ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ
(60)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {ذَلِكَ} اسْمُ إِشَارَةٍ جيءَ بهِ لِلْفَصْلِ بَيْنَ الْكَلَامَيْنِ لَفْتًا لِأَذْهَانِ السَّامِعِينَ إِلَى مَا سَيَأْتي بَعْدَهُ مِنَ كَلَامٍ، لِأَنَّ مَا بَعْدَهُ لا يَصْلُحُ لِأَنْ يَكُونَ خَبَرًا عَنِ اسْمِ الْإِشَارَةِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ نَظِيرُ هَذا عِنْدَ قَوْلِهِ ـ تَعَالى في الآيَةِ: 30، منْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ} الآيةَ: 30، السَّابقةَ. وَالمَعْنَى كَمَا قَالَ أَبو إِسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: الأَمْرُ ذَلِكَ، أَيْ: الأَمْرُ مَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ. مَعَانِي القُرْآنِ وإِعْرَابُهُ لَهُ: (3/435).
قولُهُ: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ} هَذِهِ الجُملةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ قِولِهِ قبلَ ذَلِكَ: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ} الآيةِ: 58، السَّابقةِ. وَالْغَرَضُ مِنْهَا التَّهْيِئَةُ لِلْجِهَادِ والتمهيدُ للأمْرِ بِهِ.
وَقدْ جاءَ وَعْدُهُ بِالنَّصْرِ في الآيتيْنِ: (39 و40)، السَّابقتَيْنِ، مُعْتَرِضًا خِلَالَ النَّعْيِ عَلَى تَكْذِيبِ الْمُكَذِّبِينَ وَكُفْرِهِمُ النِّعَمَ، وَذَلِكَ بِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَيَنْصُرَنَّ اللهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} الْآيتانِ الكَريمتانِ، فَأُكْمِلَ الْغَرَضُ الْأَوَّلُ بِمَا فِيهِ مِنِ انْتِقَالَاتٍ، ثُمَّ عُطِفَ الْكَلَامُ إِلَى الْغَرَضِ الَّذِي جَرَتْ مِنْهُ لَمْحَةٌ سريعةٌ هناكَ، فَعَادَ الْكَلَامُ في هُذِهِ الآيةِ إِلَى الْوَعْدِ بِنَصْرِ اللهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، لِمَنْ اعْتُدِيَ عَلَيْهِمْ، كَمَا وَعَدَهُمْ مِنْ قبلُ بِأَنْ يُدْخِلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ المُدْخَلَ الكريمَ الَّذي يَرْضَوْنَهُ. وَقد جِيءَ بِإِشَارَةِ الْفَصْلِ "ذلكَ" لِلتَّنْبِيهِ عَلَى أَهَمِّيَّةِ مَا بَعْدَهُ.
والمَعْنَى: مَنْ جَازَى ظالمًا بِمِثْلِ مَا ظَلَمَهُ. سُمِّيَ جَزَاءً لِاسْتِوَاءِ الفِعْلِينِ في المَكْرُوهِ، فهوَ كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ البقرةِ: {اللهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} الآيةَ: 15. في مقابلِ قولِهِمْ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُون} الآيةَ: 14، التي قبلَها. وكذلكَ قولُهُ مِنْ سورةِ الشُّورى: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} الآيةَ: 40، فالأُولَى سَيِّئَةٌ وسمِّيتِ المُجازاةُ عَلَيْهَا سَيِّئَةً لأَنَّ فيها إِساءَةً للمَفْعُولِ بِهِ، فهي ـ دونما شَكٍّ تَسُوؤُهُ. وَقالَ الحَسَنُ البَصْريُّ ـ رَضيَ اللهُ تعالى عَنْهُ: "وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ"، يَعْني: قَاتَلَ المُشْرِكِينَ كَمَا قَاتَلُوهُ. تفسيرُ الإمامِ البَغَوَيِّ: (5/397). وَقد جِيءَ بِـ "بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ" للْمُمَاثَلَةِ فِي الْجِنْسِ، فَإِنَّ الْمُشْرِكِينَ آذَوُا الْمُسْلِمِينَ وَأَرْغَمُوهُمْ عَلَى مُغَادَرَةِ مَوْطِنِهِمْ فَيَكُونُ عِقَابُهُمْ عَلَى ذَلِكَ بِإِخْرَاجِ مَنْ يُمْكِنُهُمْ أَنْ يُخْرِجُوهُ مِنْ ذَلِكَ الْوَطَنِ. وَلَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ إِلَّا بِالْجِهَادِ لِأَنَّ الْمُشْرِكِينَ كَانُوا أَهْلَ كَثْرَةٍ وَكَانُوا مُسْتَعْصِمِينَ بِبَلَدِهِمْ فَإِلْجَاءُ مَنْ يُمْكِنُ إِلْجَاؤُهُ إِلَى مُفَارَقَةِ وَطَنِهِ، إِمَّا بِالْقِتَالِ فَهُوَ إِخْرَاجٌ كَامِلٌ، أَوْ بِالْأَسْرِ.
وَالاسمُ الموصولُ هُنَا "مَنْ" مِنْ حَقِّهِ العُمُومُ فَيَشْمَلُ كُلَّ مَنْ عُوقِبَ ظُلمًا وعُدْوانًا أَنْ يردَّ الظُّلمَ عَنْ نفْسِهِ فَيُعاقِبَ مَنْ عاقَبَهُ، لِقَوْلِهِ فِيمَا في الآيةِ: 39، منْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا}، فَنَبَّهَ عَلَى أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ فِيهِ هُوَ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى اعْتِدَاءٍ سَابِقٍ، كَمَا دَلَّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْلُهُ: {بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الْحَج: 39. والحُكْمُ بالتَّساوي في المَظْلمةِ والعُقوبَةِ مُؤَكَّدٌ في غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ كتابِ اللهِ ـ تَعَالَى، كَقَوْلِهِ فِي الآيَةِ: 194، مِنْ سورةِ البَقَرَةِ: {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ}، وَقَوْلِهِ مِنْ سُورةِ المائدَةِ: {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ} الآيةَ: 45.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُقَاتِلِ بْنِ سُلَيْمانَ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ" الْآيَةَ. قَالَ: إِنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ سَرِيَّة فِي لَيْلَتَيْنِ بَقِيَتَا مِنَ الْمُحَرَّمِ، فَلَقُوا الْمُشْركِينَ، فَقَالَ الْمُشْركُونَ بَعضُهُمْ لِبَعْضٍ: قَاتلُوا أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ فَإِنَّهُمْ يُحَرِّمُونَ الْقِتَالَ فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ، وَإِنَّ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ ـ صلَّى اللهُ عَليْهِ وسلَّمَ، نَاشَدُوهُمْ، وَذَكَّرُوهُمْ بِاللهِ أَنْ يُعْرِضُوا لِقِتَالِهِمْ فَإِنَّهُم لَا يسْتَحلُّونَ الْقِتَال فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ إِلَّا من بادَأَهُمْ، وَإِنَّ الْمُشْركينَ بَدَأُوا وَقَاتَلوهُم، فَاسْتَحَلَّ الصَّحَابَةُ قِتَالَهمْ عِنْدَ ذَلِكَ فَقَاتَلوهُم وَنَصَرَهُمُ اللهُ عَلَيْهِمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ ـ رضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعالى: "ذَلِكَ وَمَنْ عاقَبَ" قَالَ: تَعَاوَنَ الْمُشْركُونَ عَلىَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْحَابِهِ ـ رُضْوانُ اللهِ عليهِم، فَأَخْرَجُوهُ، فَوَعَدَ اللهُ أَنْ يَنْصُرَهُ وَهُوَ فِي الْقِصَاصِ أَيْضًا.
وَقَدْ أَفَادَ تَغْيِيرُ أُسْلُوبِ الْجَمْعِ بقَوْلِهِ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ} الْآيةَ: 39، السَّابقةِ. إِلَى أُسْلُوبِ الْإِفْرَادِ هنا بقَوْلِهِ "وَمَنْ عاقَبَ" إِرَادَةَ الْعُمُومِ ليَكُونَ قَاعِدَةً كُلِّيَّةً وَسُنَّةً مِنْ سُنَنِ اللهِ ـ تَعَالَى، ماضِيَةً فِي الْأُمَمِ جَمِيعًا.
وَلَمَّا أَتَى هُنَا فِي جُمْلةِ صِلَةِ المَوْصُولِ بِفِعْلِ "عاقَبَ" بِالإفرادِ مَعَ قَصْدِ عُمُومِ الصِّلَةِ وَشُمُولِها كلَّ الَّذِينَ أُذِنَ لَهُمْ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا، عَلِمَ السَّامِعُ أَنَّ الْقِتَالَ الْمَأْذُونَ لَهُمْ بِهِ هوَ قِتَالُ جَزَاءٍ عَلَى ظُلْمٍ سَابِقٍ، وَقَعَ عَلَيْهِم ردًّا على العُقُوبَةِ بمثلِها. وَفِي ذَلِكَ تَحْدِيدٌ لِقَانُونِ الْعِقَابِ الذي يجِبُ أَنْ يَسْرِيَ عَلَى الجَمِيعِ، بأَنْ يَكُونَ مُمَاثِلًا لِلْعُدْوَانِ الْمَجْزِيِّ عَلَيْهِ، أَيْ يَجِبُ أَنْ لَا يَكُونَ أَشَدَّ مِنْهُ.
وَقد سُمِّيَ اعْتِدَاءُ الْمُشْرِكِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عِقَابًا لِأَنَّ الَّذِي دَفَعَهم إِلَيْهِ قَصْدُ عِقَابِهم عَلَى خُرُوجِهِمْ عَنْ دِينِ الشِّرْكِ الذي كانوا يَدِينُونَ بِهِ، وَنَبْذِهم عِبَادَةَ أَصْنَامِهِمْ. وَقد كانَ ذَلِكَ الْعِقَابَ ظُلْمًا لَهُمْ، وعُدْوانًا عليهِمْ كما قالَ تعالى فِي الآيَةِ: 40، السَّابقةِ: {الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ}، فإنَّ مِنْ حقِّ الإنْسانِ أَنْ يعتقدَ ما يشاءُ، وليسَ مِنْ حقِّ أَحَدٍ أَنْ يُرْغِمَهُ على اعتقادِ ما يخالفُ قناعتَهُ، وقدِ احترمَ الإسلامُ هذا المَبدَأَ، وصانَهُ للجَميعِ، وقد جاءَ ذَلِكَ في آياتٍ كَثِيرةٍ مِنَ الكِتَابِ العَزيزِ، كَقَوْلِهِ ـ تَعَالى، في سُورَةِ النَّحْلِ مُخاطِبًا رَسُولَهُ الكَريمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِين} الآيةَ: 125، وقالَ مِنْ سُورَةِ يُونُسَ: {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآيةَ: 99. وإذا لَمْ يكنْ هذا مِنْ حقِّ سيِّدِنا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عليْهِ وسَلَّمَ، الذي قالَ فيهِ ربُّهُ ـ تَبَارَكَتْ أَسْماؤهُ، فلمَنْ يكونَ. وهوَ الذي كانَ شديدَ الحِرْصِ عَلَى هِدَايةِ النَّاسِ جَمِيعًا حَتَّى كَادَ يُزْهِقُ نَفْسَهُ فِي سَبَيلِ هِدايَةِ النَّاسِ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ مُخاطبًا لَهُ: {فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا} الآيةَ: 6، مِنْ سُورَةِ الكَهْفِ. وَقَالَ مِنْ سورةِ الشُّعراءِ: {لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ} الآيةَ: 3. والآياتُ في هَذا كثيرةٌ.
قولُهُ: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} وَ "ثُمَّ" مِنْ قَوْلِهِ: "ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ" عَطْفٌ عَلَى جُمْلَةِ: "وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ"، فَـ "ثُمَّ" لِلتَّرتيبِ مَعَ التَّرَاخِي، فَإِنَّ الْبَغْيَ عَلَيْهِ أَهَمُّ مِنْ كَوْنِهِ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ إِذْ كَانَ مَبْدُوءًا بِالظُّلْمِ كَمَا يُقَالُ (والْبَادِئُ أَظْلَمُ). فَكَانَ الْمُشْرِكُونَ مَسْتَحِقِّينَ للعُقوبَةِ لِأَنَّهُمْ همُ البَاغُونَ الذينَ بَغَوْا عَلَى الْمُسْلِمِينَ. ويكونُ مَعْنَى هَذِهِ الْآيَةِ فِي مَعْنَى الآيةِ: 13، مِنْ سورةِ التَّوْبَة، وهيَ قولُهُ ـ تَعَالَى: {أَلا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ}.
قولُهُ: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ} تَأَكيدٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالى، لَهُمُ بأَنْهُ نَاصِرُهُمْ عَلَى أَعْدَائهِمْ، إِنْ هُمُ امْتَثَلُوا مَا أُذِنَ لهم بِهِ، وَعَاقَبُوا مَنِ اعْتَدى عَلَيْهِمْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبُوا بِهِ. فَقَدْ كَانَ هَذَا تَشْريعًا لِأَصُولِ دِفَاعِ المُسْلِمِينَ عَنْ أنفُسَهِمْ، وَأَمَّا آيَاتُ التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ فَلَيْسَ هَذَا مَقَامَ تَنْزِيلِهَا، وَإِنَّمَا هِيَ فِي تَشْريعِ مُعَامَلَاتِ الْأُمَّةِ فيما بَيْنَهَا، فَرَغَّبَهم فيها بالعَفْوِ وَالتَّسَامُحِ فيما يَطْرَأُ بَيْنَهُمْ مِنْ خلافاتٍ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} تَعْلِيلٌ لِلِاقْتِصَارِ عَلَى الْإِذْنِ فِي الْعِقَابِ بِالْمُمَاثَلَةِ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ" دُونَ زِيَادَةٍ فِي الِانْتِقَامِ، مَعَ أَنَّ الْبَادِئَ أَظْلَمُ، فَإنَّ عَفْوَ اللهِ عنْ خلقِهِ، وَمَغْفِرَتَهُ لَهمْ قَضَيَا بِحِكْمَتِهِ أَنْ لَا يَأْذَنَ إِلَّا بِمُمَاثَلَةِ الْعِقَابِ لِلذَّنْبِ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَوْفَقُ بِالْحَقِّ. فَلَيْسَ ذكرُ الَعَفُوِ والمَغْفِرَةِ إِيمَاءً إِلَى التَّرْغِيبِ فِي الْعَفْوِ عَنِ الْمُشْرِكِينَ.
وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ تَعْلِيلًا لِلْوَعْدِ بِجَزَاءِ الْمُهَاجِرِينَ اتِّبَاعًا لِلتَّعْلِيلِ فِي قَوْلِهِ الْآيةِ: 59، السابقةِ: {إِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} لِأَنَّ الْكَلَامَ هنا اسْتِمْرارٌ لِمُعَالَجَةِ شُؤُونِهِمْ.
قولُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ} ذا: اسْمُ إِشارةٍ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ على أَنَّهُ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذوفٍ، والتَّقْديرُ: الأَمْرُ ذَلِكَ الَّذي قَصَصْنَا عَلَيْكَ، مِنْ إِنْجَازِ الوَعْدِ لِلْمُهاجِرينَ الَّذينَ قُتِلُوا في سبيلِ اللهِ أَوْ مَاتُوا؛ أَوْ: الأَمْرُ المُقَرَّرُ مِنْ صِفَاتِ اللهِ ـ تَعَالَى، الَّذي قَصَصْنَا عَلَيْكَ. واللَّامُ للبُعْدِ، والكافُ للخِطابِ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ جملةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قَوْلُهُ: {وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا} الواوُ: اسْتِئْنَافِيَّةٌ. و "مَنْ" اسْمُ شَرْطٍ جَازِمٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ، خَبَرُهُ جُمْلَةُ الجَوَابِ، أَوِ الشَّرْطِ، أَوْ هُمَا مَعًا، وَيَجوزُ أَنْ تَكونَ مَوْصُولَةً بِمَعْنَى "الَّذي" وَهِيَ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِداءِ أَيضًا. وَ "عَاقَبَ" فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ بِـ "مَنْ" عَلَى كَوْنِهَا شَرْطِيَّةً، أَوْ صِلَةً لِـ "مَنْ" الْمَوْصُولَةِ عَلى كَوْنِهَا مَوْصُولَةً. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ". و "بِمِثْلِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ للسَّبَبِيَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "عَاقَبَ"، و "مِثْلِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ مَبْنِيَّةٌ عَلى السُّكونِ في مَحلِّ الجرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ.
قولُهُ: {عُوقِبَ بِهِ} عُوقِبَ: فِعْلٌ مَاضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهُولِ، مُغَيَّرُ الصِّيغَةِ، مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، وَنَائِبُ فَاعِلِهِ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعُودُ عَلَى الموصولِ "مَنْ". و "بِهِ" الباءُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "عُوقِبَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "مَا" لَا مَحلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ} ثُمَّ: حَرْفُ عَطْفٍ وَتَرْتِيبٍ وتراخٍ. و "بُغِيَ" فِعْلٌ ماَضٍ مَبْنِيٌّ للمَجْهولِ، مبنيٌّ على الفتْحِ في محلِّ الجَزْمِ بـ "مَنْ" الشَّرطيَّةِ عَلَى كَوْنِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا إِنْ كَانَتْ شَرْطِيَّةً، أَوْ عَلى كَوْنِها صَلَةً لَهَا؛ إِنْ كَانَتْ مَوْصُولَةً. و "عَلَيْهِ" عَلَى: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "بُغِيَ" عَلَى كونِهِ نائبًا عنْ فاعِلِهِ، وَالهَاءُ: ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ "على".
قوْلُهُ: {لَيَنْصُرَنَّهُ اللهُ} اللَّامُ: هي المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ، و "يَنْصُرَنَّ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ لِاتِّصالِهِ بِنُونِ التَّوكِيدِ الثَّقِيلَةِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ، لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ وَالجَازِمِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمَفْعُولِيَّةِ. وَلَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّة هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ، تَقْديرُهُ: وَعِزَّتِي وَجَلَالِي لَيَنْصُرَنَّهُ اللهِ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ الجَزْمِ جَوَابًا لـ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، أَوْ فِي مَحَل الرَّفْعِ خَبَرًا لـ "مَنْ" الْمَوْصُولَةِ، وجُمْلَةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةِ، أَوِ المَوْصُوْلَةِ جوابُ القَسَمِ المُقَدَّرِ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ وَجَوَابِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ المُبْتَدَأِ "مَنْ".
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ} إِنَّ: حرفٌ ناصبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتَّوكيدِ. ولَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهَا منصوبٌ بها. و "لَعَفُوٌّ" اللامُ: هي لامُ التوكيدِ المُزَحْلَقَةِ، (حَرْفُ ابْتِداءٍ)، و "عفوٌّ" خَبَرُ "إِنَّ" الأَوَّلُ مَرفوعٌ بِها. وَ "غَفُورٌ" خَبَرُ الثاني مرفوعٌ بها أَيضًا. وَجُمْلَةُ "إِنَّ" واسْمُها وخَبَرُها جُمْلَةٌ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا قَبْلَهَا لا محلَّ لها مِنَ الإعْرابِ.