحقيقةٍ كونِيَّةً، وَإِنْكَارِيٌّ لِغَفْلَةِ النَّاسِ عَنْ هَذِهِ الآيَةِ العَظِيمَةِ، لأنَّها أَصْبحتْ أَمْرًا مَأْلوفًا بحُكْمِ العادةِ. فلمْ يَنظروا إلى ما حَولَهُم نظْرَةَ مُعْتَبِرٍ بِما في هَذَا الكَوْنِ مِنْ آياتٍ بَيِّناتٍ، وَنِعَمٍ لا تُعَدُّ ولا تُحْصَى، الَّتي مِنْهَا إِيلاجُ اللَّيْلِ في النَّهارِ وإِيلاجُ النَّهَارِ فِي اللَّيْلِ وَهوَ مَا تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ، وَمِنْ هَذِهَ الآياتِ آيَةُ إِنْزَالِ المَاءِ مِنَ السَّماءِ.
والرُّؤْيَةُ هُنَا عَقْلِيَّةٌ نَظَريَّةٌ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ بَصَرِيَّةً لأَنَّ المَاءَ المُنَزَّلَ مِنَ السَّماءِ مُدْرَكٌ بالبَصَرِ، وَكَذَلِكَ أَثَرُهُ فِي الأَرْضِ عِنْدَمَا تكونُ جامدةً هامِدَةً ميِّتَةً لا حَيَاةَ فِيهَا، فيَنْزِلُ عَلَيْهَا الماءُ فتَخْضَرُّ وَتُخِصِبُ، كَمَا قَالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 5، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ الكَريمَةِ: {وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ}.
وإِذًا فَالْخِطَابُ عامٌّ في هَذِهِ الآيةِ الكَريمةِ وهو موجَّهٌ لِكُلِّ مَنْ تَصْلُحُ الرُّؤْيَةُ مِنْهُ لِأَنَّ الْمَرْئِيَّ مَشْهُورٌ.
وَالمُرادُ بالسَّماءِ العُلُوُّ، فإنَّ سَماكَ في اللُّغَةِ كلُّ ما عَلاكَ. والماءُ معروفٌ، فهوَ مصدَرُ الحياةِ: لقولِهِ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الأَنْبِيَاءِ: {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} الآيةَ: 30، وهوَ يَعْدِلُ ثُلُثَيِّ مِساحَةِ كُرةِ الأَرْضِ، وثَلاثَةَ أَرباعِ وزنِ جسْمِ الإِنْسَانِ. وَهُوَ مُؤَلَّفٌ مِنْ جُزَيْئَاتٍ يَحْتَوِي كُلُّ جُزَيْءٍ منها عَلَى ثَلاثِ ذَرَّاتٍ، ذَرَّتَيْنِ مِنْ غازِ (الهِيدْرُوجِين) وَذَرَّةٍ مِنْ غازِ (الأُكْسُجِين). وتحتوي قَطْرَةُ المَاءِ الوَاحِدَةِ عَلَى المَلَايِينِ مِنْ هَذِهِ الجُزَيْئاتِ وَمَوَادَّ أُخْرَى ذَائِبَةٍ فيهِ كالمَعَادِنِ والأَمْلَاحِ، بِحَسَبِ المُحيطِ الذي يتواجدُ فيهِ وإنْ بِنِسَبٍ صَغِيرَةٍ جِدًّا ـ كَمَا قالَ عُلَمَاءُ الكِيمِيَاءِ.
وَفِي ذَلِكَ كُلِّهِ إِدْمَاجٌ للِاسْتِدْلَالِ عَلَى انْفِرَادِهِ ـ تَعَالَى، بِالْخَلْقِ وَالتَّدْبِيرِ، فَهُوَ الرَّبُّ الْحَقُّ لهَذِهِ الْمَوْجودَات، والمُسْتَحِقُّ لِأَنْ تُحِبَّهُ وَتَعْبُدَهُ وَتُطيعَهُ فلا تَعْصَى لَهُ أَمْرٌ البتَّةَ.
وَالْمُنَاسَبَةُ لِذِكْرِ هَذِهِ الآيةِ هوَ مَا تقدَّمَ ذِكْرُهُ مِنْ أَنَّ اللهَ هُوَ الْحَقُّ ـ سُبْحانَهَ وتَعَالَى، وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ المَحْضُ، إِذًا فَالْجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا.
قولُهُ: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} يَجُوزُ أَنْ تَكونَ الفَاءُ هُنَا للتَّعْقيبِ العُرْفِيِّ، أَوِ الحَقِيقِيِّ، إِمَّا بِاعْتِبَارِ الِاسْتِعْدادِ لِلِاخْضِرَارِ، أَوْ بِاعْتِبَارِهِ نَفْسِهُ حَاجَةً إِلَى تَقْديرٍ بِإِنْزَالِهِ، وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ السَّبَبِيَّةَ وَليْسَتْ للتَّعْقِيبِ، وَهِيَ مُغْنِيَةٌ عَنِ الرَّابِطِ.
وَيُفِيدُ الفِعْلُ المُضارعِ بَقاءَ أَثَرِ المَطَرِ وَاسْتِمْرَارِهُ زَمَنًا بَعْدَ زَمَنٍ، فَهُوَ كَقَوْلِكَ: أَحْسَنَ إِلَيَّ فُلانٌ بِكَذَا، وَلِذَلكَ فَأَنَا أَشْكُرُهُ، أَيْ: أَنَا دَائِمُ الشُّكْرِ لَهُ، وَلَوْ أَنَّكَ قُلْتَ: فَشَكَرْتُهُ، لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ الْمَوْقِعَ مِنِ اسْتِحْضَارِ صُورَةِ الشُّكْرِ البَدَيعَةِ اسْتِمْرارِ ذَلِكَ، أَيْ: إِنَّكَ شَكَرْتَهُ وانْتَهَى الأمْرُ.
وَقَدِ اسْتَدَلَّ بَعْضُهُمْ بِقَوْلِهِ: "فَتَصبحُ" عَلَى أَنَّ الفَاءَ لَا تَقْتَضِي التَّعْقِيبَ، قَالَ: "لِأَنَّ اخْضِرارَ الأَرضِ في شيْءٌ مِنَ التَّرَاخي عَنْ إِنْزَالِ الماءِ، هَذَا بِالْمُشَاهَدَةِ". وأَجابَ بعضُهُمْ عَنْ ذَلِكَ بِمَا نَقَلَهُ عِكْرِمَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: مِنْ أَنَّ أَرْضَ مَكَّةَ وَتِهَامَةَ عَلَى مَا ذُكِرَ، وَأَنَّها تُمْطِرُ اللَّيْلَةَ فَتُصْبِحُ الأَرْضُ غُدْوَةً خَضِرَةً. وقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ـ رحِمَهُ اللهُ: "وَشَاهَدْتُ هَذَا في السُّوسِ الأَقْصَى، نَزَلَ المَطَرُ لَيْلًا بَعْدَ قَحْطٍ، فَأَصْبَحَتْ تِلْكَ الأَرْضُ الرَّمِلَةُ الَّتِي تَسْفِيهَا الرِّيَاحُ قَدِ اخْضَرَّتْ بِنَبَاتٍ ضَعِيفٍ". وَإِذًا فَالفَاءُ هُنَا عَلَى بابِهَا مِنَ التَّعْقِيبِ دونَ التَّراخي. وَقِيلَ: تَرَاخِي كُلِّ شَيْءٍ بِحَسَبِهِ.
وَقِيلَ: ثَمَّةَ في الآيةِ جُمَلٌ مَحْذُوفَةٌ قَبْلَ الفاءِ، والتَّقْديرُ: فَتَهْتَزُّ وَتَرْبُو وَتَنْبُتُ فَتُصْبِحُ. كَمَا قالَ ـ تَعَالَى، في الآيةِ: 5، السَّابقةِ مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُبَارَكَةِ: {فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِنْ كلِّ زَوْجٍ بَهيجٍ}.
قوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} أَيْ: مُتَفَضِّلٌ عَلَى عِبَادِهِ، مُتَكَفِّلٌ لهم بِمَا يَنْفَعُهُمْ وَمِنْ ذَلِكَ إِنْزَالُ المَاءِ مِنَ السَّمَاءِ، وَاخْضِرُارُ الأَرْضِ بِهِ. وهوَ "خَبِيرٌ" بِدَقَائِقِ الأُمُورِ وعظائمِها، عليمٌ بِمَصَالِحِ العِبَادِ وَمَقَادِرِها.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: لَطِيفٌ بِأَرْزاقِ عِبَادِهِ خَبِيرٌ بِمَا في قُلُوبِهِمْ مِنَ القُنُوطِ. وَقَالَ مُقَاتِلُ بْنُ سُليمانَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَطِيفٌ بِاسْتِخْراجِ النَّبَاتِ، خَبِيرٌ بِكَيْفِيَّةِ خَلْقِهِ. وَقَالَ الْكَلْبِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَطِيفٌ بِأَفْعَالِهِ، "خَبِيرٌ" بِأَعْمَالِ خَلْقِهِ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ ـ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالى: وَاللَّطِيفُ الْمُحْكِمُ لِلْأُمُورِ بِرِفْقٍ. وَنَقَلَ الإمامُ الآمِدِيُّ أَنَّهُ العالِمُ بالخَفِيَّاتِ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: لَطِيفٌ وَاصِلٌ عِلْمُهُ، أَوْ فَضْلُهُ إِلَى كُلِّ شَيْءٍ، "خَبِيرٌ" بِمَصَالِحِ الْخَلْقِ وَمَنَافِعِهِمْ. واللهُ أعلمُ.
قولُهُ تَعَالى: {أَلَمْ تَرَ} الهَمْزَةُ: لِلِاسْتِفْهَامِ التَّقْريرِيِّ. و "لم" حَرْفُ جَزْمٍ وقلبٍ ونفيٍ. و "تَرَ" فعلٌ مُضارعٌ مَجْزُومٌ بِهِ، وَعلامةُ جزمِهِ حذْفُ حرفِ العلَّةِ مِنْ آخِرِهِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (أَنْتَ)، يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، أَوْ عَلَى أَيِّ مُخَاطَبٍ أهلٍ لهذا الخِطابِ، وَالْجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {أَنَّ اللهَ} أَنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوكيدِ. ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وخبرُهُ جملةُ "أَنْزلَ"، وَالجُمْلَةُ مِنْ "أَنَّ" وَاسْمِهَا وَخَبَرِها فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ سَادٍّ مَسَدَّ مَفْعُولَيْ: "تَرَ"، لِأَنَّ الرُّؤيةَ هنا عِلْمِيَّةٌ نَظَرِيَّةٌ، أَمَّا إِذَا كانَتِ الرُّؤْيةُ بَصَرِيَّةً فتكونُ سَادَّةً مَسَدَّ مَفْعُولٍ واحِدٍ لَهَا.
قولُهُ: {أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً} أَنْزَلَ: فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تعالى. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "أَنْزَلَ". وَ "السَّمَاءِ" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. و "مَاءً" مَفْعٌولُهُ منصوبٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "أَنَّ".
قولُهُ: {فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً} الفاءُ: عَاطِفةٌ هُنَا لَا سَبَبِيَّةٌ؛ لِأَنَّ الاسْتِفْهَامَ تَقْريرِيٌّ مُؤَوَّلٌ بِالْخَبَرِ؛ أَيْ: قَدْ رَأَيْتَ، وَالْخَبَرُ لَا جَوَابَ لَهُ، وَأَيْضًا فَإِنَّ الرُّؤْيَةَ لَا يَتَسَبَّبُ عَنْهَا اخْضِرارُ الأَرْضِ، بَلْ الذي يُوجِبُهُ هوَ إِنْزَالُ المَاء، ولِذلكَ أَيضًا فإنَّهُ لَا تَصِحُّ سَبَبِيَّتُها. وَقالَ العُكْبُريُّ: يَجُوزُ أَنْ تَكونَ "تُصْبِحُ" فِعْلًا مُضارعًا نَاقِصًا، أَوْ تَامًّا. وَ "مُخْضَرَّةً" حَالُهَا. وَفِيهِ بُعْدٌ، إِذْ يَصِيرُ المعنى: فَتَدخُلُ الأَرْضُ فِي وَقْتِ الصَّبَاحِ عَلَى هَذِهِ الحَالِ.
وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ عَلَى بابِها مِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى اقْتِرَانِ مَضْمُونِ الجُمْلَةِ بِهَذَا الزَّمَنِ الخَاصِّ. وَإِنَّما خَصَّ هَذا الوَقْتَ لِأَنَّ الخُضْرَةَ أَبْهَجُ ما يُرَى. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ بِمَعْنَى تَصِيرُ.
وَقالَ أبو البقاءِ العُكْبُريُّ أَيضًا: هِيَ فعلٌ مُضَارِعٌ لَفْظًا مَاضٍ مَعْنًى، والتقديرُ: فَأَصْبَحَتْ، فَهُوَ عَطْفٌ عَلَى "أَنْزَل. ثُمَّ قَالَ بَعْدَ أَنْ عَطَفَ عَلَى "أَنْزل": "فَلَا مَوْضِعَ لَهُ إِذًا". وليسَ بشَيْءٍ؛ لِأَنَّ عَطْفَهُ عَلَى "أَنْزَلَ" يَقْتَضِي أَنْ يَكونَ لَهُ مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ: وَهُوَ الرَّفْعُ على كونِهِ خَبَرًا لِـ "أَنَّ"، لَكِنَّهُ لَا يَجُوزُ لِعَدَمِ الرَّابِطِ. هذا أَوَّلًا وَالثاني: أَنَّهُ عَلَى بَابِهِ، وَرَفْعُهُ عَلَى الاسْتِئْنَافِ. قال: فَهِيَ ـ أَيْ القِصَّةَ، وَ "تُصْبِحُ" الخَبَرُ. وَلَا حَاجَةَ إِلَى تَقْديرِ مُبْتَدَأٍ، بَلْ هَذِهِ جُمْلَةٌ فِعْلِيَّةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ، وَلَا سِيَّمَا وقدْ قَدَّرَ المُبْتَدَأَ ضَميرَ القِصَّةِ ثُمَّ حَذَفَهُ، وَهُوَ غيرُ جائزٍ؛ لِأَنَّهُ لَا يُؤْتَى بِضَمِيرِ القِصَّةِ إِلَّا للتَّأْكِيدِ وَالتَّعْظِيمِ، والحَذْفُ يُنَافِيهِ.
قالَ الزمخشري: فإِنْ قُلْتَ: هَلّا قِيلَ: فَأَصْبَحَتْ، وَلِمَ صُرِفَ إِلَى لَفْظِ المُضَارِعِ؟ قُلْتُ: لِنُكْتَةٍ فِيهِ: وَهِيَ إِفَادَةُ بَقاءِ أَثَرِ المَطَرِ زَمانًا بَعْدَ زَمَانٍ كَمَا تَقُولُ: أَنْعَمَ عَلَيَّ فُلَانٌ عَامَ كَذَا فَأَرُوْحُ وَأَغْدُوا شَاكرًا لَهُ. وَلَوْ قُلْتَ: رُحْتُ وَغَدَوْتُ لَمْ يَقَعْ ذَلِكَ المَوْقِعَ. فَإِنْ قُلْتَ: فَمَا لَهُ رُفِعَ وَلَمْ يُنْصَبْ جَوَابًا لِلاسْتِفْهامِ؟ قَلتُ: لَوْ نُصِب لِأَعْطَى عَكَسَ الغَرَضِ لِأَنَّ مَعْنَاهُ إِثْباتُ الاخْضِرارِ، فَيَنْقَلِبُ بِالنَّصْبِ إِلَى نَفْيِ الاخْضِرارِ. مِثَالُهُ أَنْ تَقولَ لِصَاحَبِكَ: أَلَمْ تَرَ أَنِّي أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ فَتَشْكُرَ" إِنْ نَصَبْتَ فَأَنْتَ نَافٍ لِشُكْرِهِ، شَاكٍ تَفْريطَهُ فِيهِ، وَإِنْ رَفَعْتَهُ فَأَنْتَ مُثْبِتٌ لِلشُّكْرِ، وَهَذَا وَأَمْثالُهُ مِمَّا يَجِبُ أَنْ يَرْغَبَ لَهُ مَنِ اتَّسَمَ بِالْعِلْمِ فِي عَلْمِ الإِعْرابِ وَتَوْقيرِ أَهْلِهِ.
وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: قَوْلُهُ: "فَتُصْبِحُ" بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ فَتَضْحَى أَوْ تَصِيرُ، عِبَارَةٌ عَنِ اسْتِعْجَالِها إِثْرَ نُزُولِ المَاءِ وَاسْتِمْرارِهَا لِذَلِكَ عَادَةً. وَرَفْعُ قَوْلِهِ "فتُصْبِحُ" مِنْ حَيْثُ الآيَةُ خَبَرٌ، والفاءُ عَاطِفَةٌ وَلَيْسَتْ بِجَوابٍ، لِأَنَّ كَوْنَها
جَوابًا لِقَوْلِهِ: "أَلَمْ تَرَ" فَاسِدُ المَعْنَى.
قالَ الشَّيخ أَبو حيَّانَ الأنْدَلُسِيُّ: وَلَمْ يُبَيِّنْ هُوَ وَلَا الزَّمَخْشَرِيُّ قَبْلَهُ كَيْفَ يَكونُ النَّصْبُ نافيًا لِلِاخْضِرارِ، إِلَّا كَوْنَ المَعْنَى فَاسِدًا؟ قَالَ سِيبَوَيْهِ: "وَسَأَلْتُهُ ـ يَعْنِي الخَليلَ بْنَ أحمدٍ الفراهيديَّ، عَنْ: "أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله أَنزَلَ مِنَ السماء مَاءً فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً" فَقَالَ: هَذَا وَاجِبٌ وَتَنْبيهٌ. كَأَنَّكَ قُلْتَ: أَتَسْمَعُ أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَكَانَ كَذا وكَذا.
قالَ ابْنُ خَروفٍ: وَقَوْلُهُ: "هَذا واجِبٌ"، وَقَوْلُهُ: "فَكَانَ كَذا" يُريدُ أَنَّهُما مَاضِيَانِ، وَفَسَّرَ الكَلامَ بِـ "أَتَسْمَعُ لِيُرِيَكَ" أَنَّهُ لَا يَتَّصِلُ بِالاسْتِفْهامِ لِضَعْفِ حُكْمِ الاسْتِفْهامِ فِيهِ.
وَقَالَ بَعْضُ شُرَّاحِ "الكِتَابِ" لِسِيبَوَيْهِ: "فَتُصْبِحُ" لَا يُمْكِنُ نَصْبُهُ؛ لِأَنَّ الكَلَامَ وَاجِبٌ. أَلَا تَرَى أَنَّ المَعْنَى: أَنَّ اللهَ ـ سُبحانَهُ، أَنْزَلَ؟ فَالْأَرْضُ هَذِهِ حَالُهَا.
وَقَالَ الفَرَّاءُ: "أَلَمْ تَرَ" خَبَرٌ، كَمَا تَقُولُ فِي الكَلَامِ: عَلِمَ أَنَّ اللهَ يَفْعَلُ كَذَا فَيَكونُ كَذَا. وَيَقُولُ: إِنَّما امْتَنَعَ النَّصْبَ جَوابًا لِلِاسْتِفْهامِ هُنَا؛ لِأَنَّ النَّفْيَ إِذَا دَخَلَ عَلَيْهِ الاسْتِفْهَامُ ـ وَإِنْ كَانَ يَقْتَضِي تَقْريرًا فِي بَعْضِ الكَلَامِ، هُوَ مُعامَلٌ مُعَامَلَةَ النَّفْيِ المَحْضِ فَي الجَوابَ. أَلَا تَرَى إِلَى قَوْلِهِ ـ تَعَالى، منْ سُورَةِ الأَعْرَاف: {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلى} الآيَةَ: 172، وَكَذَلِكَ الجَوَابُ بالفاءِ، إِذَا أَجَبْتَ النَّفْيَ كَانَ عَلَى مَعْنَيَيْنِ فِي كُلٍّ مِنْهُما يَنْتَفِي الجَوابُ. فإذا قلتَ: "ما تَأْتِيْنا فَتُحَدِّثَنا" بِالنَّصْبِ، فالمَعْنَى: مَا تَأْتينَا مُحَدِّثًا، وَإِنَّما تَأْتينَا وَلَا تُحَدِّثُ.
وَيَجُوزُ ِأَنْ يَكونَ المَعْنَى: أَنَّكَ لَا تَأْتي، فَكَيْفَ تُحَدِّثُ؟ فَالحَديثُ مُنْتَفٍ في الحالَتَيْنِ، وَالتَّقريرُ بِأَداةِ الاسْتِفْهامِ كَالنَّفْيِ المَحْضِ فِي الجَوَابِ يُثْبِتُ مَا دَخَلْتْهُ الهَمْزَةُ، وَيَنْتَفِي الجَوَابُ. فَيَلْزَمُ مِنْ هَذَا الذي قَرَّرْناهُ إِثْبَاتُ الرُّؤْيَةِ، وانْتِفَاءُ الِاخْضِرارِ، وَهُوَ خَلَافُ المَقْصُودِ.
وأَيْضًا فَإِنَّ جَوَابَ الِاسْتِفْهامِ يَنْعَقِدُ مِنْهُ مَعَ الاسْتِفْهامِ السّابقِ شَرْطٌ وجَزَاءٌ، فهوَ كَقَوْلِ الشَّاعِر الطَّائيِّ البُرجِ بْنِ مُسْهرٍ:
أَلَمْ تَسْألْ فَتُخْبِرْكَ الرُّسومُ .................. عَلَى فِرْتاجَ والطَّلَلُ القَديمُ
ورَوَى هَذا البيتَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمُبَارَكِ البَغْدادِيُّ فِي (مُنْتَهَى الطَّلَبِ مِنْ أَشْعَارِ العَرَبِ) لِلْصَّحَابيِّ الجَلِلِ الشَّاعِرِ عَمْرِو بْنِ شَأْسٍ الأَسَدِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وَبَعْدَهُ:
تَحَمَّلَ أَهْلُها وَجَرَتْ عَلَيْهَا ............... رِيَاحُ الصَّيْفِ والسَّبَطُ المُدِيمُ
وَنُدْمَانٍ يَزيدُ الكَأْسَ طِيبًا ................... سَقَيْتُ إِذَا تَغَوَّرَتِ النُّجُومُ
فيَتَقَدَّرُ بـ: إِنْ تَسْأَلْ تُخَبِرْكَ الرُّسُومُ، وَهُنَا لَا يَتَقَدَّرُ ـ إِنْ تَرَ إِنْزَالَ المَطَرِ تُصْبِحُ الأَرْضُ مٌخْضَرَّةً؛ لِأَنَّ اخْضِرارَهَا لَيْسَ مُتَرَتِّبًا عَلى عِلْمِكَ، أَوْ رٌؤْيَتِكَ، إِنَّما هوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الإِنْزَالِ، وَإِنَّما عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ؛ لِأَنَّ فِيهِ تَصْويرًا للهَيْئَةِ الَّتي عَلَيْها الأَرضُ وَالحَالَةِ الَّتِي لَابَسَتِ الأَرْضَ، وَالماضِي يُفِيدُ انْقِطاعَ الشَّيْءِ. وَهَذَا كَقَوْلِ جَحْدَرِ بْنِ مَعُونَةَ يَصِفُ حَالَهُ مَعَ أَشَدِّ نَازِلَةٍ فِي قِصَّةٍ جَرَتْ لَهُ ـ رَحمَهُ اللهُ، مَعَ الحَجَّاجِ ابْنِ يُوسُفٍ الثَّقَفِيِّ، وَهِيَ أَبَيَاتٌ فَمِنْها:
يَسْمُوا بِنَاظِرَتَيْنِ تَحْسَبُ فِيهِمَا ............... لَمَّا أَجَالَهُمَا شُعَاعَ سِرَاجِ
لَمَّا نَزَلْتُ بِحُصْنِ أَزْبَرَ مُهْصِرٍ ................ لِلْقِرْنِ أَرْوَاحَ العِدَا مَجَّاجِ
فأَكُرُّ أَحْمِلُ وَهُوَ يُقْعِي بِاسْتِهِ ................ فإِذا يَعُودُ فَرَاجِعٌ أَدْرَاجِي
وعَلِمْتُ أَنِّي إِنْ أَبَيْتُ نِزَالَهُ .............. أَنِّي مِنَ الحَجَّاجِ لَسْتُ بِنَاجِي
فَقَوْلُهُ: "فَأَكُرُّ" تَصْويرٌ للحالَةِ الَّتِي لَابَسَهَا.
قَالَ السَّمِينُ: أَمَّا قَوْلُهُ: "وَأَيْضًا فَإِنَّ جَوَابَ الاسْتِفْهَامِ يَنْعَقِدُ مِنْهُ مَعَ الاسْتِفْهامِ" إِلَى قَوْلِهِ: "إِنَّما هُوَ مُتَرَتِّبٌ عَلَى الإِنْزَالِ" مُنْتَزَعٌ مِنْ كَلامِ أَبي البَقَاءِ العُكْبُرِيِّ. قَالَ أبو البقاءِ: "إِنَّمَا رُفِعَ الفِعْلُ هُنَا وَإِنْ كَانَ قَبْلَهُ اسْتِفْهَامٌ لِأَمْرَيْنِ، أَحَدُهُما: أَنَّهُ اسْتِفْهامٌ بِمَعْنَى الخَبَرِ، أَيْ: قَدْ رَأَيْتُ، فَلَا يَكونُ لَهُ جَوَابٌ. الثّاني: أَنَّ مَا بَعْدَ الفَاءِ يَنْتَصِبُ إِذَا كَانَ المُسْتَفْهَمُ عَنْهُ سَبَبًا لَهُ، وَرُؤْيَتُهُ لِإِنْزَالِ المَاءِ لَا يُوْجِبُ اخْضِرَارَ الأَرْضِ، وَإِنَّمَا يَجِبُ الاخْضِرارُ عَنِ المَاءِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: "وَإِنَّمَا عَبَّرَ بِالْمُضَارِعِ" فَهُوَ مَعْنَى كَلَامِ الزَّمَخْشَرِيِّ بِعَيْنِهِ، وَإِنَّما غَيَّرَ عِبَارَتَهُ وَأَوْسَعَهَا.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. وَلَفْظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "لَطِيفٌ" خَبَرُهُ الأوَّلُ مَرفوعٌ بِهِ. وَ "خَبِيرٌ" خَبَرٌ ثانٍ لَهُ مرفوعٌ بِهِ أيضًا. والجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قرَأَ العامَّةُ: {مُخْضَرَّةً} بِضَمِّ المِيمِ وَتَشْديدِ الرَّاءِ، عَلى أَنَّهُ اسْمُ فاعِلٍ، مِنْ اخْضَرَّتْ فَهِيَ مُخْضَرَّةٌ. والأَصْلُ "مُخْضَرِرَةً" بِكَسْرِ الرَّاءِ الأُولَى، فَأُدْغِمَتْ فِي مِثْلِهَا. وَقَرَأَ بَعْضُهُم "مَخْضَرَةً" بِفَتْحِ المِيمِ وَتَخْفِيفِ الرَّاءِ بِمَعْنَى: ذَاتِ خُضْرَواتٍ، بِزِنَةِ "مَبْقَلَةً" بِمَعْنَى: ذَاتِ بَقْلٍ. وَ "مُسْبِعَةً" بِمَعْنَى: ذَاتِ سِباعٍ.