و "بظُلْمٍ" بِشِرْكٍ. قالَهُ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُما، فيما أَخْرَجَهُ عنهُ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذٍرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ ـ رحمَهُمُ اللهُ تَعَالى.
وأَخْرَجَ عَنْهُ ابْنُ جَريرٍ أَيضًا، أَنَّهُ قالَ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ" يَعْنِي أَنْ تَسْتَحِلَّ مِنَ الْحَرَامِ مَا حَرَّمَ اللهُ عَلَيْكَ، مِنْ لِسَانٍ أَوْ قَتْلٍ، فَتَظْلِمَ مَنْ لَا يَظْلِمُكَ، وَتَقْتُلَ مَنْ لَا يَقْتُلُكَ. فَإِذَا فَعَلْتَ ذَلِكَ فَقَدٍ وَجَبَ لَك عَذَابٌ أَلِيمٌ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَالْبَيْهَقِيُّ فِي (شُعَبُ الإِيمانِ) عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ" قَالَ: مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ لِيُشْرِكَ فِيهِ عَذَّبَهُ اللهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ" قَالَ: هُوَ أَنْ يُعْبَدَ فِيهِ غَيْرُ اللهِ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قالَ فِي الْآيَةِ: شَتْمُ الْخَادِمِ فِي الْحَرَمِ ظُلْمٌ فَمَا فَوْقَهُ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عْنْهُما، أَنَّه قَالَ: تِجَارَةُ الْأَمِيرِ بِمَكَّةَ إِلْحَادٌ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنِ الضَّحَّاكِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإلْحادٍ" قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ لَيَهُمُّ بالخَطيئَةِ بِمَكَّةَ وَهُوَ بِأَرْضٍ أُخْرَى فَتُكْتَبُ عَلَيْهِ، وَمَا عَمِلَهَا.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: تُضَاعَفُ السَّيِّئَاتُ بِمَكَّةَ كَمَا تُضَاعَفُ الْحَسَنَاتُ.
وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ وَابْنُ الْمُنْذِرِ، عَنْ عَطَاءِ بْنِ أَبي رَبَاحٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، في قوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ" قالَ: الْقَتْلُ والشِّرْكُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدٌ بْنٌ حُمَيْدٍ عَنِ ابْنِ أَبي مُلَيْكَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ سُئِلَ عَنْ قَوْلِهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بظُلْمٍ" قَالَ: مَا كُنَّا نَشُكُّ أَنَّهَا الذُّنُوبُ، حَتَّى جَاءَ أَعْلاجٌ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ إِلَى أَعْلاجٍ مِنْ أَهْلِ الْكُوفَةِ، فَزَعَمُوا أَنَّهَا الشِّرْكُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، قَالَ: مَا مِنْ عَبْدٍ يَهُمُّ بِذَنْبٍ فَيُؤاخِذُهُ اللهُ بِشَيْءٍ حَتَّى يَعْمَلَهُ، إِلَّا مَنْ هَمَّ بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ شَرًّا، فَإِنَّهُ مَنْ هَمَّ بِهِ شَرًّا عَجَّلَ اللهُ لَهُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: رَأَيْتُ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عَمْرٍو بِعَرَفَةَ وَمَنْزِلُهُ فِي الْحِلِّ وَمَسْجِدُهُ فِي الْحَرَمِ، فَقُلْتُ: لِمَ تَفْعَلُ هَذَا؟ قَالَ: لِأَنَّ الْعَمَلَ فِيهِ أَفْضَلُ والخَطِيئَةَ فِيهِ أَعْظَمُ.
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ أَبي الْحَجَّاجِ فِي الْآيَةِ قَالَ: إِنَّ الرَّجُلَ يُحَدِّثُ نَفْسَهُ أَنْ يَعْمَلَ ذَنْبًا بِمَكَّةَ فَيَكْتُبُهُ اللهُ عَلَيْهِ ذَنْبًا. وَاللهُ أَعْلَمُ.
والَّذِي يَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ أَنَّ كُلَّ مُخَالَفَةٍ بِتَرْكِ وَاجِبٍ، أَوْ فِعْلِ مُحَرَّمٍ تَدْخُلُ فِي الظُّلْمِ الْمَذْكُورِ، وَأَمَّا الْجَائِزَاتُ كَعِتَابِ الرَّجُلِ امْرَأَتَهُ، أَوْ عَبْدَهُ، فَلَيْسَ مِنَ الْإِلْحَادِ، وَلَا مِنَ الظُّلْمِ. وَأَصْلُ الْإِلْحَادِ فِي اللُّغَةِ: الْمَيْلُ، وَالْمُرَادُ بِالْإِلْحَادِ فِي الْآيَةِ: أَنْ يَمِيلَ عَنْ دِينِ اللهِ الَّذِي شَرَعَهُ وَيَحِيدَ عَنْهُ، وَيَعُمُّ ذَلِكَ كُلَّ مَيْلٍ وَحَيْدَةٍ عَنِ الدِّينِ، وَيَدْخُلُ فِي ذَلِكَ الْكُفْرُ بِاللهِ وَالشِّرْكُ بِهِ فِي الْحَرَمِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، وَفِعْلُ شَيْءٍ مِمَّا حَرَّمَهُ، وَتَرْكُ شَيْءٍ مِمَّا أَوْجَبَهُ. وَمِنْ أَعْظَمِ ذَلِكَ: انْتِهَاكُ حُرُمَاتِ الْحَرَمِ. وَدُخُولِ الْبَاءِ عَلَى الْمَفْعُولِ فِي قَوْلِهِ: "بِإِلْحَادٍ"، كَدُخُولِها عَلَيْهِ في قَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ مَرْيَمَ ـ عَلَيْهَا السَّلامُ: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ} الآيةَ: 25.
قَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: مَنْ هَمَّ أَنْ يَعْمَلَ سَيِّئَةً فِي مَكَّةَ، أَذَاقَهُ اللهُ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِسَبَبِ هَمِّهِ بِذَلِكَ وَإِنْ لَمْ يَفْعَلْهَا، بِخِلَافِ غَيْرِ الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ مِنَ الْبِقَاعِ، فَلَا يُعَاقَبُ فِيهِ بَالْهَمِّ.
فَإِنَّ هَذِهِ الْآيَةَ الْكَرِيمَةَ مُخَصِّصَةٌ لِعُمُومِ قَوْلِهِ ـ عَلَيْهِ صَلاةُ اللهِ وَسَلامُهُ: ((وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كُتِبَتْ لَهُ حَسَنَةٌ)). الْحَدِيثَ الشَّريف، وَعَلَيْهِ فَهَذَا التَّخْصِيصُ لِشِدَّةِ التَّغْلِيظِ فِي الْمُخَالَفَةِ فِي الْحَرَمِ الْمَكِّيِّ، وَوَجْهُ هَذَا ظَاهِرٌ.
وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْإِرَادَةِ فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ" الْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى ارْتِكَابِ الذَّنْبِ فِيهِ، وَالْعَزْمُ الْمُصَمِّمُ عَلَى الذَّنْبِ ذَنْبٌ يُعَاقَبُ عَلَيْهِ فِي جَمِيعِ بِقَاعِ اللهِ؛ مَكَّةَ وَغَيْرِهَا. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ إِرَادَةَ الذَّنْبِ إِذَا كَانَتْ عَزْمًا مُصَمَّمًا عَلَيْهِ أَنَّهَا كَارْتِكَابِهِ حَدِيثُ أَبِي بَكْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، عَنْ سَيِّدِنَا رَسُولِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِذَا الْتَقَى الْمُسْلِمَانِ بِسَيْفَيْهِمَا فَالْقَاتِلُ وَالْمَقْتُولُ فِي النَّارِ)). قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، قَدْ عَرَفْنَا الْقَاتِلَ، فَمَا بَالُ الْمَقْتُولِ؟ قَالَ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ)). وَهُوَ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحِ. فَقَوْلُهُمْ: مَا بَالُ الْمَقْتُولِ: سُؤَالٌ عَنْ تَشْخِيصِ عَيْنِ الذَّنْبِ الَّذِي دَخَلَ بِسَبَبِهِ النَّارَ مَعَ أَنَّهُ لَمْ يَفْعَلِ الْقَتْلَ، فَبَيَّنَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِقَوْلِهِ: ((إِنَّهُ كَانَ حَرِيصًا عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ))، أَنَّ ذَنْبَهُ الَّذِي أَدْخَلَهُ النَّارَ هُوَ عَزْمُهُ الْمُصَمِّمُ، وَحِرْصُهُ عَلَى قَتْلِ صَاحِبِهِ الْمُسْلِمِ. وَقَدْ قَدَّمْنَا مِرَارًا بٍأَنَّ "إِنَّ" الْمَكْسُورَةَ الْمُشَدَّدَةَ هِيَ دالَّةٌ عَلَى التَّعْلِيلِ.
وَمِثَالُ الْمُعَاقَبَةِ عَلَى الْعَزْمِ الْمُصَمِّمِ عَلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ فِيهِ، مَا وَقَعَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ مِنَ الْإِهْلَاكِ الْمُسْتَأْصِلِ، بِـ {طَيْرٍ أَبَابِيلَ تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ} الآيَةَ: 4، مِنْ سُورَةِ الفِيلِ. وَذَلِكَ لِعَزْمِهِمْ عَلَى ارْتِكَابِ الْمُنْكِرِ فِي الْحَرَمِ، وَإنِ لمْ يفعلوهُ بَعْدُ فَأَهْلَكَهُمُ اللهُ بِذَلِكَ الْعَزْمِ قَبْلَ أَنْ يَفْعَلُوا مَا عَزَمُوا عَلَيْهِ.
وَالظَّاهِرُ أَنَّ الضَّمِيرَ فِي قَوْلِهِ: "فِيهِ" رَاجِعٌ إِلَى الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ، وَلَكِنَّ حُكْمَ الْحَرَمِ كُلِّهِ فِي تَغْلِيظِ الذَّنْبِ الْمَذْكُورِ كَذَلِكَ.
قولُهُ: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} يَتَوَعَّدُ اللهُ هؤلاءِ الكَافِرينَ الذينَ تَقَدَّمَ اسْتِعْراضُ صِفَاتِهِمْ وأَعْمَالِهِم بِالعَذَابِ الأَليمِ المُهِينِ فِي الآخِرَةِ. فقد أَخْرَجَ الْفِرْيَابِيُّ، وَسَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَابْنُ رَاهَوَيْهِ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ ابْنُ حُمَيْدٍ، وَالْبَزَّارُ، وَأَبُو يَعْلَى، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، رَفعَهُ فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" قَالَ: لَو أَنَّ رَجُلًا هَمَّ فِيهِ بِإِلْحَادٍ، وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللهُ ـ تَعَالَى عَذَابًا أَلِيمًا.
وَيَذْكُرُ التَّاريخُ أَنَّ اللهَ أَنْزَلَ العِقَابَ الشَّديدَ بِأَهْلِ الضَّلاَلِ لَمَّا هَمُّوا بِتَخْريبِ البَيْتِ، فَأَرْسَلِ عَلَيْهِمُ الطَيْرَ الأَبَابِيلَ فَجَعَلَهُمْ عِبْرَةً وَنَكَالاً لِكُلِّ مَنْ أَرَادَ سُوءًا بِبَيْتِ اللهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ، كَمَا نَصَّتْ عَلَيْهِ سُورةُ الفِيلِ.
وَعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: لَوْ أَنَّ رَجُلًا أَرَادَ بِإِلْحَادٍ فِيهِ بِظُلْمٍ وَهُوَ بِعَدَنِ أَبْيَنَ لَأَذَاقَهُ اللهُ مِنَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ، وَهَذَا ثَابِتٌ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِي اللهُ عنْهُ، أَخْرَجَهُ عنهُ سَعٍيدُ بْنٌ مَنْصُورٍ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَوَقْفُهُ عَلَيْهِ أَصَحُّ مِنْ رَفْعِهِ، وَالَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ اسْتَدَلُّوا لَهُ بِظَاهِرِ قَوْلِهِ ـ جَلَّ وعَلَا: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ"، لِأَنَّهُ ـ تَبَارَكَ وَتَعَالى، رَتَّبَ إِذَاقَةَ الْعَذَابِ الْأَلِيمِ عَلَى إِرَادَةِ الْإِلْحَادِ بِالظُّلْمِ فِيهِ تَرْتِيبَ الْجَزَاءِ عَلَى شَرْطِهِ، وَيُؤَيِّدُ هَذَا قَوْلُ بَعْضِ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْبَاءَ فِي قَوْلِهِ ـ عزَّ وجَلَّ: "بِإِلْحَادٍ" لِأَجْلِ أَنَّ الْإِرَادَةَ مُضَمَّنَةٌ مَعْنَى الْهَمِّ؛ أَيْ: وَمَنْ يَهْمُمْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ.
وَأَخْرَجَ البيهَقِيُّ في شُعَبِ الإِيمانِ، والْحَاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: "أَقْبَلَ تُبَّعٌ يُرِيدُ الْكَعْبَةَ، حَتَّى إِذَا كَانَ بِكُرَاعِ الْغَمِيمِ، بَعَثَ اللهُ عَلَيْهِ رِيحًا لَا يَكَادُ الْقَائِمُ يَقُومُ إِلَّا بِمَشَقَّةٍ، وَإِذَا هَبَّ الْقَائِمُ يُقْعَدُ وَيُصْرَعُ، وَقَامَتْ عَلَيْهِمْ، وَلَقَوْا مِنْهَا عَنَاءً، قَالَ: وَدَعَا تُبَّعٌ حَبْرَيْهِ، فَسَأَلَهُمَا: مَا هَذَا الَّذِي بُعِثَ عَلَيَّ؟. قَالَا: أَوَ تُؤَمِّنُنا؟. قَالَ: أَنْتُمْ آمِنُونَ. قَالَا: فَإِنَّكَ تُرِيدُ بَيْتًا يَمْنَعُهُ اللهُ مِمَّنْ أَرَادَهُ. قَالَ: فَمَا يُذْهِبُ هَذَا عَنِّي؟. قَالَا: تَجَرَّدُ فِي ثَوْبَيْنِ، ثُمَّ تَقُولُ: لَبَّيْكَ لَبَّيْكَ، ثُمَّ تَدْخُلُ فَتَطُوفُ بِذَلِكَ الْبَيْتِ، وَلَا تَهِيجُ أَحَدًا مِنْ أَهْلِهِ، قَالَ: فَإِنِ أَجْمَعْتُ عَلَى هَذَا ذَهَبَتْ هَذِهِ الرِّيحُ عَنِّي؟. قَالَا: نَعَمْ، فَتَجَرَّدَ ثُمَّ لَبَّى. قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: فَأَدْبَرَتِ الرِّيحُ كَقِطَعِ اللَّيْلِ الْمُظْلِمِ". شُعَبُ الإيمانِ: (5/463)، وَالمُسْتَدْرَكُ بِتَعْلِيقِ الذَّهَبِيِّ: (3/243)، قالَ الحاكمُ: حَديثٌ صَحِيحٌ عَلَى شَرْطِ الشَّيْخَيْنِ وَلَمْ يُخَرِّجاهُ، وعَلَّقَ الذَّهَبِيُّ في التَّلْخِيصِ: عَلَى شَرْطِ البُخَارِيَّ وَمُسْلِمٍ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنِ الرَّبيعِ بْنِ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ"، قَالَ: حَدَّثَنَا شَيْخٌ مِنْ عَقِبِ الْمُهَاجِرينَ وَالْأَنْصَارِ أَنَّهم أَخْبرُوهُ أَنَّهُ أَيَّمَا أَحَدٍ أَرَادَ بِهِ مَا أَرَادَ أَصْحَابُ الْفِيلِ عَجَّلَ اللهُ لَهُمُ الْعُقُوبَةَ فِي الدُّنْيَا، وَقَالَ: إِنَّمَا يُؤْتِي اسْتِحْلالُهُ مِنْ قِبَلِ أَهْلِهِ. فَأَخْبَرَنِي عَنْهُم أَنَّهُ وَجَدَ سَطْرانِ بِمَكَّةَ مَكْتُوبانِ فِي الْمَقَامِ: أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ كِتَابَتُهُ: بِسْمِ اللهِ وَالْبَرَكَةُ، وَضَعْتُ بَيْتِيَ بِمَكَّةَ، طَعَامُ أَهْلِهِ اللَّحْمُ وَالسَّمْنُ وَالتَّمْرُ، وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا، لَا يُحِلُّهُ إِلَّا أَهْلُهُ. قَالَ: لَوْلَا أَنَّ أَهْلَهُ هُمُ الَّذينَ فَعَلُوا بِهِ مَا قدْ علٍمْتَ لَعُجِّلَ لَهُم فِي الدُّنْيَا الْعَذَابُ. قَالَ: ثُمَّ أَخْبَرَنِي أَنَّ عَبْدَ اللهِ ابْنَ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، قَالَ ـ قَبْلَ أَنْ يُسْتَحَلَّ مِنْهُ الَّذِي يُسْتَحَلَّ: أَجِدُ مَكْتُوبًا فِي الْكِتَابِ الأَوَّلِ: عَبْدُ اللهِ يُسْتَحَلُّ بِهِ الْحَرَمُ وَعِنْدَهُ عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَمَرَ ابْنِ الْخطابِ، وَعَبْدُ اللهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُم. فَقَالَ: عَبْدُ اللهِ ابْنُ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ، وَعَبْدُ اللهِ ابْنِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ، قَالَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا: لَسْتَ قَارًّا بِهِ إِلَّا حَاجًّا أَوْ مُعْتَمِرًا، أَوْ حَاجَةٌ لَا بُدَّ مِنْهَا، وَسَكَتَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ الزُّبَيْرِ فَلَمْ يَقُلْ شَيْئًا، فَاسْتُحِلَّ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ.
وَقَدْ أَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، في سَبَبِ نُزُولِ هَذِهِ الآيَةِ المُباركةِ، قَالَ: نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِي عَبْدِ اللهِ ابْنِ أَنِيسٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعَثَهُ مَعَ رَجُلَيْنِ: أَحَدُهُمَا مُهَاجِرِيٌّ، وَالْآخَرُ مِنَ الْأَنْصَارِ، فَافْتَخَرُوا فِي الْأَنْسَابِ، فَغَضِبَ عَبْدُ اللهِ ابْنُ أَنِيسٍ، فَقَتَلَ الْأَنْصَارِيَّ، ثُمَّ ارْتَدَّ عَنِ الْإِسْلَامِ، وَهَرَبَ إِلَى مَكَّةَ، فَنَزَلَتْ فِيهِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ"، يَعْنِي مَنْ لَجَأَ إِلَى الْحَرَمِ "بإلحادٍ" يَعْنِي بِمَيْلٍ عَنِ الْإِسْلَامِ.
قَوْلُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتوكيدِ. وَ "الذينَّ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى الفتْحِ في محلِّ النَّصْبِ، اسِمُها، وَخَبَرُها هُنَا مَحْذُوفٌ، والتقدير: خَسِروا، أَوْ هَلَكُوا، وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ}. دَلَّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي الجُمْلةِ المَعْطوفةِ عَلى هَذِهِ الجَمْلَةِ آخِرَ الْآيَةِ: "وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ". فَيكونُ التَقْدِيرُ هُنَا: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ نُذِيقُهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وهَذِهِ الجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {كَفَرُوا} فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفريق، والجُمْلةُ في صلَةُ الاسْمِ المَوْصولِ "الَّذينَ" لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي} الواوُ: للعطْفِ، و "يَصُدُّونَ" فعْلٌ مُضارعٌ مَرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازمِ، وَعَلامَةُ رَفْعِهِ ثَبَاتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأفعالِ الخمسَةِ، وهو مُؤوَّلٌ بالماضي لِعطْفِهِ على فعلٍ ماضٍ، وفيه ثلاثةُ أَوْجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنَّهُ مَعْطُوفٌ عَلَى مَا قَبْلَهُ. وَفِي عَطْفِهِ عَلَى الماضِي حِينَئِذٍ ثَلاثَةُ تَأْويلاتٍ. أَحَدُهَا: أَنَّ المُضَارِعَ قوْلٌا يُقْصَدُ بِهِ الدَّلالةُ عَلَى زَمَنٍ مُعَيَّنٍ مِنْ حَالٍ، أَوْ اسْتِقْبَالٍ، وإِنَّما يُرَادُ بِهِ مُجَرَّدُ الاسْتِمْرَارِ. وَمِثْلُهُ قولُهُ ـ تَعَالَى، في الآيةَ: 28، مِنْ سورةِ الرَّعدِ: {الَّذينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ}. الثاني: أَنَّهُ مُؤَوَّلٌ بِالْماضَي لِعَطْفِهِ عَلَى الماضِي. الثالثُ: أَنَّهُ عَلى بابِهِ، وَأَنَّ الماضي قَبْلَهُ مُؤَوَّلٌ بالمُسْتَقْبَل.
الوجه الثاني: أَنَّهُ حالٌ مِنْ فاعِلِ "كَفَرُوا" قالَهُ العُكْبُرِيُّ أَبو البَقاءِ وَبِهِ بَدَأَ. وهوَ فاسِدٌ ظاهِرًا؛ لِأَنَّهُ مُضارعٌ مُثْبَتٌ، وَمَا كَانَ كَذَلِكَ لَا تَدْخُلُ عَلَيْه الوَاوُ، وَمَا وَرَدَ مِنْهُ ـ عَلى قِلَّتِه، مُؤَوَّلٌ، فَلَا يُحْمَلُ القُرْآنُ عَلَيْهِ، وَعَلى هَذَيْنِ القَوْلَيْنِ فَالخَبَرُ مَحْذُوفٌ. وَاخْتَلَفُوا في مَوْضَعِ تقديرِهِ: فَقَدَّرَهُ ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ قَوْلِهِ ـ تعَالى: "والبادِ" أَيْ: إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا خَسِرُوا، أَوْ هَلَكُوا. وَقَدَّرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ بَعْدً قَوْلِهِ: {وَالْمَسْجِدِ الحَرَامِ} أَيْ: إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا نُذِيْقُهُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ. وَإِنَّما قَدَّرَهُ كَذَلِكَ لِدلالةِ قَوْلِهِ: "نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ" عَلَيْهِ. إِلَّا أَنَّ الشَّيْخَ أَبا حيَّانَ الأنْدَلُسِيَّ قَالَ في تَقْديرِ الزَّمَخْشَرِيَّ بَعْدَ المَسْجِدِ الحَرَامِ: "لَا يَصِحُّ"، قَالَ: لَأَنَّ "الَّذي" صِفَةٌ لِلْمَسْجِدِ الحَرَامِ، فَمَوْضِعُ التَّقْديرِ هوَ بَعْدَ "البَادِ" يَعْنِي: أَنَّهُ يَلْزَمُ مِنْ تَقْديرِهِ الفَصْلُ بَيْنَ الصِّفَةِ وَالْمَوْصُوفِ بِأَجْنِبِيٍّ، وَهُوَ خَبَرُ "إِنَّ"، فَيَصَيرُ التَّركيبُ هَكَذَا: إِنَّ الذينَ كَفَرُوا ويَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالمَسْجدِ الحرامِ نُذيقُهم مِنْ عَذابٍ أَليمٍ الَّذي جَعَلْناهُ للنَّاس. وَلِلزَّمَخْشَرِيِّ أَنْ يَنْفَصِلَ عَنْ هَذَا الاعْتِراضِ بِأَنَّ "الَّذي جَعَلْناهُ" لَا نُسَلِّمُ أَنَّهُ نَعْتٌ لِلْمَسْجِدِ حَتَّى يَلْزَمَ مَا ذَكَرَ، بَلْ نَجْعَلُهُ مَقْطُوعًا عَنْهُ نَصْبًا أَوْ رَفْعًا. ثُمَّ قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ: لَكِنَّ مُقَدَّرَ الزَّمَخْشَرِيِّ أَحْسَنُ مِنْ مُقَدَّرِ ابْنِ عَطِيَّةَ؛ لأَنَّهُ لِدَلَةِ الجُمْلَةِ الشَّرْطِيَّة بعدُ عَلَيْهَ مِنْ جِهَةِ اللَّفْظِ، وَابْنُ عَطِيَّةَ لَحَظَ مِنْ جِهَةِ المَعْنَى؛ لِأَنَّ مَنْ أُذيقَ العَذَابَ خَسِرَ وَهَلَكَ.
الوَجْهُ الثَّالثُ: أَنَّ الوَاوَ في "ويَصُدُّون" مَزيدَةٌ فِي خَبَرِ "إنَّ" والتقديرُ: إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ. وَزِيَادَةُ الوَاوِ مَذْهَبٌ كُوفِيٌّ باطلٌ. وَقالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَهَذَا مْفْسِدٌ لِلمَعْنَى المَقْصُودِ. قالَ السَّمينُ: وَلَا أَدْرِي فَسادَ المَعْنَى مِنْ أَيِّ جِهَةٍ؟ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَوْ صُرِّحَ بِقَوْلِنَا: "إِنَّ الَّذينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ"، لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَسَادُ مَعْنَى. فَالْمَانِعُ عِنْدَ البَصْريِّينَ إِنَّما هُوَ أَمْرٌ صِنَاعِيٌّ لَا مَعْنَوِيٌّ. اللَّهُم إلَّا أَنْ يُريدَ مَعْنًى خَاصًّا يَفْسُدُ لِهَذَا التَّقديرِ فيُحْتَاجُ إِلَى بَيَانِهِ. ووَاوُ الجماعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرُّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "عَنْ" حرفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِـ "يَصُدُّونَ"، وَ "سَبِيلِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، ولفظُ الجلالةِ "اللهِ" مَجرورٌ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. وَ "الْمَسْجِدِ" مَعطوفٌ عَلَى "سبيلِ" مجرورٌ مِثْلُهُ. و "الحَرَامِ" صِفةٌ لـ "الْمَسْجِدِ" مَجْرورَةٌ مِثْلُهُ، و "الذي" اسْمٌ مَوْصولٌ، مبنيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ صفةٌ ثانيةٌ لـ "الْمَسْجِدِ"، أَوْ على البَدَلِ مِنْهُ أَوِ البَيَانِ لَهُ، ويجوزُ فيهِ النَّصْبُ بِإِضْمَارِ فِعْلٍ، كما يجوزُ الرَّفْعُ بإِضْمَارِ مُبْتَدَأٍ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ لا مَحَلَّ لهَا مِنَ الإِعْرَابِ لكونها مَعْطوفةً عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "كفروا" عَلَى كَوْنِها صِلَةَ الاسْمِ المَوْصولِ "الَّذي". وَقَدْ ذَكَرَ عُلَمَاءُ الْعَرَبِيَّةِ في عُطِفِ هَذَا الْفِعْلِ ـ وَهُوَ مُضَارِعٌ، عَلَى الْفِعْلِ الْمَاضِي قَبْلَهُ، أَرْبَعَةَ وُجُوهٍ:
أَوَّلُها: مَا ذَكَرَهُ بَعْضُهم مِنْ أَنَّ الْمُضَارِعَ قَدْ لَا يُلَاحَظُ فِيهِ زَمَانٌ مُعَيَّنٌ مِنْ حَالٍ أَوِ اسْتِقْبَالٍ، فَيَدُلُّ إِذْ ذَاكَ عَلَى الِاسْتِمْرَارِ، وَمِنْ ذَلِكَ هذا الفعلُ: "يَصُدُّونَ"، فَهُمْ قدْ صَدُّوا النَّاسَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ مِنْ قَبْلُ، وَهُمْ يفعلونَهُ الآنَ، ومُسْتمِرُّونَ في ذلكَ فهو كَقَوْلِهِ ـ تَعَالَى، مِنْ سُورَةِ الرَّعْدِ: {الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللهِ} الآيَةَ: 28، فإِنَّ المُؤْمِنِينَ باللهِ مُطمئنَّةٌ قلوبُهُمْ بِذِكرِ اللهِ دائِمًا، في الماضِي والحاضِرِ والمُسْتَقبلِ.
الثَّانِي: أَنَّ "يَصُدُّونَ" هوَ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ، تَقْدِيرُهُ: "هُمْ" فيكونُ التَّقْديرُ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا، وَهُمْ يَصُدُّونَ، وَعَلَيْهِ فَالْجُمْلَةُ الْمَعْطُوفَةُ عَلَى الَّتي قَبْلَهَا وَهِيَ جُمْلَةٌ اسْمِيَّةٌ ولَيْسَتْ فِعْلِيَّةً.
الثَّالِثُ: قيلَ بِأَنَّ "يَصُدُّونَ" هُوَ مُضَارِعٌ أُرِيدَ بِهِ الْمَاضِي؛ أَيْ: كَفَرُوا وَصَدُّوا. وَلَيْسَ بِظَاهِرٍ.
الرَّابِعُ: قيلَ بِأَنَّ الْوَاوَ زَائِدَةٌ، وَجُمْلَةُ "يَصُدُّونَ" خَبَرُ "إِنَّ"، أَيْ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَصُدُّونَ، الْآيَةَ. وَهُوَ ظَاهِرُ السُّقُوطِ.
قولُهُ: {جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ} جَعلناهُ: فعلٌ ماضٍ مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ، وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ، مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّة، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ بالمفعوليَّةِ، على أنَّها المفعولُ الأوَّلُ للجعلِ، فَيَجوزُ أَنْ يَتَعَدَّى لاثْنَيْنِ إِذا اعتبرنا أنَّهُ بمعنى صَيَّر، وإِلَّا فَيَتَعَدَّى لِواحِدٍ. وَ "للنَّاسِ" اللَّامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بحالٍ مِنَ الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ في "سَوَاءً"؛ لأَنَّه كانَ صِفَةً وَتَقَدَّمَ، و "النَّاسِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ صلةُ الاسْمِ الموصولِ "الذينَ" لا محلَّ لها مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {سَوَاءٌ الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ} سَواءٌ: خَبَرٌ مُقَدَّمٌ. و "العاكفُ" مرفوعٌ بالابْتِداءِ مُؤخَّرٌ. و "فيهِ" في: حرْفُ جَرٍّ مُتَعلِّقٌ بالخَبَرِ "سَوَاءٌ"، والهاءُ ضميرٌ متَّصلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "الباد" معطوفٌ على "العاكِفِ" مرفوعٌ مثلُهُ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ عَلى الياءِ المحذوفةِ تَبَعًا لِرَسْمِ المُصْحَفِ العُثْماني لِأَنَّهُ اسْمٌ مَنْقوصٌ، وقد مَنَعَ مِنْ ظُهُورِ الضمَّةِ على الياءِ ثِقَلُ ظهورِها عَليها؛ وَالْمَعْنَى: الْعَاكِفُ وَالْبَادِي سَوَاءٌ فيهِ والجُمْلةُ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ ثانٍ لـ "جَعَلنا"، أَوْ حَالٌ مِنْ هاءِ الضميرِ في "جَعَلْنَاهُ".
قوْلُهُ: {وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ} الواوُ: اسْتِئْنافيةٌ، و "منْ" اسْمُ شَرْطٍ جازَمٌ مَبْنيٌ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِداءِ، خبَرُهُ جُمْلةُ الشَّرْطِ، أَوِ الجَوَابِ، أَوْ هُمَا معًا. وَ "يُرِدْ" فِعْلٌ مُضارِعٌ مَجْزومٌ بِـ "مَنْ" عَلى كَونِهِ فِعْلَ شَرْطٍ لَهَا، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوازًا تقديرُهُ (هو) يَعودُ عَلى مَنْ. و "فِيهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـِ "يُرِدْ". و "بِإِلْحَادٍ" الباءُ: حرفُ جرٍّ، وَ "إلحادٍ" مجرورٌ بحرفِ الجرِّ لفظًا، منصوبٌ على المفعوليَةِ مَحَلًّا. وَ "بِظُلْمٍ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتعلِّقٌ بِحالٍ مِنْ فاعِلِ "يُرِدْ"، أَيْ: وَمَنْ يُرِدْ فيهِ إِلحادًا، حَالَةَ كَوْنِهِ مُلْتَبِسًا بِظُلْمٍ، أَو يَتَعلَّقُ بِـ "إِلْحَادٍ"، والتقديرُ: وَمَنْ يُرِدْ فيهِ إِلْحادًا بِظُلْمٍ. والجملةُ فعلُ شَرْطِ "مَنْ" لا محلَّ لها منَ الإعراب.
قولُهُ: {نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} نُذِقْهُ: فِعْل مُضارعٌ مجزومٌ بـ "مِنْ" عَلى كونِها جوابًا لها، وَفاعِلُهُ ضَميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ وُجوبًا تقديرُهُ (نحن) يَعودُ عَلى اللهِ ـ تَعَالى، والهاءُ: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصْبِ على المفعوليَّةِ. و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ متعلقٌ بِـ "نُذِقْهُ"، و "عَذابٍ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ. و "أَلِيمٍ" صِفَةٌ لِـ "عَذَابٍ" مجرورةٍ مَثْلهُ. وَجُملةُ "مَنْ" الشَّرْطِيَّةُ مُستأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعراب. وَقيلَ: مَفْعولُ "يُرِدْ" مَحْذوفٌ، لِيَتَنَاوَلَ كُلَّ مَا يُمْكِنُ تَنَاوُلُهُ.
قَرَأَهُ عَامَّةُ السَّبْعَةِ غَيْرَ حَفْصٍ عَنْ عَاصِمٍ: سَوَاءٌ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ، وَفِي إِعْرَابِهِ عَلَى قِرَاءَةِ الْجُمْهُورِ هَذِهِ بِرَفْعِ "سَوَاءٌ" وَجْهَانِ:
الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: الْعَاكِفُ: مُبْتَدَأٌ، وَالْبَادِ: مَعْطُوفٌ عَلَيْهِ، وَ: "سَوَاءٌ" خَبَرٌ مُقَدَّمٌ، وَهُوَ مَصْدَرٌ أُطْلِقَ وَأُرِيدَ بِهِ الْوَصْفُ.
فَالْمَعْنَى: الْعَاكِفُ وَالْبَادِي سَوَاءٌ؛ أَيْ: مُسْتَوِيَانِ فِيهِ، وَهَذَا الْإِعْرَابُ أَظْهَرُ الْوَجْهَيْنِ.
الثَّانِي: أَنَّ "سَوَاءٌ" مُبْتَدَأٌ وَ "الْعَاكِفُ" فَاعِلٌ سَدَّ مَسَدَّ الْخَبَرِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّ مُسَوِّغَ الِابْتِدَاءِ بِالنَّكِرَةِ الَّتِي هِيَ "سَوَاءٌ" عَلَى هَذَا الْوَجْهِ: هُوَ عَمَلُهَا فِي الْمَجْرُورِ الَّذِي هُوَ فِيهِ؛ إِذِ الْمَعْنَى: سَوَاءٌ فِيهِ الْعَاكِفُ وَالْبَادِي، وَجُمْلَةُ الْمُبْتَدَأِ وَخَبَرُهُ فِي مَحَلِّ الْمَفْعُولِ الثَّانِي لِـ "جَعَلْنَا" وَقَرَأَ حَفْصٌ عَنْ عَاصِمٍ: "سَوَاءً" بِالنَّصْبِ، وَهُوَ الْمَفْعُولُ الثَّانِي لِـ "جَعَلْنَا" الَّتِي بِمَعْنَى صَيَّرْنَا. وَالْعَاكِفُ فَاعِلُ "سَوَاءٌ" أَيْ: مُسْتَوِيًا فِيهِ الْعَاكِفُ وَالْبَادِي، وَمِنْ كَلَامِ الْعَرَبِ: مَرَرْتُ بِرَجُلٍ سَوَاءٌ هُوَ وَالْعَدَمُ، وَمَنْ قَالَ: إِنَّ "جَعَلَ" فِي الْآيَةِ تَتَعَدَّى إِلَى مَفْعُولٍ وَاحِدٍ قَالَ: إِنَّ "سَوَاءٌ" حَالٌ مِنَ الْهَاءِ فِي: جَعَلْنَاهُ؛ أَيْ: وَضَعْنَاهُ لِلنَّاسِ فِي حَالِ كَوْنِهِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِي كَقَوْلِهِ مِنْ سورةِ آلِ عِمْرانَ: {إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ} الْآيَةَ: 96، وَقَالَ بَعْضُ أَهْلِ الْعِلْمِ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ يَشْمَلُ جَمِيعَ الْحَرَمِ، وَلِذَلِكَ أَخَذَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّ رِبَاعَ مَكَّةَ لَا تُمْلَكُ، وَقَدْ قَدَّمْنَا الْكَلَامَ مُسْتَوْفًى فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ وَأَقْوَالَ أَهْلِ الْعِلْمِ فِيهَا، وَمُنَاقَشَةَ أَدِلَّتِهِمْ فِي سُورَةِ الْأَنْفَالِ، فَأَغْنَى ذَلِكَ عَنْ إِعَادَتِهِ هُنَا، وَالْعَاكِفُ: هُوَ الْمُقِيمُ فِي الْحَرَمِ، وَالْبَادِي: الطَّارِئُ عَلَيْهِ مِنَ الْبَادِيَةِ، وَكَذَلِكَ غَيْرُهَا مِنْ أَقْطَارِ الدُّنْيَا.
قَرأَ الجُمْهورُ: {وَالْبَادِ} بِإِسْقَاطِ الياءِ وَصْلًا وَوَقْفًا، وقَرَأَهُ أَبُو عَمْرٍو وَوَرْشٌ عَنْ نَافِعٍ بِإِثْبَاتِ الْيَاءِ بَعْدَ الدَّالِ فِي الْوَصْلِ، وَإِسْقَاطِهَا فِي الْوَقْفِ، وَقَرَأَهُ ابْنُ كَثِيرٍ بِإِثْبَاتِهَا وَصْلًا وَوَقْفًا.