لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ
(59)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ} أَيْ: لَيُدْخلِنَّهمُ الجَنَّةَ. قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما. وهوَ وَعْدٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، وَقَدْ جاءَ مُؤَكَّدًا بِلَامِ التَّوْكيدِ المُزَحْلَقةِ زِيَادَةً فِي طَمْأْنَةِ نُفُوسِهِم، ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُمْ وأَرْضَاهُمْ.
وَ "مُدْخَلًا" مَصْدَرٌ مِيمِيٌّ، وَعَلَيْهِ فَهْوَ مَفْعُولٌ مُطْلَقٌ. وَقَالَ السُّدِّيُّ وَغَيْرُهُ هُوَ اسْمُ مَكَانٍ أُريدَ بِهِ الجَنَّةُ، وَقِيلَ هُوَ دَرَجَاتٌ فِيهَا مُخَصَّصَةٌ لأُولَئِكَ المُهَاجِرينَ. وَقِيلَ هُوَ خَيْمَةٌ مِنْ دُرَّةٍ بَيْضَاءَ لَا فَصَمَ فِيهَا وَلَا وَصَمَ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ مِصْرَاعٍ، واللهُ أعلمُ.
قَوْلُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} تَذْيِيلٌ، أَيْ: عَلِيمٌ بِمَا ضَحُّوا بِهِ مِنْ أَموالِهِمْ، وما تَجَشَّمُوهُ مِنَ الْمَشَاقِّ، وَمَا تَحَمَّلُوْهُ مِنَ المَصَاعِبِ فِي هِجْرَتِهِمْ مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَهْلِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ، وَمَا لَاقُوهُ مِنْ مَتَاعِبَ، ونِيَّاتِهِمْ في ذَلِكَ كُلِّهِ، وَسَيُجَازيهِمْ بِمَا بَذَلُوهُ مِنْ أَجْلِهِ. وَهُوَ ـ سُبْحانَهُ، حَلِيمٌ عَلَيْهِمْ رَحِيمٌ بِهِمْ، إِذَا فَرَطَ مِنْهُم تَقْصِيرٌ، فَيَتَجَاوَزُ عَنْ مُقَصِّرِهِمْ. فَقَدْ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، في تفسيرِ هَذِهِ الجُملةِ: عَلِيمٌ بِنِيَّاتِهِمْ، حَلِيمٌ عَنْ عِقَابِهِمْ. انظُرْ تَفْسيرَ الإِمَامِ القُرْطُبِيِّ: (12/89). وَتَفْسيرَ ابْنِ الجَوْزِيِّ: (5/446). وَتَفْسيرَ البَغَوِي أَيضًا: (5/397).
وَقِيلَ المَعْنَى: وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ بِالَّذي يُرْضِيهِمْ فَيُعْطِيهِمْ إِيَّاهُ، أَوْ لَعَلِيمٌ بِأَحْوَالِهِمْ وَأَحْوَالِ أَعْدَائِهِمْ الَّذينَ هَاجَرُوا مِنْ أَجْلِ قتالِهِم جِهَادًا في سَبِيلِ اللهِ، حَلِيمٌ فَلَا يُعَاجِلُ أَعْدَاءَهُمْ بعُقُوبَتِهِمْ وَنَصْرِ المُؤمنينَ عَليْهِمْ إِفْساحًا لهم في المَجالِ لَعَلَّهم يَتُوبُوا، ولِتَكْتَملَ اسْتِعْدَادَاتُ المُؤْمِنِينَ للقِتَالِ وَتَقْوَى شوكَتُهُمْ.
وَقد بيَّنَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الكَريمةُ مَزِيَّةَ الْمُهَاجِرِينَ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُم، ومكانتَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ، وعَظيمَ قَدْرِهم عنْدَ رَبِّهِمْ، لا سيمَّا مَنْ كانتْ هِجْرَتُهُ قَبْلَ فَتْحِ مَكَّةَ لأنَّ الخَطَرَ كانَ أَفْدَحَ والتَّضْحِيَةَ كانتْ أَعْظَمَ. قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورةِ الحَدِيدِ: {لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللهُ الْحُسْنَى وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ} الآيةَ: 10.
قولُهُ تَعَالى: {لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا} اللَّامُ: هِيَ المُوَطِّئَةُ لِلْقَسَمِ. وَ "يُدْخِلَنَّهُمْ" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفَتْحِ، لِاتِّصَالِهِ بِنُونِ التَّوْكِيدِ الثَّقيلَةِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعالى، والهاءُ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ فِي محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ. وَ "مُدْخَلًا" مَصْدَرٌ ميمِيٌّ مَنْصُوبٌ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ المُطْلَقَةٍ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ جَوَابٌ لِقَسَمٍ مَحْذوفٍ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ، والتقديرُ: واللهِ لَيَدْخِلَنَّهُمُ اللهُ مُدخلًا يَرْضَوْنُهُ. وَجُمْلَةُ القَسَمِ هَذِهِ بَدَلُ اشْتِمالٍ مِنْ قَوْلهَ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَها: {لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ}، لِأَنَّ كَرَامَةَ الْمَنْزِلِ مِنْ جُمْلَةِ الْإِحْسَانِ فِي الْعَطَاءِ، بَلْ هِيَ أَبْهَجُ لَدَى أَهْلِ الْهِمَمِ العَالِيَةِ، وَلِذَلِكَ قالَ: "مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ". وَيَجُوزُ أَنْ تكونَ جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {يَرْضَوْنَهُ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لتجرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفْعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِليَّةِ. والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المَفْعولِيَّةِ، والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صِفَةٌ لِمُدْخَلًا في محلِّ النَّصْبِ.
قولُهُ: {وَإِنَّ اللهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ} الوَاوُ: لِلِاسْتِئْنافِ، وَ "إِنَّ" حَرْفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ للتوكيدِ. وَلَفظُ الجَلَالَةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ. وَ "لَعَلِيمٌ" اللّامُ المُزَحْلَقَةُ للتَّوْكيدِ (حَرْفُ ابْتِدَاءٍ)، وَ "عَلِيمٌ" خَبَرُ "إنَّ" الأَوَّلُ مَرفوعٌ بها. و "حَلِيمٌ" خَبَرُ الثاني مرفوعٌ بِهَا أَيْضًا، وَجُمْلَةُ "إِنَّ" هذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ القَسَمِ، أَوْ مُسْتَأْنَفَةٌ وعلى كلا التقديرَيْنِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ.
قَرَأَ الجُمهورُ: {مُدْخَلًا} بِالضَّمِّ فَيجوزُ أَنْ يُرَادَ بِهِ الإِدْخَالُ، وَيَكونُ المَعْنَى أَنَّهُمْ إِذَا أُدْخِلُوا أُكْرِمُوا. وَيَجُوزُ أَنْ يُرادَ بِهِ المَوْضِعُ، وقرأَ نافعٌ وأهلُ المَدينةِ بِالْفَتْحِ فَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ بِهِ الدُّخُولُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكونَ المُرادُ مَوْضِعَهُ كَ "المَدْخَلِ". وقدْ دَلَّ قولُهُ: "لَيُدْخِلَنَّهُمْ" عَلَى الدُّخُولِ؛ لأنَّهُم إِذَا أُدْخِلُوا دَخَلُوا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَيُدْخِلَنَّهُمْ فَيَدْخُلُونَ مَدْخَلًا.