الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ
(56)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} رَدَّ المُلْكَ كُلَّهُ إِلَى صَاحِبِ المُلْكِ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، وَلَمْ يَتَخَصَّصْ مُلْكُهُ بِيَوْمٍ، وَأَرجعَ الأَسْبَابَ إِلَى مُسَبِّبِهَا، وَلَمْ تَتَحَدَّدْ لَهُ وَقْتِيَّةُ أَمْرِ، وَلَيسَ لِجَلَالِهِ ـ جَلَّ وَعَلَا، قَدْرٌ، وَلَكِنَّ الدَّعَاوَى في ذَلِكَ الْيَوْمِ تَنْقَطِعُ، وَالظُّنُون تَرْتَفِعُ، والتَّجَاوُزات تَمْتَنِعُ، وَالتَجْويزات تَتَلَاشَى وَتَنْقَشِعُ، فَلِلْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الوِفاقِ مِنْهُ نِعَمٌ، ولِلْكُفَّارِ وَذَوي الشِّقَاقِ والنِّفاقِ نِقَمٌ.
وَفِيهِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْيَوْمَ الْعَقِيمَ الَّذي تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ في الآيةِ السَّابِقَةِ إِنْ هُوَ إِلَّا يَوْمُ القِيامَةِ لَا غيْرَ، لِأَنَّهُ حَصَرَ المُلْكَ في ذلكَ اليومِ فِي ذَاتِهِ المُقدَّسَةِ الْعَلِيَّةِ، فَلَا مَالِكَ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ سِوَاهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالَى.
أَمَّا فِي أَيَّامِ الدُّنْيَا فَقَدْ مَلَّكَ بَعْضَ الأَمْرِ لِعِبَادِهِ ـ فِي الظَّاهِرِ، بِحَسَبِ مَا اقْتَضَتْهُ حِكْمَتُهُ، أَمَّا فِي ذَلِكَ اليَوْمِ فَقَدْ بَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ هُوَ الْحَاكِمُ المُطْلَقُ الَّذي يَحْكُمُ بَيْنَ خلْقِهِ وَعَلَيْهِمْ، وَلَا حَاكِمَ حِينَئِذٍ سِوَاهُ. وَفي ذَلِكَ زَجْرٌ للكافرينَ عَنْ كُفْرِهِمْ، وللمُشْرِكينَ عنْ شِرْكِهِمْ، وللعاصينَ عَنْ عِصْيانِهِم.
وَالتَّنْوِينُ فِي "يَوْمَئِذٍ" يَنُوبُ عَنْ جملةٍ، والتَقْدِيرُ: الْمُلْكُ يَوْمَ يُؤْمِنُونَ، أَوْ يَوْمَ تَزُولُ مِرْيَتُهُمْ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: وَلا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} بَيَّنَ لنا ـ سُبْحانَهَ، كَيْفَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَذَلِكَ بِأَنَّهُ يُصَيِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذينَ عمِلوا الأعْمالَ الصَّالِحَةَ إِلَى جَنَّاتِ النَّعِيمِ، حيثُ يَتَنَعَّمونَ فِيها ويَتَمَتَّعونَ بِما أَعَدَّهُ لَهُمْ مِمَّا لَذَّ وَطَابَ مِنَ المَلَاذِّ المادِيَّةِ والمَعْنَوَيَّةِ، ما لا عَيْنٌ رَأَتْ، ولا أُذُنٌ سَمِعَتْ، ولا خَطَرَ على قلبِ بشَرٍ، نَعيمًا لا تَعَبَ مَعَهُ، ولا شَقاءَ بَعْدَهُ، خَالدينَ فِيهَا أَبَدًا، لَا يَمُوتُونَ، وَلَا هُمْ مِنْهَا يَخْرُجونَ، أَوْ يُخْرَجُونَ، حياةً لا تنقضي ونَعِيمًا لَا يَنْفَدُ.
قولُهُ تَعَالى: {الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ للهِ} الْمُلْكُ: مَرْفوعٌ بالابْتِداءِ. وَ "يَوْمَئِذٍ" يَوَمَ: ظرفُ زمانٍ مُبهَمٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الزَّمانيَّةِ مُضَافٌ إِلَى مِثْلِهِ، مُتَعَلِّقٌ بِالِاسْتِقرَارِ الَّذي تَعَلَقَ بِهِ الخَبَرُ، وهُوَ مُضافٌ. وَ "إِذْ" اسْمٌ ظَرْفِيٌّ مَبْنيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ، وَالْتَّنْوِينُ هُوَ تَنْوينُ العِوَضِ عَنْ جُمْلَةٍ مَحْذُوفَةٍ، وَالتَّقْديرُ: يَوْمَ يُؤْمِنُونَ. وَهُوَ لِازِمٌ لِزَوالِ المِرْيَةِ. أَوْ: يَوْمَ تَزُولُ مِرْيَتُهم. وَ "للهِ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ المُبْتَدَأِ، وَلَفْظُ الجَلَالةِ "اللهُ" مَجْرُورٌ بحَرْفِ الجَرِّ وَالجُمْلَةُ الِاسْمِيَّةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ} يَحْكُمُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جَوَازًا تَقَديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى "اللهِ" ـ تَعَالى. وَ "بَيْنَهُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعتِبارِيَّةِ مُتَعَلِّقٌ بـ "يَحْكُمُ"، وهوَ مُضافٌ، والهَاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ: لِتَذْكيرِ الجَمْعِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا بَيَانِيًّا لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ، كَأَنَّهُ قِيلَ: إِذَا كَانَ المُلْكُ للهِ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، فَمَاذَا يَصْنَعُ بِهِمْ. وَيَجُوزُ أَنْ تَكونَ في محَلِّ النَّصْبِ عَلَى الحَالِ مِنِ اسْمِ اللهِ ـ تَعَالَى وَعَزَّ.
قولُهُ: {فَالَّذِينَ} الفَاءُ: هِيَ الفَصِيحَةُ؛ أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتَ أَنَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ، وَأَرَدْتَ بَيَانَ كَيْفِيَّةِ الحُكْمِ بَيْنَهُمْ، فَأَقُولُ: "الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ"، وَ "الَّذينَ" اسْمٌ مَوْصولٌ مَبنيٌّ على الفتْحِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالابْتِدَاءِ، خبرُهُ مَحْذوفٌ تقديرُهُ: "كائِنُونَ"، وَهَذِهِ الجُمْلةُ الاسْميَّةُ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ، مَقُولُ القولِ لِجَوابِ "إِذَا" المُقَدَّرَةِ، وَجُمْلَةُ "إِذَا" المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ فليسَ لَهَا مَحَلٌّ مِنَ الإِعْرَابِ.
قَوْلُهُ: {آمَنُوا} فِعْلٌ ماضٍ مبنِيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجَماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الذينَ" لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "عَمِلوا" مثْلُ "آمَنُوا" مَعطوفٌ عليْهِ. و "الصَّالِحاتِ" مَفْعُولُهُ مَنْصُوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكَسْرةُ نِيابةً عَنِ الفتْحَةِ لأَنَّهُ جَمْعُ المُؤنَّثِ السَّالمُ. والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آمَنُوا"، عَلَى كَوْنِها صِلَةَ الاسْمِ المَوْصُولِ فَلَا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ} فِي: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِخَبَرِ "الَّذينَ" المَحْذوفِ، وَ "جَنَّاتِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ"، وَهُوَ مُضافٌ، وَ "النَّعِيمِ" مَجْرُورٌ بالإِضافَةِ إِلَيْهِ.