لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ
(28)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} لِيَشْهَدُوا: لِيَحْضُرُوا مَشَاهِدَ مَكَّةَ وَمَشَاعِرَهَا، ولِيُحَصِّلُوا مَنَافِعَ لَهُمْ، إِذْ يُحَصِّلُ كُلُّ وَاحِدٍ مَا فِيهِ نَفْعُهُ في الدُّنْيا والآخِرةِ. وَالجارُّ هُنَا مُتَعَلِّقٌ بِـ {يَأْتُوكَ} مِنَ الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا، إِذْ هُوَ عِلَّةُ إِتْيَانِهِمُ المُترتِّبِ عَلَى الأَذانِ في النَّاسِ بالحجِّ، فَشُهُودُ المَنَافِعِ هُوَ عِلَّةً الأَذانِ بِالْحَجِّ. وَالضَمِيرُ في "يَشْهَدُوا" عائدٌ عَلى النَّاسِ المَعْنِيينَ بالأَذانِ مِنَ قَوْلِهِ في الآيَةِ الَّتِي قَبْلَهَا: {وَأَذِّنْ في النَّاسِ بالحَجِّ يَأْتُوكَ ..}.
وَقَدِ اخْتُلِفَ بالمُرادِ مِنْ قَوْلِهِ: "مَنَافِعَ لَهُمْ" فقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، فِيما ذَكَرَهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ: (3/51، أَ)، وَالطَّبَرِيُّ: (17/146) مِنْ رِوَايَةِ أَبي رَزينٍ: هِيَ الأَسْوَاقُ وَمَا فِيهَا مِنْ تَبَضُّعٍ واتِّجارٍ حلالٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" قَالَ: أَسْوَاقًا كَانَتْ لَهُمْ، مَا ذَكَرَ اللهُ مَنَافِعَ إِلَّا الدُّنْيَا. وَبِهِ قَالَ سَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ، والسُّدِّيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، وَاخْتَارَهُ ابِنُ قُتَيْبَةَ في "غَريبُ القُرْآنِ" لَهُ: (ص: 292). وَعَليْهِ فَالْمَنَافِعُ دُنْيَويَّةٌ محضَةٌ.
وَقَصَر العَوْفِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ المُسَيَّبِ، والبَاقِرُ هَذِهِ المَنَافِعَ على مَنَافِعِ الآخَرَةِ فَقالوا: هِيَ العَفْوُ وَالمَغْفِرَةُ. ذَكَرَهُ عَنْهُمُ الإمامُ الثَّعْلَبِيُّ في تَفْسيرِهِ "الكَشْفُ وَالبَيَانَ": (3/51 ب). ورَوَاهُ الإمامُ الطَّبَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ "جامعُ العلومِ والحكمِ" (17/147) عَنِ الإمامِ البَاقِرَ فَقَطْ. وهوَ ما اخْتَارَه أَبو إِسْحَاقٍ الزَّجَّاجُ في "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" له: (3/423)، قَالَ: لِيَشْهَدُوا مَا نَدَبَهُمُ اللهُ إِلَيْهِ مِمَّا فِيهِ النَّفْعُ لَهُمْ فِي آخِرَتِهِمْ.
وَجَمَعَ ابْنُ عبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، بَيْنَ المَنَافِعِ الدُّنْيَوِيَّةِ وَالأُخْرَويَّةِ في رِوَايَةِ عَطَاءٍ عَنْهُ. وَأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، فِي قَوْلِهِ: "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" قَالَ: مَنَافِعَ فِي الدُّنْيَا وَمَنَافعَ فِي الْآخِرَةِ، فَأَمَّا مَنَافِعُ الْآخِرَةِ فَرُضْوَانُ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ. وَأَمَّا مَنَافِعُ الدُّنْيَا فَمَا يُصِيبُونَ مِنْ لُحُومِ الْبُدْنِ ـ فِي ذَلِك الْيَوْمِ، وَالذَّبَائحِ، والتِّجَاراتِ. وَهُوَ الأَرْجَحُ، وَهُوَ مَا قَالَهَ أَيْضًا مُجَاهِدٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: يَعْنِي: التِجَارَةَ وَغَيْرَها، وَمَا يُرْضِي اللهَ ـ تَعَالَى، مِنْ العَمَلِ الصَّالحِ في شأْنِ الدُّنيا الدِّينِ. فقَد أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ "لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ" قَالَ: الْأَجْرَ فِي الْآخِرَة وَالتِّجَارَة فِي الدُّنْيَاِ. واختارهُ الطَّبَرِيُّ فَقَالَ: وَأَوْلَى الأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ: قَوْلُ مَنْ قَالَ: عَنَى بِذَلِكَ: لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ مِنَ العَمَلِ الذي يُرْضِي اللهَ، وَالتِّجارَةِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ عَمَّ لَهُمْ مَنَافِعَ جَمِيعِ مَا يُشْهَدُ لَهُ المَوْسِمُ، وَتُؤْتَى لَهُ مَكَّةُ أَيَّامَ المَوْسِمِ مِنْ مَنَافِعِ الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَلَمْ يُخَصَّصْ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا مِنْ مَنَافِعِهِم بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ، فَذَلِكَ عَلى العُمُومِ فِي المَنَافِعِ الَّتِي وُصِفَتْ. تَفْسيرُ "جامعُ العلومِ والحِكَمِ" للطَّبريِّ: (17/147).
وَمِنْ مَنَافِعِ الحَجِّ اجْتِمَاعُ أَهْلِ التَّوْحِيدِ فِي صَعِيدٍ وَاحِدٍ، فَيَتَعَارَفُوا فِيمَا بَيْنَهُمْ، وَيَتَلَقَّى بَعْضُهُمْ عَنْ بَعْضٍ مَا بِهِ كَمَالُ إِيمَانِهِ، والتزامُهم بدينِهِمْ، وَيَتَدارَسُونَ كِتَابَهُم وشريعتَهم، وَيَتَبَادَلُونَ الأَحاديثَ فِي كلِّ مَا فيهِ صَالِحُ المُسْلِمِينَ وَعِزَّتُهُم، ووَحْدَةُ كَلِمَتِهِمْ، ورَصُّ صُفُوفِهِم، وَحَلُّ مُشكلاتِهِمْ، فهُوَ مُؤتمُرٌ سَنَويٌّ عامٌّ لِجَمِيعِ المُسْلمينَ مِنْ شتَّى بِقَاعِ الأَرضِ وأَصْقاعِها. وَهَذَا ما أَفادَهُ تَنْكِيرُ الْـ "مَنَافِع"، فَالتَنْكِيرُ إنَّما هُوَ لِلتَّعْظِيمِ والتَّكْثيرِ، لِيَشْمَلَ كُلَّ مَصَالِحُ المُسْلمينَ الدِّينِيَّةُ وَالدُّنْيَوِيَّةُ.
قولُهُ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ} المُرادُ هنا في هَذِهِ الجملةِ ذِكْرُ اسْمِ اللهِ على الذَّبيحَةِ بِدَلِيلِ قولِهِ بعدَهَا "عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ". قال الزَّجَّجُ أَبُو إِسْحَاق: لِأَنَّ الذِّكْرَ هَاهَنَا يَدُلُّ عَلَى التَّسْمِيَةِ عَلَى مَا يُنْحَرُ لِقَوْلِهِ: "عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ". "مَعَاني القُرْآنِ وإِعْرابُهُ" له: (3/423). يَعْنِي أَنَّ هَذِهِ الأَيَّامَ يَجِبُ أَنْ تُخْتَصَّ بِأَيَّامِ الذَّبْحِ، لِأَنَّ قَوْلَهُ: "لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ"، المُرَادُ بِهِ التَّسْمِيَةُ عِنْدَ الذَّبْحِ. كَأَنْ يَقَوْلَ: بِاسْمِ اللهِ وَاللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ وَلَكَ. أَوْ يَقْرَأ عِنْدَ الذَّبْحِ قولَهَ مِنْ سُورَةِ الأَنْعَامِ: {إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي} الآيةَ: 162. وَقَالَ قَتَادَةُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: كَأَنْ تقولَ إِذَا ذَبَحْتَ نَسيكَتَكَ: بِسْمِ اللهِ واللهُ أَكْبَرُ، اللَّهُمَّ مِنْكَ عَنْ فُلَانِ. ذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدَّرِّ المَنْثُورِ": (6/37). وَعَزَاهُ لِعَبْدِ بْنِ حُمَيْدٍ، وَابْنِ أَبي حَاتِمٍ.
وَذلكَ في مُقابِلِ ما كانَ يَفْعَلُهُ الْكُفَّارُ عندَما يَذْبَحُونَ ذبائحَهم وقرابينَهُمْ حيثُ كانوا يذكرونَ أَسْمَاءِ أَصْنَامِهِمْ عَلَيْها، فَبَيَّنَ اللهُ ـ تَعَالى، أَنَّ الْوَاجِبَ عَلَى المُسْلِمِ الذَّبْحُ عَلَى اسْمِ اللهِ ربِّهِ ـ تباركَتْ أَسْماؤُهُ. فقدْ خُصَّ ذِكْرَ اسْمِ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ مِنَ بينِ الْمَنَافِعِ. وَذَلِكَ عِنْدَ نَحْرِهِمُ الْهَدَايَا. الوَاجِبَةِ مِنْهَا وَالْمُتَطَوَّعِ بِهَا. وَقَدْ بَيَّنَتْهُ شَرِيعَةُ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، مِنْ قَبْلُ بِمَا لَمْ يَبْلُغْ إِلَيْنَا، وَبَيَّنَتْهُ الشَّريعةُ الْإِسْلَامُيَّةُ بِمَا فِيهِ الكِفَايةُ.
وَاخْتَلَفوا فِي وَقْتِ الذَّبْحِ يَوْمَ النَّحْرِ، فَقَالَ مَالِكٌ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: بَعْدَ صَلَاةِ الْإِمَامِ وَذَبْحِهِ، إِلَّا أَنْ يُؤَخِّرَ (أَي الإمامُ) تَأْخِيرًا يَتَعَدَّى فِيهِ، فَيَسْقُطَ الِاقْتِدَاءُ بِهِ. وَرَاعَى أَبُو حَنِيفَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، الْفَرَاغَ مِنَ الصَّلَاةِ (أَيْ صلاةِ العيدِ) دُونَ ذَبْحٍ. أَمَّا الشَّافِعِيُّ ـ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، فَرَاعَى دُخُولَ وَقْتِ الصلاةِ وَمِقْدارَ مَا تُوقَعُ فِيهِ الْخُطْبَتَيْنِ (خُطْبتَيْ صلاةِ العيدِ)، فَقد اعْتُبِرَ الْوَقْتُ دُونَ الصَّلَاةِ. هَذِهِ رِوَايَةُ الْمُزَنِيِّ عَنْهُ، وَهذا هُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ. وَذَكَرَ الرَّبِيعُ عَنِ الإمامِ الْبُوَيْطِيِّ أَنَّهُ قَال: قَالَ الإمامُ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يَذْبَحُ أَحَدٌ حَتَّى يَذْبَحَ الْإِمَامُ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ مِمَّنْ لَا يَذْبَحُ، فَإِذَا صَلَّى وَفَرَغَ مِنَ الْخُطْبَةِ حَلَّ الذَّبْحُ. وَهَذَا كَقَوْلِ مَالِكٍ. وَقَالَ الإمامُ أَحْمَدُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ: إِذَا انْصَرَفَ الْإِمَامُ فَاذْبَحْ. وَهُوَ قَوْلُ إِبْرَاهِيمَ النَّخعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ. قالَ الإمامُ القُرطبيُّ في تفسيرِهِ "الجامعُ لأحكامِ القرآنِ: وَأَصَحُّ هَذِهِ الْأَقْوَالِ هوَ قولُ الإمامِ مالكٍ، لِحَدِيثِ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، يَوْمَ النَّحْرِ بِالْمَدينَةِ، فَتَقَدَّمَ رِجَالٌ وَنَحَرُوا، وَظَنُّوا أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَدْ نَحَرَ، فَأَمَرَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَنْ كَانَ نَحَرَ أَنْ يُعِيدَ بِنَحْرٍ آخَرَ، وَلَا يَنْحَرُوا حَتَّى يَنْحَرَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ وَالتِّرْمِذِيُّ، وَقَالَ: وَفِي الْبَابِ عَنْ جَابِرٍ وَجُنْدُبٍ وَأَنَسٍ وَعُوَيْمِرِ بْنِ أَشْقَرَ وَابْنِ عُمَرَ وَأَبِي زَيْدٍ الْأَنْصَارِيِّ، وَهَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ، وَالْعَمَلُ عَلَى هَذَا عِنْدَ أَهْلِ الْعِلْمِ أَلَّا يُضَحَّى بِالْمِصْرِ حَتَّى يُضَحِّي الْإِمَامُ.
وَقَدِ احْتَجَّ أَبُو حَنِيفَةَ بِحَدِيثِ الْبَرَاءِ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، وَفِيهِ: ((وَمَنْ ذَبَحَ بَعْدَ الصَّلَاةِ فَقَدْ تَمَّ نُسُكُهُ وَأَصَابَ سُنَّةَ الْمُسْلِمِينَ)). خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ أَيْضًا. فَعَلَّقَ الذَّبْحَ عَلَى الصَّلَاةِ، وَلَمْ يَذْكُرِ الذَّبْحَ، وَحَدِيثُ جَابِرٍ يُقَيِّدُهُ. وَكَذَلِكَ حَدِيثُ الْبَرَاءِ أَيْضًا، قَال، قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((أَوَّلُ مَا نَبْدَأُ بِهِ فِي يَوْمِنَا هَذَا أَنْ نُصَلِّيَ، ثُمَّ نَرْجِعُ فَنَنْحَرُ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَصَابَ سُنَّتَنَا)). الْحَدِيثَ. وَقَالَ أَبُو عُمَرَ بْنُ عَبْدِ الْبَرِّ: لَا أَعْلَمُ خِلَافًا بَيْنَ الْعُلَمَاءِ أَنَّ مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلَاةِ وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْمِصْرِ أَنَّهُ غَيْرُ مُضَحٍّ، لِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ: ((مَنْ ذَبَحَ قَبْلَ الصَّلاةِ فَتِلْكَ شَاةُ لَحْمٍ)).
وَأَمَّا أَهْلُ الْبَوَادِي وَمَنْ لَا إِمَامَ لَهُ فَمَشْهُورُ مَذْهَبِ مَالِكٍ أَنَّهُ يَتَحَرَّى وَقْتَ ذَبْحِ الْإِمَامِ، أَوْ أَقْرَبِ الْأَئِمَّةِ إِلَيْهِ. وَقَالَ رَبِيعَةُ وَعَطَاءٌ فِيمَنْ لَا إِمَامَ لَهُ: إِنْ ذَبَحَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ لَمْ يَجْزِهِ، وَيَجْزِيهِ إِنْ ذَبَحَ بَعْدَهُ. وَقَالَ الحَنَفيَّةُ: يَجْزِيهِمْ مِنْ بَعْدِ الْفَجْرِ. وَهُوَ قَوْلُ ابْنِ الْمُبَارَكِ، ذَكَرَهُ عَنْهُ التِّرْمِذِيُّ. وَتَمَسَّكُوا بِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ". فَأَضَافَ النَّحْرَ إِلَى الْيَوْمِ. وَهَلِ الْيَوْمُ مِنْ طُلُوعِ الْفَجْرِ أَوْ مِنْ طُلُوعِ الشَّمْسِ، هُمَا قَوْلَانِ للعُلَماءِ. وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ لَا يَجْزِي ذَبْحُ الْأُضْحِيَةِ قَبْلَ طُلُوعِ الْفَجْرِ مِنْ يَوْمِ النَّحْرِ. وَآخِرُ أَيَّامِ الذَّبْحِ غُروبُ شَمْسِ اليَوْمِ الثَالِثِ عَشَرَ مِنْ شَهْرِ ذي الحِجَّةَ، فيكونُ قدْ تَمَّ أَيامُ العَيدِ الأَرْبَعَةُ، ويجوزُ الذَّبْحُ في الليالي خِلَالَ هَذِهِ الأَيَّامِ جميعِهِا، ولا خلافَ بينَ العُلَماءِ في ذَلِكَ.
قولُهُ: {فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ} وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا في أَيَّامِ النَّحْرِ، كمْ عدَدُها؟. فَقَالَ مَالِكٌ أَبُو حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيُّ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُم: هِيَ ثَلَاثَةٌ، يَوْمُ النَّحْرِ وَيَوْمَانِ بَعْدَهُ. وَقدْ رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ الْأَوْزَاعِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، هيَ: أَرْبَعَةٌ، يَوْمُ النَّحْرِ وَثَلَاثَةٌ بَعْدَهُ. وَقد رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ أَمسرِ المُؤمنينَ عَلِيٍّ، وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَابْنِ عُمَرَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنِ ابْنِ سِيرِينَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ يَوْمُ النَّحْرِ خَاصَّةً وَهُوَ الْعَاشِرُ مِنْ ذِي الْحِجَّةِ. وَرُويَ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، رَضِيَ اللهُ عنهُما، أَنَّهُمَا قَالَا: النَّحْرُ فِي الْأَمْصَارِ يَوْمٌ وَاحِدٌ وَفِي مِنًى ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. وَنُقِلَ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي هَذَا المَوضوعِ ثَلَاثُ رِوَايَاتٍ: إِحْدَاهَا أَنَّهُ قالَ كَمَا قَالَ مَالِكٌ، وَالثَّانِيَةُ أَنَّهُ كَمَا قَالَ الشَّافِعِيُّ، وَالثَّالِثَةُ أَنَّهُ قالَ بِأَنَّ أَيامَ عِيدِ النَّحْرِ إِلَى آخِرِ يَوْمٍ مِنْ أَيَّامِ ذِي الْحِجَّةِ، فَإِذَا أَهَلَّ هِلَالُ الْمُحَرَّمِ فَلَا أَضْحَى. وَهُوَ قَوْلُ ضعيفٌ لِسُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ وَأَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ، فَقَدْ رَوَيَا حَدِيثًا مُرْسَلًا مَرْفُوعًا خَرَّجَهُ الدَّارَقُطْنِيُّ: الضَّحَايَا إِلَى هِلَالِ ذِي الْحِجَّةِ، وَهوَ مُخالفٌ لِقَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ"، فإِنَّهُ جَمْعُ قِلَّةٍ، وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: أَنَّ الْأَضْحَى يَوْمُ النَّحْرِ وَسِتَّةُ أَيَّامٍ بَعْدَهُ، لَكِنَّ الْمُتَيَقَّنَ مِنْهُ الثَّلَاثَةُ، وَمَا بَعْدَ الثَّلَاثَةِ غَيْرُ مُتَيَقَّنٍ، فَلَا يُعْمَلُ بِهِ. فإنَّ الْعُلَمَاءَ قَدْ أَجْمَعوا عَلَى أَنَّ يَوْمَ النَّحْرِ هُوَ يَوْمُ أَضْحَى، وَأَجْمَعُوا عَلَى أَنْ لَا أَضْحَى بَعْدَ انْسِلَاخِ ذِي الْحِجَّةِ، وَلَا يَصِحُّ سِوَى مَالِكٍ وَأَبي حَنِيفَةَ. وَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ فإنَّهما مَرْوِيَّانِ عَنِ الصَّحَابَةِ ـ رُضْوانُ اللهِ عليهِمْ. وَمَا خَرَجَ عَنْهُما فَمَتْرُوكٌ.
وَاخْتَلَفُوا أَيْضًا فِي لَيَالِي النَّحْرِ هَلْ يَجُوزُ الذَّبْحُ فيها؟ فَالمَشْهورُ عَنْ مَالِكٍ وَجُمْهُورُ أَهلِ الرَّأْيِ أَنَّهُ لَا يَجوزُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: "وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ" فَذَكَرَ الْأَيَّامَ، وَذِكْرُ الْأَيَّامِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الذَّبْحَ فِي اللَّيْلِ لَا يَجُوزُ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ، وَالشَّافِعِيُّ، وَأَحْمَدُ، وَإِسْحَاقُ، وَأَبُو ثَوْرٍ: بجوازِهِ لأَنَّ اللَّيَالِي دَاخِلَةٌ فِي الْأَيَّامِ وَيَجْزِي الذَّبْحُ فِيهَا. وَرُوِيَ قولٌ لِمَالِكٍ بالجوازِ، وَفرَّقَ أَشْهَبُ بَيْنَ الْهَدْيِ وَالضَّحِيَّةِ، فَأَجَازَ الْهَدْيَ لَيْلًا وَلَمْ يُجِزِ الضَّحِيَّةَ لَيْلًا.
قولُهُ: {عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} المَعْنَى: وَلْيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ عَلَى بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ عِنْدِ نَحْرِ الْأَنْعَامِ أَوْ ذَبْحِهَا. فَـ "عَلى" مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَذْكُرُوا"، وَهُوَ حَرفُ جَرٍّ لِلِاسْتِعْلَاءِ الْمُجَازِيِّ الَّذِي هُوَ بِمَعْنَى الْمُلَابَسَةِ وَالْمُصَاحَبَةِ، أَيْ عَلَى الْأَنْعَامِ. فَهُوَ عَلَى تَقْدِيرِ مُضَافٍ. وَ "مَا" مَوْصُولَةٌ، وَ "مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ" بَيَانٌ لِمَدْلُولِ "مَا". وَقَدْ أُدْمِجَ حُكْمُ ذِكْرِ اسْمِ اللهِ ـ تَعَالَى، فِي الِامْتِنَانُ عَلَيْهِمْ بِما رَزَقَهُمْ مِنْ تِلْكَ الْأَنْعَامِ، وَهَوَ تَعْرِيضٌ بِطَلَبِ الشُّكْرِ عَلَى هَذَا الرِّزْقِ بِإِخْلَاصِ الْعِبَادَةِ للهِ ـ تَعَالى، وَإِطْعَامِ الْمُحْتَاجِينَ مِنْ عِبَادِهِ مِنْ لُحُومِ هَذِهِ الضَّحايا. وَبَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ هِيَ الْأَنْعَامُ ذَاتُها، فَهُوَ كَما يَقَولونَ: مَسْجِدُ الْجَامِعِ.
وَالْأَنْعَامُ المَذْكورةُ هُنَا هِيَ: الْإِبِلُ، وَالْبَقَرُ، وَالْغَنَمُ. وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِي اللهُ تَعَالى عَنْهُ، أَنَّهُ قالَ: "عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ"، يَعْنِي الْبُدْنَ.
قوْلُهُ: {فَكُلُوا مِنْهَا} يَحْتَمِلُ هَذا الْأَمْرُ بِالْأَكْلِ مِنْهَا أَنْ يَكُونَ لِلْوُجُوبِ فِي شَرِيعَةِ خَلِيلَ الرَّحمنِ سيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ، وعَلَيْهِ فَالْخِطَابُ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "فَكُلُوا" مُتَوَجَّهٌ بِهِ لِإِبْرَاهِيمَ وَمَنْ مَعَهُ مِنَ المُؤْمِنِينَ. والأَمْرُ بِقَوْلِهِ: "فَكُلُوا مِنْها" هُوَ لِلنَّدْبِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ.
وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَأْكُلَ المَرْءُ مِنْ أُضْحِيَتِهِ وَهَدْيِهِ، وَأَنْ يَتَصَدَّقَ بِالْأَكْثَرِ، وَجُوِّزَ أَنْ يَتَصَّدَقَ بِالْكُلِّ وَأنْ يَأْكُلَ الْكُلِّ. وَشَذَّتْ طَائِفَةٌ فَأَوْجَبَتِ الْأَكْلَ وَالْإِطْعَامَ عَمَلًا بِظَاهِرِ الْآيَةِ، وبِقَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((فَكُلُوا وَادَّخِرُوا وَتَصَدَّقُوا)). وَرأَى الْبعضُ في قَوْلِهِ: "فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا" دَليلًا عَلَى عَدَمِ جَوازِ بَيْعِ الكُلِّ وَلَا التَّصَدُّقُ بِهِ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي سُنَنِهِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: هِيَ رُخْصَةٌ، إِنْ شَاءَ أَكَلَ، وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ، فهوَ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ في الآيةِ الثانيةِ مِنْ سُورةِ المائدَةِ: {وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا}.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطاءٍ: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا" قَالَ: إِذَا ذَبَحْتُمْ فَاهْدُوا، وَكُلُوا، وأَطْعِمُوا، وَأَقْنُوا لُحُومَ الْأَضَاحِي عِنْدكُمْ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي صَالِحٍ الْحَنَفِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البائِسَ الْفَقِيرَ" قَالَ: هِيَ فِي الْأَضَاحِي.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عَطاءٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: إِنْ شَاءَ أَكَلَ مِنَ الْهَدْيِ وَالْأُضْحِيَّةِ وَإِنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا البائِسَ الْفَقِيرَ" أَنِّ ابْنَ مَسْعُودٍ كَانَ يَقُولُ لِلَّذي يَبْعَثُ بِهَدْيِهِ مَعَهُ: كُلْ ثُلُثًا، وَتَصَدَّقْ بِالثُّلثِ، وَاهْدِ لِآلِ عُتْبَةَ ثُلُثًا.
وَأَمَّا ذَبائِحُ الْكَفَّارَاتِ فَلَا يَجوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا أَصْحَابُهَا. وَمَشْهُورُ مَذْهَبِ الإمامِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ لَا يَأْكُلُ مِنْ ثَلَاثٍ: جَزَاءِ الصَّيْدِ، وَنَذْرِ الْمَسَاكِينِ، وَفِدْيَةِ الْأَذَى، وَيَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ إِذَا بَلَغَ مَحِلَّهُ، وَاجِبًا كَانَ أَوْ تَطَوُّعًا. وَقد وَافَقَهُ عَلَى ذَلِكَ جَمَاعَةٌ مِنَ علماءِ السَّلَفِ وَفُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ، واختلَفوا فيما إِذا أَكَلَ مِمَّا مُنِعَ مِنْهُ هَلْ يَغْرَمُ قَدْرَ مَا أَكَلَ، أَوْ يَغْرَمُ هَدْيًا كَامِلًا قَوْلَانِ والأوَّلُ هُوَ الأَرْجحُ. وَكَذَلِكَ إِذا نَذَرَ هَدْيًا لِلْمَسَاكِينِ فَأَكَلَ مِنْهُ لَا يَغْرَمُ إِلَّا مَا أَكَلَ، لِأَنَّ النَّحْرَ قَدْ وَقَعَ، وَالتَّعَدِّيَ إِنَّمَا هُوَ عَلَى اللَّحْمِ، فَيَغْرَمُ قَدْرَ مَا تَعَدَّى فِيهِ، فإنَّ قَوْلَهُ: {وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ} مِنَ الآيةِ التاليَةِ يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِخْرَاجِ النَّذْرِ إِنْ كَانَ دَمًا أَوْ هَدْيًا أَوْ غَيْرَهُ، وَيَدُلُّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ النَّذْرَ لَا يَجُوزُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَفَاءً بِالنَّذْرِ، وَكَذَلِكَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى، لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَنْ يَأْتِيَ بِهِ كَامِلًا مِنْ غَيْرِ نَقْصِ لَحْمٍ وَلَا غَيْرِهِ، فَإِنْ أَكَلَ مِنْ ذَلِكَ كَانَ عَلَيْهِ هَدْيٌ كَامِلٌ، وَهَلْ يَغْرَمُ قِيمَةَ اللَّحْمِ أَوْ يَغْرَمُ طَعَامًا، فَالْأَصَحُّ الأَوَّلُ، لِأَنَّ الطَّعَامَ إِنَّمَا هُوَ فِي مُقَابَلَةِ الْهَدْيِ كُلِّهِ عِنْدَ تَعَذُّرِهِ عِبَادَةً، وَلَيْسَ حُكْمُ التَّعَدِّي حُكْمَ العِبَادَةِ. فَإِنْ عَطِبَ مِنْ هَذَا الْهَدْيِ الْمَضْمُونِ الَّذِي هُوَ جَزَاءُ الصَّيْدِ وَفِدْيَةُ الْأَذَى وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ شَيْءٌ قَبْلَ مَحِلِّهِ أَكَلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ، وَأَطْعَمَ مِنْهُ الْأَغْنِيَاءَ وَالْفُقَرَاءَ وَمَنْ أَحَبَّ، وَلَا يَبِيعُ مِنْ لَحْمِهِ وَلَا جِلْدِهِ وَلَا مِنْ قَلَائِدِهِ شَيْئًا. لِأَنَّ الْهَدْيَ الْمَضْمُونَ إِذَا عَطِبَ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ كَانَ عَلَيْهِ بَدَلَهَ، لِذَلِكَ جَازَ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ صَاحِبُهُ وَيُطْعِمَ. فَإِذَا عَطِبَ الْهَدْيُ التَّطَوُّعُ قَبْلَ أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهُ وَلَا يُطْعِمَ، لِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنْ عَلَيْهِ بَدَلُهُ خِيفَ أَنْ يَفْعَلَ ذَلِكَ بِالْهَدْيِ وَيَنْحَرَ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَعْطَبَ، فَاحْتِيطَ عَلَى النَّاسِ، وَبِذَلِكَ مَضَى الْعَمَلُ. وَرَوَى أَبُو دَاوُدَ عَنْ نَاجِيَةَ الْأَسْلَمِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ الله ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَ مَعَهُ بِهَدْيٍ وَقَالَ: ((إِنْ عَطِبَ مِنْهَا شيءٌ فَانْحَرْهُ، ثُمَّ اصْبُغْ نَعْلَهُ فِي دَمِهِ، ثُمَّ خَلِّ بَيْنَهُ وَبَيْنَ النَّاسِ)). وَبِهَذَا الْحَدِيثِ قَالَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ، وَأَحْمَدُ وَإِسْحَاقُ وَأَبُو ثَوْرٍ وَأَصْحَابُ الرَّأْيِ وَمَنِ اتَّبَعَهُمْ فِي الْهَدْيِ التَّطَوُّعِ: لَا يَأْكُلُ مِنْهَا سَائِقُهَا شَيْئًا، وَيُخَلَّى بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ يَأْكُلُونَهَا. وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: ((وَلَا تَأْكُلُ مِنْهَا أَنْتَ وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ)). وَبِظَاهِرِ هَذَا النَّهْيِ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْآخَرِ، وَاخْتَارَهُ ابْنُ المُنْذِرِ، فَقَالَا: لَا يَأْكُلُ مِنْهَا سَائِقُهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِهِ. قَالَ أَبُو عُمَرَ ابنُ عَبْدِ البَرِّ: قَوْلُهُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((وَلَا يَأْكُلُ مِنْهَا وَلَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ رُفْقَتِكَ)). لَا يُوجَدُ إِلَّا فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَلَيْسَ ذَلِكَ فِي حَدِيثِ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ نَاجِيَةَ. وَهُوَ عِنْدَنَا أَصَحُّ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَلَيْهِ الْعَمَلُ عِنْدَ الْفُقَهَاءِ. وَيَدْخُلُ فِي قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلَامُ: ((خَلِّ بَيْنَهَا وَبَيْنَ النَّاسِ)) أَهْلُ رُفْقَتِهِ وَغَيْرُهُمْ. وَقَالَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو ثَوْرٍ: مَا كَانَ مِنَ الْهَدْيِ أَصْلُهُ وَاجِبًا فَلَا يَأْكُلُ مِنْهُ، وَمَا كَانَ تَطَوُّعًا وَنُسُكًا أَكَلَ مِنْهُ وَأَهْدَى وَادَّخَرَ وَتَصَدَّقَ. وَالْمُتْعَةُ وَالْقِرَانُ عِنْدَهُ نُسُكٌ. وَنَحْوُهُ مَذْهَبُ الْأَوْزَاعِيِّ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَصْحَابُهُ: يَأْكُلُ مِنْ هَدْيِ الْمُتْعَةِ وَالتَّطَوُّعِ، وَلَا يَأْكُلُ مِمَّا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا وَجَبَ بِحُكْمِ الْإِحْرَامِ. وَحُكِيَ عَنْ مَالِكٍ: لَا يَأْكُلُ مِنْ دَمِ الْفَسَادِ. وَعَلَى قِيَاسِ هَذَا لَا يَأْكُلُ مِنْ دَمِ الْجَبْرِ، كَقَوْلِ الشَّافِعِيِّ وَالْأَوْزَاعِيِّ. تَمَسَّكَ مَالِكٌ بِأَنَّ جَزَاءَ الصَّيْدِ جَعَلَهُ اللهُ لِلْمَسَاكِينِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى مِنْ سُورةِ المائدةِ: {أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ} الآيةَ: 95. وَقَالَ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى: {فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ} الآيةَ: 196، مِنْ سورةِ البَقَرَة. وَقَالَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِكَعْبِ بْنِ عُجْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: ((أَطْعِمْ سِتَّةَ مَسَاكِينَ مُدَّيْنِ لِكُلِّ مِسْكَيْنٍ أَوْ صُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ أَوِ انْسُكْ شَاةً)). وَنَذْرُ الْمَسَاكِينِ مُصَرَّحٌ بِهِ، وَأَمَّا غَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْهَدَايَا فَهُوَ بَاقٍ عَلَى أَصْلِ قَوْلِهِ: {وَالْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللهِ} إِلَى قوله: {فَكُلُوا مِنْها} الآيةَ: 36، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ. وَقَدْ أَكَلَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنَ الْهَدْيِ الَّذِي جَاءَ بِهِ وَشَرِبَا مِنْ مَرَقِهِ، وَكَانَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ، قَارِنًا فِي أَصَحِّ الْأَقْوَالِ وَالرِّوَايَاتِ، فَكَانَ هَدْيُهُ عَلَى هَذَا وَاجِبًا. فَقد أَخْرَجَ مُسْلِمٌ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: نَحَرَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، هَدْيَهُ، فَأَمَرَ مِنْ كُلِّ بَدَنَةٍ بِبَضْعَةٍ فَجُعِلَتْ فِي قِدْرٍ، فَأَكَلَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلِيٌّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مِنَ اللَّحْمِ، وَحَسُوا مِنَ الْمَرَقِ. صحيحُ مُسْلِمٍ بِرَقَم: (1218). قَالَ سُفْيَانُ: لِأَنَّ اللهَ يَقُولُ: "فَكُلُوا مِنْهَا". وَعَلَيْهِ فَمَا ذَهَبَ إلَيْهِ أَبُو حَنِيفَةَ النُّعمانُ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، مَرْجوحٌ. وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَإِنَّمَا أَذِنَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ، مِنَ الْأَكْلِ مِنَ الْهَدَايَا لِأَجْلِ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ لَا تَرَى أَنْ تَأْكُلَ مِنْ نُسُكِهَا، فَأَمَرَ اللهُ ـ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى، نَبِيَّهُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمُخَالَفَتِهِمْ، فَلَا جَرَمَ كَذَلِكَ شَرَعَ وَبَلَّغَ، وَكَذَلِكَ فَعَلَ حِينَ أَهْدَى وَأَحْرَمَ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وَقَدْ عَدَلَ عَنِ الْغَيْبَةِ الْوَاقِعَةِ فِي الضَمَائِرِ مِنْ قولِهِ: "لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ"، إِلَى الْخِطَابِ فِي قَوْلِهِ: "فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الفقيرَ". عَلَى طَرِيقَةِ الِالْتِفَاتِ أَوْ عَلَى تَقْدِيرِ قَوْلٍ مَحْذُوفٍ مَأْمُورٍ بِهِ إِبْرَاهِيمُ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ. وَفِي حِكَايَةِ هَذَا تَعْرِيضٌ بِالرَّدِّ عَلَى أَهْلِ الْجَاهِلِيَّةِ إِذْ كَانُوا يَمْنَعُونَ الْأَكْلَ مِنَ الْهَدَايَا. وَفِيه سَدٌّ لِحَاجَةِ الْفُقَرَاءِ بِتَزْوِيدِهِمْ مَا يَكْفِيهِمْ لِعَامِهِمْ، وَلِذَلِكَ فَرَّعَ عَلَيْهِ قولَهُ: "فَكُلُوا مِنْها وَأَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ". فقد أَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ إِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: كَانَ الْمُشْركُونَ لَا يَأْكُلُون من ذَبَائِح نِسَائِكُم فَأنْزَلَ اللهُ ـ تَعَالَى: "فَكُلُوا مِنْهَا وأطعموا البائس الْفَقِير" فَرَخَّصَ للْمُسْلِمِينَ فَمَنْ شَاءَ أَكَلَ، وَمَنْ شَاءَ لَمْ يَأْكُلْ.
قولُهُ: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} البائسَ: وَ "البَئِس" مِنَ البأْسِ، والبأْسُ: العَذابُ الشديدُ، والشِّدَّةُ في الحَرْبِ، وَمْنْهُ قَوْلُ أَميرِ المُؤْمِنينَ عَلِيِّ بْنِ أَبي طالِبٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: (كُنّا إِذَا اشْتَدَّ البَأْسُ اتَّقَيْنا بِرَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ). يُريدُ بهِ الخَوف. وَلَا يَكُونُ الخوفُ إِلَّا مَعَ الشِّدَّةِ. ولَا بَأْسَ عَلَيْكَ، معناهُ: لَا خَوْفَ عليكَ، وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ قَيْسِ ابْنُ الخَطِيمِ:
يقولُ لي الحَدّادُ وَهْوَ يَقودُني ... إلى السِّجْنِ لا تَجْزَعْ فما بكَ مِنْ بَاسِ
أَرَادَ فَمَا بِكَ مِنْ بَأْسِ، وإِذا قُلْتَ لِرَجُلٍ: لَا بَأْسَ عَلَيْكَ فَقَدْ أَمَّنَتَهُ؛ لأَنَّكَ نَفَيتَ البَأْسَ عَنْهُ. وَبَؤُسَ الرَّجُلُ بَأْسًا فَهُوَ بَئِيسٌ: أَيْ شُجَاعٌ شَديدُ البَأْسِ. ومنْهُ قولُ رَبيعَةَ بْنِ مَقْرُومٍ الضَّبِّيِّ:
وأَجْزي القُروضَ وَفاءً بها .................. بِبُؤْسى بَئِيسَى ونُعْمى نَعِيما
ويُرْوَى بَئِيسًا بالتَّنْوينِ وَالمَعْنى: افْتَقَرَ وَاشْتَدَّتْ حَاجَتُهِ فَهُوَ بَائِسٌ كما قالَ الفَرَزْدَقُ:
وبَيْضاءَ مِنْ أَهْلِ المَدينَةِ لَمْ تَذُقْ ........ بَئيسًا وَلَمْ تَتْبَعْ حَمُولَةَ مُجْحِدِ
وَالبُؤْسُ هوَ الفَقْرُ والخُضوع. وجاءَ في الحَديثِ: ((بُؤْسَ ابْنِ سُمَيَّةَ))، يُريدُ عمَّارَ بْنِ ياسِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فَكَأَنَّهُ ترَحَّمَ لَهُ مِنْ الشِّدَّةِ الَّتي يَقَعُ فِيهَا. قالَ سِيبَوَيْهِ: وَقَالُوا: بُؤْسًا لَهُ فِي حَدِّ الدُّعَاءِ، وَهُوَ مِمَّا انْتَصَبَ عَلَى إِضْمَارِ الفِعلِ غَيْرِ المُسْتَعْمَلِ إِظْهَارُهُ. وَقَالَ أَيْضًا: البائِسُ: مِنَ الأَلْفَاظِ المُتَرَحَّمِ بِهَا، كَالْمِسْكِينِ، وَقالَ: وَلَيْسَ كُلُّ صِفَةٍ يُتَرَحَّمُ بِهَا وإِنْ كَانَ فِيهَا مَعْنَى البَائِسِ وَالْمِسْكِينِ، وَقَدْ بَؤُسَ بَآسَةً وبَئِيسًا وَالاسْمُ البُؤْسَى. والبَأْساءُ: الشّدَّةُ، والبُؤْسى: خِلافُ النُّعْمى. وَقَالَ أَبُو إسْحاقٍ الزَّجَّاجُ: البَأْساءُ، وَالبُؤْسَى: مِنَ البُؤْسِ، والبَأْساءُ: ضِدُّ النَّعْمَاءِ النُّعْمَى، وأَمَّا في الشَّجاعةِ والشِّدَّةِ فيُقالُ: البَأْس. وَالأَبْؤُسُ: جَمْعُ بُؤْسٍ، مِنْ قولهم: يَوْمُ بُؤْسٍ، وَيَومُ نُعْمٍ. والصَّحِيحُ أَنَّهُ جَمْعُ بائِسٍ. وَالأَبْؤُسُ: الدَّواهِي ولا مُفْرَدَ لَهُ، وَالبَيْأَسُ: الشَّديدُ، وَهُوَ مِنْ أَسْماءِ الأَسَد لِشِدَّتِهِ، كالبَيْهَسِ. وَعَذابٌ بِئْسٌ وبَئيسٌ وَبَيْأَسٌ: شَديدٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ ـ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما، فِي قَوْلِهِ: "وَأَطْعِمُوا البائِسَ" قَالَ: الزَّمِنَ.
وَأَخْرَجَ الطَّسْتِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّ نَافِعَ بْنَ الْأَزْرَقِ قَالَ لَهُ: أَخْبِرْنِي عَنْ قَوْلِ اللهِ: "وَأَطْعِمُوا البَائِسَ الْفَقِيرَ" قَالَ: "البَائِسَ" الَّذِي لَمْ يَجْدِ شَيْئًا مِنْ شِدَّةِ الْحَاجَةِ.
قَالَ: وَهَلْ تَعْرِفُ الْعَرَبُ ذَلِكَ؟ قَالَ: نَعَم، أَمَا سَمِعْتَ طَرَفَةَ بْنَ العَبْدِ وَهُوَ يَقُولُ:
يَغْشَاهُمُ البائِسُ الْمُدْقعُ وَالِــــ ............... ـــضَّيْفُ وَجَارٌ مُجَاوِرٌ جُنُبُ
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنِ عِكْرِمَةَ، وَمُجاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، أَنَّهُما قَالَا: "البائِسَ" الَّذِي يَمُدُّ كَفَّيْهِ إِلَى النَّاسِ يَسْأَلُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: "البائِسَ" الْمُضْطَرَّ الَّذِي عَلَيْهِ الْبُؤْسُ، وَ "الْفَقِيرَ" الضَّعِيفَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "البائسَ الْفَقِيرَ" قَالَ: هُمَا سَوَاءٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: "البائِسَ الْفَقِيرَ" الَّذِي بِهِ زَمَانَةٌ وَهُوَ فَقيرٌ. واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ تَعَالَى: {لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ} اللَّامُ: (لامُ كَيْ)، حَرْفُ جَرٍّ وَتَعْلِيلٍ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يأْتُوْك" وَيجوزُ أَنَّ يتعلَّقَ بـ "أَذِّنْ" أَيْ: أَذِّن لِيَشْهَدُوا. والأوَّلُ أَظْهَرُ، وَ "يَشْهَدُوا" فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَنْصُوبٌ بـِ "أَنْ" مُضْمَرَةٍ بَعْدَ اللَّامِ. وَعلامَةُ نَصْبِهِ حَذْفُ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في مَحَلِّ الرِّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، والألِفُ للتَّفريقِ. و "مَنَافِعَ" مَفْعُولُهُ منصوبٌ بِهِ، ولمْ يُنَوَّنْ مَعَ أنَّهُ نَكِرَةٌ لِأَنَّهُ عَلَى صِيغَةِ مُنْتَهَى الجموعِ بوزنِ "مَساجِد" فهوَ مَمْنُوعٌ مِنَ الصَّرفِ، والتَنْكيرُ للتَّكثيرِ وَلِأَنَّهُ أَرَادَ مَنَافِعَ مُخْتَصَّةً بِهَذِهِ العِبَادَةِ، دِينيَّةً وَدُنْيَويَّةً لَا تُوْجَدُ في غَيْرِهَا مِنَ العِبَادَاتِ. وَ "لَهُمْ" اللامُ: حرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِصِفَةٍ لِـ "مَنَافِعَ"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ، والميمُ لتذكيرِ الجَمعِ، وَالجُمْلُةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِلامِ "لِيَشْهدوا"، والتقديرُ: لِشُهُودِهِمْ مَنَافِعَ لَهُمْ.
قولُهُ: {وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ علَى مَا} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "يَذْكُرُوا" فِعْلٌ مُضارعٌ مَعطوفٌ على "يشهدوا" وَلَهُ مِثلُ إِعْرابِهِ. و "اسْمَ" مفعولُهُ منْصوبٌ بِهِ، وهوَ مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَذْكُرُوا"، و "أَيَّامٍ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مَعْلُومَاتٍ" صِفَةٌ لِـ "أَيَّامٍ" مجرورةٌ مِثْلُها. و "عَلَى" حرفُ جَرٍّللتَّعْليلِ مُتَعَلِّقٌ بـ "يذْكَروا"، وَ "ما" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ فِي مَحَلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرَّ. وَالجُمْلُةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ مَعَطوفةٌ على جُمْلةِ "ليشْهدوا" على كونِها مَعَ "أَنْ" المُضْمَرَةِ، فِي تَأْويلِ مَصْدَرٍ مَجْرُورٍ بِلامِ "لِيَشْهدوا"، والْتَقْديرُ: لِشُهُودِهِمْ مَنَافِعَ لَهُمْ ولذِكْرِهِمُ اسْمَ اللهِ.
قَوْلُهُ: {رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ} رَزَقَهُمْ: فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على الفتْحِ، وفاعِلُهُ ضميرٌ مُستَتِرٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على المفعولِيَّةِ، والمِيمُ لتَذْكِيرِ الجَمْعِ. وَ "مِنْ" حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رَزَقَهُمْ". وَ "بَهِيمَةِ" مَجْرورٌ بِحِرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، وَ "الأَنْعامِ" مَجْرورٌ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلةٌ لِـ "مَا" المَوْصولِةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {فَكُلُوا مِنْهَا} الفاءُ: عَاطِفَةٌ عَلى مَحْذُوفٍ، والتَقْديرُ: فَاذْكُروا اسْمَ اللهِ عَلى ضَحَايَاكُمْ عِنْدَ ذَبْحِهَا فَكُلُوا مِنْهَا، و "كُلُوا" فِعْلُ أَمرٍ مَبْنِيٌّ عَلى حَذْفِ النُّونِ مِنْ آخِرِهِ لأنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخَمْسَةِ، وواوُ الجماعةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتفريقِ. و "مِنْهَا" مِنْ: حرفُ عَطْفٍ مُتَعَلِّقٌ بـ "كُلُوا"، و "ها" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجرِّ بحرفِ الجَرِّ. والجملةُ معطوف مَعكوفةٌ عَلَى تِلْكَ الجُمْلَةِ المَحْذُوفَةِ، وَالْجُمْلَةُ المَحْذُوفَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعْرابِ. ويجوزُ أَنْ تَكونَ الفاءُ: هي الفَصيحَةُ لأنَّها أَفْصَحَتْ عَنْ جَوَابِ شَرْطٍ تَقْديرُهُ: إِذَا عَرَفْتُمْ أَنَّكُمْ تَذْكُرونَ اسْمَ اللهِ عَلى ما رزقكمْ مِنْ بهيمَةِ الأنْعامِ، وَعَرَفْتُمْ بَيَانَ مَا تَفْعَلونَ بِهَا بَعْدَ الذَّبْحِ .. . فَأَقُولُ لَكُمْ كُلُوا مِنْهَا .. إِلَخِ: وَجُمْلَةُ إِذَا المُقَدَّرَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} الوَاوُ: فعلُ أَمْرٍ معطوفٍ على "كلوا" وَلَهُ مِثْلُ إِعرابِهِ. و "البائسَ" مَفْعُولُهُ مَنْصوبٌ بِهِ. و "الْفَقِيرَ" صِفَةٌ لِـ "الْبَائِسَ" منصوبةٌ مِثْلُهُ.