إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصارى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا} بَيَانُ مَنْ يَهْدِيهِ اللهُ ـ تَعَالَى،
وَمَنْ لَا يَهْدِيهِ مِنَ الذينَ قَالَ فيهم ـ جَلَّ جَلالُهُ: {وَأَنَّ اللهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ}، الآيةَ: 16، السَّابِقَةِ، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ.
وَلِلْحَديثِ عَنِ المُهْتَدينَ وَغَيْرِ المُهتدينَ لا بُدَّ أَنْ نُفَصِّلَ قَليلًا في بَيَانِ المُخَالِفينَ لِلمُسْلِمِينَ فِي أُصُولِ الْدِّينِ، وَهُمْ ثَلَاثُ فِئَاتٍ هِيَ:
ـ الفِئَةُ الأُولَى هُمُ الْمُشَارِكَونَ لَهُم فِي الإيمانِ بِنُبُوَّةِ نَبِيِّهِمْ لكنَّهمْ يُخَالِفُونَ فِي مَسْأَلَةِ خَلْقِ الْأَفْعَالِ الْبَشَرِيَّةِ، كَالْجَبْرِيَّةِ وَالْقَدَرِيَّةِ، وَثَمَّةَ فِئَةٌ أُخْرى يُخَالِفُونَهُمْ فِي مَسْأَلَةِ إِثْباتِ الصِّفَاتِ للهِ ـ تَعَالَى، وَرُؤْيَتِهِ.
ـ الفئةُ الثَانِيَةُ: هُمُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَهُم فِي النُّبُوَّةِ وَلَكِنْ يُشَارِكُونَهُم فِي الِاعْتِرَافِ بِاللهِ الْفَاعِلِ الْمُخْتَارِ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالَى، كَالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الذينَ يُنْكِرُونَ نُبُوَّةِ سَيِّدِنا مُحَمَّدٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَيُخالفونَ المُسْلِمِينَ فيما يَعْتَقِدَونَهُ في سَيِّدِنا مُوسَى وَسيِّدِنَا عيسَى ـ عَلَيْهِمَا الصَّلاةُ والسَّلَامُ.
وَالفئةُ الثَالِثَةُ: هُمُ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ المُسْلِمينَ فِي معتقدِهِمْ في الأَلُوهَةِ الْإِلَهِ ـ سُبْحانَهُ وتعالى، وَهُمُ المُلْحِدونَ مِنَ الفَلَاسِفةِ السُّفْسَطَائِيَّةُ، وَالدَّهْرِيَّونَ الَّذِينَ لَا يَعْتَرِفُونَ بِوُجُودِ مُؤَثِّرٍ فِي الْعَالَمِ، أَوِ الْفَلَاسِفَةُ الَّذِينَ يُقولونَ بوجودِ مُؤَثِّرٍ مُوجَبٍ وَلَيسَ مُخْتَارًا. وَهؤلاءِ هُمْ أَعْظَمُ تلكَ الْفئاتِ اخْتلَافًا مَعَ المُسْلِمينَ. وَمِنْ هَذَهِ الفِئَةِ مَنْ يَكونُ مُسْتَتِرًا بِعَقيدَتِهِ وَمَذَهَبِهِ ممُوِّهًا نَفْسَهُ وَإِلْحادَهُ، وَمْنَهُم مَا يَكونُ مُجاهِرًا بِذلكْ.
أَمَّا الفِئةُ الثَّانِيةُ المُخْتِلَفُونَ مَعَ المُسْلمينَ فِيمَا يَخُصُّ النُّبوَّةَ وَالْأَنْبِيَاءَ، فَإِمَّا أَنْ يَكُونُوا أَتْبَاعًا لِمَنْ كَانَ نَبِيًّا فِي الْحَقِيقَةِ، كالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَفِرْقَةٌ أُخْرَى بَيْنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى وَهُمُ الصَّابِئُونَ. أَوْ يَكُونُوا أَتْباعًا لِمُتَنَبِّئٍ مُدَّعٍ النُّبُوَّةَ كالْمَجُوسُ.
وَأَمَّا الْمُنْكِرُونَ لِلْأَنْبِيَاءِ عَلَى الْإِطْلَاقِ فَهُمْ عَبْدَةُ الْأَصْنَامِ وَالْأَوْثَانِ، وَهُمُ الْمُشْرِكِونَ، وَيَدْخُلُ فِيهِمُ الْبَرَاهِمَةُ عَلَى اخْتِلَافِ طَبَقَاتِهِمْ.
فَقَدْ ذكَرُ اللهُ تَعَالى في هذِهِ الآيةِ الكريمةِ هَذهِ الفئاتِ المُخْتَلِفَةَ بِسَبَبِ الِاخْتِلَافَاتِ فِي العقيدةِ، وَهِيَ سِتٌّ كما قَالَ قَتَادَةُ وَمُقَاتِلٌ، قالَا الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ وَاحِدَةٌ للهِ ـ تَعَالَى، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، وَخَمْسَةٌ لِلشَّيْطَانِ.
قولُهُ: {وَالَّذِينَ هادُوا} هُمْ بَنُو إِسْرائيلَ قَوْمُ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وسُمُّو بِذَلِكَ لِأَنَّهُم هَادُوا إِلَى اللهِ، أَيْ تَابوا إِلَيْهِ مِنْ مُحاولَتِهِم قَتْلَ أَخيهِمْ يوسُفَ ـ عَليْهِ السَّلامُ: فَقَالَ لِأَبِيهِمْ إِسْرائيلَ (يَعْقوب) ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِين} الآيةَ: 97، مِنْ سُورةِ يُوسُفَ. فَهَذا يعني أَنَّهُمْ تابوا إلى اللهِ أَوْ هادوا إليهِ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِ نَبِيِّهِمْ مُوسَى ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {إِنَّا هُدْنَا إِلَيْك} الآيةَ: 156، مِنْ سُورَةِ الأَعْرافِ. وفي صِحاحِ الجوهَريِّ: هادَ: يَهودُ هَوْدًا فهو هائدٌ: تَابَ وَرَجَعَ إِلَى الحَقِّ، وَهُمْ قَوْمٌ هُودٌ: تائبُونَ إلى رَبِّهِمْ، راجعونَ عَنْ ذنوبِهِم. وَالتَّهَوُّدُ: التَّوْبَةُ وَالعَمَلُ الصَّالِحُ. وَتَهَوَّدَ فلان، صَارَ يَهُودِيًّا. وَالتَّهْويدُ: أَنْ يَصِيَّرَ الإِنْسانُ يَهُودِيًّا. وفي الصَّحيحيْنِ مِنْ حديثِ أَبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُولَدُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَلْ تَجِدُونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ؟)). صَحيحُ البُخاري بِرَقَم: (1385)، وَصَحِيحُ مُسْلِم بِرقم: (2658). وَالهُودُ: هُمُ اليَهُودُ. وَالتَّهْويدُ: المَشِيُ الرُوَيْدُ، وَأَصْلُهُ مِنَ الهَوَادَةِ. وَفِي مُصَنَّفِ ابْنِ أَبِي شَيْبَةَ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أَنَّهُ أَوْصَى: إِذَا أَنَا مِتُّ فَأَسْرِعُوا، وَلَا تُهَوِّدُوا كَمَا تُهَوِّدُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى. وَكَذَلِكَ التَّهْويدُ فِي المَنْطِقِ. وَغِناءٌ مُهَوَّدٌ: هَادِئٌ. وَالتَّهْويدُ أَيْضًا: النَّوْمُ. وَشَرَابٌ مُهَوِّدٌ: مُسْكِرٌ. والهَوادةُ: الصُّلْحُ وَالْمَيْلُ. وَالمُهاوَدَةُ: المُصَالَحَةُ.
قَوْلُهُ: {وَالصَّابِئِينَ} أَوِ الصّابئةُ: قَوْمٌ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلَى دِينِ نَبِيِّ اللهِ نوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقِبْلَتُهُمْ مِنْ مَهَبِّ الشَّمَالِ عِنْدَ مُنْتَصَفِ النَّهَارِ. قالَهُ الفَيْروز أبادي في "القاموسُ المُحيط". وقال اللَّيْثُ بْنُ سَعدٍ: هُمْ قوْمٌ يُشْبِهُ دينُهُمْ دِينَ النَّصَارَى، إِلَّا أَنَّ قِبْلَتَهُمْ نَحْوَ مَهَبِّ الجَنُوبِ، يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ عَلى دِينِ نُوحٍ، وَهُمْ كاذِبُونَ. وَقيلَ: هُمْ منْسوبونَ إِلَى صَابِئِ ابِنِ لَامَكٍ أَخِي نُوحٍ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَقِيلَ هُمْ عَبَدَةُ المَلائِكَةِ. وَقِيلَ: هُمْ عَبَدَةُ الكَواكِبِ. وَأَصْلُهُ مِنْ صَبَأَ، صَبْئًا، بِوَزْنِ "مَنَعَ"، وَ "صَبُأَ" صَبَأً بِوَزْنِ "كَرُمَ" وَصُبُوءًا أَيْضًا: خَرَجَ مِنْ دِينٍ إِلَى آخَرَ. وَصْبَأَتِ النُّجومُ: خَرَجَتْ مِنْ مَطَالِعِهَا. قال أُثَيْلَةُ العَبْدِيُّ يَصِفُ قَحْطًا:
وأصْبَأَ النَّجْمُ في غَبْراءَ كاسِفَةٍ .............. كَأنَّهُ يائِسٌ مُجْتابُ أَخْلاقِ
وَقِيلَ: هوَ مِنْ صَبَا يَصْبُو ـ المُعتلِّ، أَيْ مَالَ، وذلكَ لميلِهِمْ عَنِ الحَقِّ إِلَى الباطِلِ. فَتَقولُ: "صَبَا فُلانٌ إِلَى كَذَا، إِذَا مَالَ إِلَيْهِ، وَأَنَا صَبَوْتُ إِلَى كَذا، إِذَا مَالَ إلَيْه قلبُكَ.
قولُهُ: {وَالنَّصارى} جَمْعُ "نَصْرَانٍ"، أَوْ "نَصْرِيٍّ". نِسْبَةً إِلَى بَلْدَةِ "النَّاصِرَةِ" مِنْ أَرْضِ فلَسْطَينَ، الَّتي وُلِدَ فيها السَّيِّدُ المَسيحُ ـ عَليْهِ السَّلامُ، وَالنَّصْرَانِيَّةُ أَوِ النَّصْرَانَةُ وَاحِدَةُ النَّصَارَى. وَتَنَصَّرَ الرَّجُلُ: دَخَلَ في النَّصْرَانِيَّةِ. وَمِنْهُ حَديثُ أَبي هُريرةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: ((كُلُّ مَوْلُودٍ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ، أَوْ يُنَصِّرَانِهِ، أَوْ يُمَجِّسَانِهِ ..))، وقدْ تقدَّمَ آنِفًا.
وانْتَصَر الرَّجُلُ إِذَا امْتَنَعَ مِنْ ظَالِمِهِ. فَهوَ مِنْ نَصَرَ المَظلومَ يَنْصُرهُ نَصْرًا، وَنُصُورًا، ونُصْرَةً: إِذَا أَعَانَهُ عَلَى عَدُوِّهِ، وَشَدَّ مِنْ أَزْرِهِ، وَالاسْمُ "النُّصْرَةُ". وَمِنَ المَجَازِ: نَصَرَ الغَيْثُ الأَرْضَ نَصْرًا: إِذَا غاثَها وَسَقَاهَا وَعَمَّها بالجَوْدِ وَأَنْبَتَهَا، وفي الحديثِ الشَّريفِ قولُهُ ـ عليْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: ((إِنَّ هَذِهِ السَّحابَةَ تَنْصُر أَرْضَ بَنِي كَعْبٍ)) أَيْ" تُمْطِرُهُمْ. رَوَاهُ ابْنُ شَيْبَةَ في مُصَنَّفِهِ: (7/398، برقم: 36889) مِنْ حَديثِ أَبِي سَلَمَةَ. وَقَالَ ابْنُ مَيَّادَةَ الرَّمَّاحُ بْنُ أَبْردَ مِنْ قصيدةٍ يَمْدَحُ فيها عَبْدَ الواحِدِ ابْنَ سُلَيْمانَ بْنِ عَبْدِ المَلِكِ:
مَنْ كَانَ أَخْطَأَهُ الرَّبيعُ فإِنَّما ............ نُصِرَ الحِجَازُ بغَيْثِ عَبْدِ الوَاحِدِ
سَبَقَتْ أَوائِلَهُ أَواخِرُهُ بمُــ ................... ـــشَرَّع ِ عَذبٍ ونَبْتٍ واعِدِ
وَهُوَ نَاصِرٌ ونُصَرٌ، وَقوْمٌ نُصَّارٌ وأَنْصَارٌ وَنَصْرٌ جَمْعُ صَاحِبٍ، قَالَ العَجَّاجُ الرَّاجِزُ:
واللهُ سَمَّى نَصْرَكَ الأَنْصارا .......................... آثَرَكَ اللهُ بِهِ إِيثَارَا
وَالأَنْصَارُ هُمْ أَنْصَارُ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مِنَ الأَوْسِ والخَزْرَجَ، لأَنَّهُمْ نَصَرُوا النَبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي سَاعَةِ العُسْرَةِ. وَوَصَفُوا بالمَصْدَرِ فَقَالُوا: رَجُلٌ نَصْرٌ، وَقَوْمٌ نَصْرٌ، كَمَا قالوا: رَجُلٌ عَدْلٌ وَقَوْمٌ عَدْلٌ. وَالاسْتِنْصارُ: هو طَلَبُ النَّصْرِ وَاسْتِمْدادُهُ، وَاسْتَنْصَرَهُ عَلَيْهِ: اسْتَمَدَّهُ وطَلَبَ عَونَهُ عَليْهِ. وَالمُسْتَنْصِرُ: السَّائلُ، كَأَنَّهُ طَالِبُ النَّصْرِ، وَهُوَ العَطاء. وَتَنَاصَرُوا: تَعاونوا عَلى النَّصْر. وَنَصَرَ بَعْضُهم بَعْضًا أَيْضًا. وَمِنَ المَجَازِ قَوْلُهُم: تَنَاَصَرَتِ الأَخْبَارُ: صَدَّقَ بَعْضُهَا بَعْضًا.
قوْلُهُ: {وَالْمَجُوسَ} هُمْ الفُرْسُ وتقولُ عَقِيدتُهُمْ بِإِلَهَيْنِ فِي الوُجُودِ هما (يَزْدَان) أَوْ (أَهُورَا مُزْدَا) أَوْ (أَرْمُزْد) أَوْ (هُرْمُزَ)، إِلَهُ الْخَيْرِ، وَ (أَهْرُمُن) إِلَهُ الشَّرِّ. ثُمَّ تَشَعَّبَتْ شُعَبًا كثيرةً كلُّها مُتَفَرِّعٌ عَنْ هَذَيْنِ الْأَصْلَيْنِ أَشْهَرُهَا (الزَرَادَشْتِيَّةُ) الَّتي ظَهَرَتْ فِي الْقَرْنِ السَّادِسِ قَبْلَ مِيلَادِ السَّيِّدِ الْمَسِيحِ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، وَبِهَا اشْتُهِرَتِ الْمَجُوسِيَّةُ.
وَهُمْ قَوْمٌ اخْتَلَفَ أَهْلُ العِلْمِ فِيهِمْ، فَقِيلَ: قَوْمٌ يَعْبُدونَ النَّارَ. وَقِيلَ: الشَّمْسَ وَالقَمَرَ. وَقِيلَ: اعْتَزَلُوا النَّصَارَى وَلَبِسُوا المُسُوْحَ. وَقِيلَ: أَخَذُوا مِنْ دِينِ النَّصَارَى شَيْئًا، وَمِنْ دِينِ اليَهُودِ شَيْئًا، وَهُمُ القائلونَ بِأَنَّ للعَالَمِ أَصْلَيْنِ: نُورٌ وَظُلْمَةٌ. وَقِيلَ: هُمْ قَوْمٌ يَسْتَعْمِلُونَ النَّجَاسَاتِ، وَالأَصْلُ: نَجُوس بِالنُّونِ فَأُبْدِلَتْ مِيمًا.
وَالمجوسِيَّةُ ديانةٌ قَديمَةٌ، يُعْتَقَدُ أَنَّهَا كانَتْ قَبْلَ خَلِيلِ الرَّحْمَنِ إِبْراهيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، مُؤَسِّسُها هُوَ (كِيُومَرْث) أَوَّلُ مُلُوك الفُرْسِ المُلَقَّبُ بِـ (جَلْ شَاهْ) يَعْنِي: مَلِكُ الْأَرْضِ. وَفِي عقيدَتِهِمْ أَنَّ (يِزْدانَ) إِلهَ الخيرِ مُتَفَرِّدٌ بِالْوُجُودِ الْأَزَلِيِّ، وَقدْ كَانَ نُورَانِيًّا، وَبَقِيَ كَذَلِكَ تِسْعَةَ آلَافٍ وَتِسْعِينَ سَنَةً، ثُمَّ حَدَثَ لَهُ خَاطِرٌ فِي نَفْسِهِ بِأَنَّهُ لَوْ حَدَثَ لَهُ مُنَازِعٌ كَيْفَ يَكُونُ الْأَمْرُ، فَنَشَأَ مِنْ هَذَا الْخَاطِرِ مَوْجُودٌ جَدِيدٌ ظُلْمَانِيٌّ سُمِّيَ (أَهْرُمُن) وَهُوَ إِلَهُ الظُّلْمَةِ مَطْبُوعًا عَلَى الشَّرِّ وَالضُّرِّ. وَقدْ أَشَارَ أَبُو الْعَلَاءِ الْمَعَرِّيُّ فِي لُزُومِيَّاتِهِ إِلَى هَذَا فقَالَ:
قَالَ أُنَاسٌ بَاطِلٌ زَعْمُهُمْ ........................ فَرَاقِبُوا اللهَ وَلَا تَزْعُمُنْ
وقد دعا (زَرَادَشْتُ) إِلَى عِبَادَةِ النَّارِ عَلَى أَنَّهَا مَظْهَرُ إِلَهِ الْخَيْرِ وَهُوَ النُّورُ. وَوَسَّعَ شَرِيعَةَ الْمَجُوسِيَّةِ، وَوَضَعَ لَهَا كِتَابًا سَمَّاهُ (زَنْدَافِسْتَا). وَمِنْ أُصُولِ شَرِيعَتِهِ تَجَنُّبُ عِبَادَةِ التَّمَاثِيلِ. ثُمَّ ظَهَرَتْ (الْمَانَوِيَّةِ)، نِسْبَةً إِلَى (مَانِي) الَّذِي ظَهَرَ فِي زَمَنِ (سَابُور بْنِ أَرْدِشِير) الذي مَلَكِ الْفُرْسَ بَيْنَ سَنَةِ: 238 وَسَنَةِ 271 مِيلادِيَّة. ثُمَّ ظَهَرَتْ زَمَنَ المَلِكِ (قُبَاذ) سَنَةَ: (487 ـ 523) للميلادِ. (الْمَزْدَكِيَّةِ)، نِسْبَةً إِلَى (مَزْدَك) وَهِيَ قَرِيبَةٌ مِنَ (الْمَانَوِيَّةِ)، وَهِيَ الأَخِيرَةُ فِي تَطَوُّرِ الْمَجُوسِيَّةِ قَبْلَ بِعْثَةِ النَّبِيِّ ـ عَلَيْهِ وآلِهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ، وَفَتْحِ المُسْلِمِيِّنَ لِبِلَادِ فارْسِ ونَشْرِ ديانتهم فيها، فانْدَثَرَتْ المَجوسِيَّةُ.
وَيَخْتَلِفُ المَجُوسُ عَنِ المُشْركينَ بِمَنْعِهم عِبَادَةَ الْأَحْجَارِ، وَبَأَنَّ لَهُمْ كِتَابًا، فَأَشْبَهُوا بِذَلِكَ أَهْلَ الْكِتَابِ، وإِنْ شابهوا المُشْرِكينَ فِي الْأَصْلِ بِالْإِشْرَاكِ. وَلِذَلِكَ قَالَ فِيهِمُ النَّبِيُّ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ: ((سُنُّوا بِهِمْ سُنَّةَ أَهْلِ الْكِتَابِ)). أَيْ اكْتَفُوا مِنْهُمْ بِأَخْذِ الْجِزْيَةِ، وَلا تُكْرِهوهم عَلَى الْإِسْلَامِ، كَمَا هُوَ الحُكْمُ في الْمُشْرِكُينَ.
قوْلُهُ: {وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} وَهُمْ مَنِ ادَّعوا للهِ ـ عَزَّ وجَلَّ، شُرَكاءَ لَهُ في مُلْكِهِ، وَمُشاركينَ لهُ في تَصْريفِ أُمُورِهِ، فَكانُوا يَخْتَرِعُونَهُمْ مِنَ البَشَرِ حِينًا، وَمِنَ الحَيَوانِ وَالنَّجْمِ والكَواكِبِ وَالمَلَائِكَةِ أَحْيانًا أُخْرَى. وكانوا يَعْتَقَدُونَ فِيهَا النَّفْعَ وَالضَّرَرَ، وَرُبَّمَا اتَّخَذوا لِهَؤُلاءِ الشُّرَكاءِ تَمَاثِيلَ مِنَ الحَجَرِ، أَوِ الطِّينِ، أَوِ الذَّهَبِ أَو الأَحْجَارِ الكَريمَةِ، أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ.
وكما اخْتَلَفَتْ مَوَادُّ صُنْعها عنَهُم، اخْتَلَفَتْ أَشْكالُهَا، وتَفَاوَتَتْ أَحْجَامُها، وَقَدْ عَبَدُوهَا مَعَ اللهِ، أَوْ مِنْ دُونِ اللهِ، أَوْ كَوَاسِطةٍ ووسيلةٍ لِتُقَرِّبَهُم مِنَ اللهِ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، أَوْ لِتَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَهَ، وَهُمْ عَلَى مِلَلٍ وَنِحَلٍ وفئاتٍ وفِرَقٍ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ تُحْصَى. ويَخْتَلِفُ أَهْلُ الشِّركِ عَنْ أهلِ الإلحادِ بأَنَّهُمْ يَعْتَرِفونَ بوُجودِ إِلهٍ للكونِ، إِنَّما جَعَلُوا لَهُ شُركاءَ مِمَّنْ خَلَقَ، بَيْنَمَا نَفَى المُلْحِدونَ وُجودَ الإلهِ الخالقِ المُتَصَرِّفِ فِيمَا خلَقَ، واعْتَقَدوا أَنَّ الكونَ قديمٌ، وإنَّما يَحْدُثُ ما يَحْدُثُ فيهِ نتيجةَ تفاعلاتٍ في ظروفٍ مُعيَّنةٍ بَيْنَ أَجْزَائهِ ومُكوناتِهِ، ومذاهِبُهُمْ في ذَلِكَ كثيرةٌ أَيْضًا لا مجالِ هُنَا لِلِاسْتِفَاضَةِ فِي الحَديثِ عَنْهَا بأكْثَرَ مِنْ هَذا.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} أَيْ: يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يومَ القِيامةِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنْ تَصْحِيحِ الدِّيَانَةِ. فَالْفَصْلُ: هُوَ الْحُكْمُ، والقَضَاءُ بَيْنَ الحَقِّ وَالباطِلِ، وَالفَصْلُ : الحَقُّ مِنَ القَوْلِ وَبِهِ فُسِّرَ قَوْلُهُ تَعَالَى مِنْ سُورةِ الطارق: {إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بالهَزْلِ} الآيَتانِ: (13و 14)، أَيْ: حَقٌّ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ: "إِنَّ اللهَ يَفْصلُ بَيْنَهُمْ"، قَالَ: فَصَلَ قَضَاءَهُ بَيْنَهُمْ فَجَعَلَ الْجَنَّةَ مُشْتَرَكَةً، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ وَاحِدَةً.
وَالفَصْلُ في الأصْلِ: فَطْمُ الطفْلِ الرَّضيعِ عَنْ ثَدْيِ أُمِّهِ يُقالُ: فَصَلَ الرَّضيعَ وافْتَصَلَه: إِذَا فَطَمَهُ. والاسْمُ الفِصَالُ، قالَ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ لُقْمَان: {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْن} الآيةَ: 14، وقالَ مِنْ سورةِ الأحقافِ: {وَحَمْلُهُ وفِصالُه ثَلاثُونَ شَهْرًا} الآيةَ: 15، وَفَصَلَ يَفْصِلُ بَيْنَ الشَّيئَيْنِ فَصْلًا: حَجْزَ بينَهُما. والفَصْلُ ـ أَيْضًا: القَطْعُ وإبانَةُ أَحَدِ الشَّيْئَيْنِ عَن الآخَرِ. وَالفَاصِلَةُ: إِشارةٌ توضَعُ بينَ الجُمْلتَيْنِ لِتَفْصِلَ بَيْنَهما. وَأَوَاخِرُ آياتِ التَّنْزيلِ العَزيزِ فَوَاصِلُ بِمَنْزِلَةِ القَوَافي في الشِّعْرِ. الحَجْزُ. وَالفَيْصَلُ: السَّيفُ لأنَّهُ يفصِلُ بينَ المتخاصِمَيْنِ. وَالفَصيلُ: وَلَدُ النَّاقَةِ، أَوِ البقرةِ إِذَا فُصِلَ عَنْ أُمِّهِ. والجَمْعُ: فُصْلانٌ وَفَصيلَةُ الرَّجُلِ: عَشِيرَتُهُ وَرَهْطُهُ الأَدْنَونَ، وَهِيَ دُونَ القَبِيلَةِ، قَالَ ـ تَعَالى، مِنْ سُورَةِ المَعَارِجِ: {وفَصيلَتِهِ الّتي تُؤْوِيهِ} الآيةَ: 13، وَكَانَ يُقالُ للعَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ المُطَّلِبِ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: فَصِيلَةُ النَّبيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَصْلُ الفَصِيلَةِ القِطْعَةُ مِنْ أَعْضَاءِ الجَسَدِ. وَفَصَلَ مِنَ البَلَدِ فُصُولًا خَرَجَ مِنْها، قالَ ـ تَعَالَى، مِنْ سورةِ يوسُفَ: {وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ} الآيَةَ: 94، ومِنْهُ قَولُ أَبي ذُؤَيبٍ الهُذَلِيِّ:
وَشِيكَ الفُصُولِ بَعيدَ الغُفُو ................ لِ إِلَّا مُشاحًا بِهِ أَوْ مُشِيحَا
والمِفَصَلُ: مُلْتَقَى عَظْمَيْنِ مِنَ الجَسَدِ. وَمَوْضِعُ المَفْصِلِ مِنْهُ، وَبَيْنَ كُلِّ فَصْلَيْنِ وَصْلٌ وَأَنْشَدَوا عَلَى ذَلِكَ:
وَصْلًا وَفَصْلًا وتَجميعًا ومُفْتَرِقًا .............. فَتْقًا وَرَتْقًا وَتَأْلِيفًا لِإِنْسَانِ
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} شَهِيدٌ: أَيْ: عَالِمٌ. والجُملةُ إِعْلَامٌ بِإِحَاطَةِ عِلْمِ اللهِ ـ تَبَاركَ وَتَعَالَى، بِأَحْوَالِهِمْ جميعًا، وَاخْتِلَافِ مَذاهِبِهِم ونِحَلِهِمْ، وَيَعلمُ الصَّحِيحَ مِنَ الخطَأِ مِنْ أَقْوَالِهِمْ. وهوَ شاهِدٌ عَلَى كُلِّهِ، وفي ذلكَ تَهْديدٌ لَهُمْ ووَعيدٌ بأَنَّهُ سيُحاسِبُهم عَلَى كلِّ ما قالوهُ أَو فعلوهُ يومَ القيامةِ. وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ سُبْحانَهُ: "إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا ..". الْآيَةَ، قَالَ: الصَّابِئُونَ قَوْمٌ يَعْبُدُونَ الْمَلَائِكَةَ، وَيُصَلَّونَ الْقِبْلَةَ، وَيَقْرَؤونَ الزَّبُورَ. و "الْمَجُوسَ" عَبَدَةُ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ وَالنَّيِّرانِ. وَأَمَّا "الَّذينَ أَشْرَكُوا" فَهُمْ عَبَدَةُ الْأَوْثَانِ. وَ "إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ" قَالَ: الْأَدْيَانُ سِتَّةٌ: فَخَمْسَةٌ للشَّيْطَانِ، وَدِينٌ للهِ ـ عَزَّ وَجَلَّ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِمٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَيَضًا ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَتِ الْيَهُودُ: عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَقَالَتِ النَّصَارَى: الْمَسِيحُ ابْنُ اللهِ. وَقَالَتِ الصَّابِئَةُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْمَلَائِكَةَ مِنْ دُونِ اللهِ. وَقَالَتِ الْمَجُوسُ: نَحْنُ نَعْبُدُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ مِنْ دُونِ اللهِ. وَقَالَتِ الْمُشْركُونَ: نَحْنُ نَعْبُدُ الْأَوْثَانَ مِنْ دُونِ اللهِ.
فَأَوْحَى اللهُ إِلَى نَبِيِّهِ لِيُكَذِّبَ قَوْلَهُمْ: {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} الآيةَ: 1، مِنْ سُورَةِ الصَّمَد إِلَى آخِرِهَا. و {وَقُلِ الْحَمْدُ للهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا} الآيَةَ: 111، مِنْ سورة الْإِسْرَاء. وَأَنْزَلَ اللهُ: "إِنَّ الَّذينَ آمَنُوا وَالَّذينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ".
وَأَخْرَج ابْنُ مِرْدُوَيْه عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِي اللهُ عَنْهُمَا، فِي هَذِه الْآيَةِ، قَالَ: "الَّذينَ هَادُوا" الْيَهُودُ، و "الصَّابِئينَ" لَيْسَ لَهُم كتابٌ. وَ "الْمَجُوسَ" أَصْحَابُ الْأَصْنَامِ، وَ "الْمُشْرِكُينَ" نَصَارَى الْعَرَبِ. واللهُ أَعلمُ.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ الَّذِينَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ، للتَّوكيدِ. و "الَّذينَ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلى الفتْحِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ اسْمُ "إنَّ"، وَخَبَرُهَا جُمْلَةُ "إِنَّ" الآتِيَةِ بَعْدَهَا.
قَالَ أَبُو القاسِمِ الزَّمَخْشَرِيُّ في تَفْسِيرِهِ (الكَشَّافُ): (وَأُدْخِلَتْ "إِنَّ" عَلَى كُلِّ وَاحِدٍ مِنْ جُزْأَيِ الجُمْلَةِ لِزِيَادَةِ التَّأْكِيدِ. وَنَحْوُ هُذَا قَوْلُ جَريرِ بْنِ عَطِيَّةَ:
إِنَّ الخَلِيفَةَ إِنَّ اللهَ سَرْبَلَهُ ............... سِرْبالَ مُلْكٍ بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيمُ
قالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأَنْدَلُسيُّ في تَفْسيرِهِ (البَحْرُ المُحيطُ): وظَاهِرُ هَذَا أَنَّهُ شَبَّهَ البَيْتَ بِالآيَةِ، وَكَذَلِكَ قَرَنَهُ أَبو إسْحاق الزَّجَّاجُ بِالآيَةِ، وَلَا يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ البَيْتُ كَالآيَةِ؛ لِأَنَّ البَيْتَ يَحْتَمِلُ أَنْ يَكونَ "الخَلِيفَةَ" خَبَرُهُ "بِهِ تُرْجَى الخَوَاتِيمُ"، وَيَكُونَ "إِنَّ اللهَ سَرْبَلَهُ" جُمْلَةَ اعْتِرَاضٍ بَيْنَ اسْمِ "إِنَّ" وَخَبَرِها، بِخِلَافِ الآيَةِ، فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ: "إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ". وَحَسَّنَ دُخُولَ "إِنَّ" عَلَى الجُمْلَةِ الوَاقِعَةِ خَبَرًا طُولُ الفَصْلِ بَيْنَهُمَا بالمَعَاطِيفِ، انتهى.
قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ في تفسيرِهِ (الدُّرُّ المَصونُ): قَوْلُهُ: فَإِنَّهُ يَتَعَيَّنُ قَوْلُهُ "إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ" يَعْنِي أَنْ يَكُونَ خَبَرًا. وَلَيْسَ كَذَلِكَ لِأَنَّ الآيَةَ مُحْتَمِلَةٌ لِوَجْهَيْنِ آخَرَيْنِ ذَكَرَهُمَا النَّاسُ. الأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ الخَبَرُ مَحْذُوفًا تَقْديرُهُ: يَفْتَرِقُونَ يَوْمَ القِيَامِةِ، وَنَحُوُهُ، وَالمَذْكُورُ تَفْسيرٌ لَهُ. كَذَا ذَكَرَهُ أَبُو البَقَاءِ العُكْبُريُّ. وَالثانِي: أَنَّ "إِنَّ" الثَّانِيَةَ تَكْريرٌ لِلْأُولَى عَلَى سَبِيلِ التَّوْكِيدِ. وَهَذَا مَاشٍ عَلَى القَاعِدَةِ: وَهُوَ أَنَّ الحَرْفَ إِذَا كُرِّرَ تَوْكِيدًا أُعِيْدَ مَعَهُ مَا اتَّصَلَ بِهِ، أَوْ ضَمِيرُ مَا اتَّصَلَ بِهِ، وَهَذَا قَدْ أُعِيدَ مَعَهُ مَا اتَّصَلَ بِهِ أَوَّلًا: وَهِيَ الجَلَالَةُ المُعَظَّمَةُ، فَلَمْ يَتَعَيَّنْ أَنْ يَكونَ قَوْلُهُ: "إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ" خَبَرًا لِـ "إِنَّ" الأَوْلَى كَمَا ذُكِرَ.
قولُهُ: {آمَنُوا} فعلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ على الضَّمَ لاتِّصالِهِ بواوِ الجماعةِ، وواوُ الجماعَةِ ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ، مَبْنِيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ للتَّفْريقِ، وَالجُمْلَةُ صِلَةُ الاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذين" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هادُوا} الوَاوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "الَّذِينَ هادوا" مَعطوفٌ عَلى "الذينَ آمنوا" وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ.
قَوْلُهُ: {وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ} مَعْطُوفَاتٌ عَلَى الاسْمِ المَوْصُولِ اَلْأَوَّلِ، عَلَى كَوْنِهِ اسْمَ "إِنَّ" مَنْصْوبًا بِهَا.
قوْلُهُ: {وَالَّذينَ أَشْرَكُوا} الوَاوُ: حَرْفُ عَطْفٍ، وَ "الَّذِينَ أَشْرَكوا" مَعطوفٌ عَلى "الذينَ آمنوا" وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ.
قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، وخبرُهُ جملةُ "يَفْصِلُ" بعدَهُ، والجملةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخبرِها في محلِّ الرَّفعِ خبرُ "إِنَّ" الأَولى.
قولُهُ {يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ} يَفْصِلُ: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "بَيْنَهُمْ" مَنْصُوبٌ عَلَى الظَّرْفِيَّةِ الاعْتِباريَّةِ، مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَفْصِلُ"، وَهُوَ مُضافٌ، وَالْهاء: ضَميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضَافَةِ إِلَيْهِ، والميمُ لتذكيرِ الجَمعِ. وَ "يَوْمَ" منصوبٌ على الظَّرفيَّةِ الزَّمانيةِ مُتَعَلِّقٌ أَيْضًا بِـ "يَفْصِلُ"، وهوَ مُضافٌ. و "الْقِيَامَةِ" مجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ} إِنَّ: حرفٌ نَاصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفعلِ، للتَّوكيدِ، ولفظُ الجلالةِ "اللهَ" اسْمُهُ منصوبٌ بِهِ، و "عَلَى" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخبرِ بعدَهُ أَي: "شَهِيدٌ"، وَ "كُلِّ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ، مُضافٌ، وَ "شَيْءٍ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. وَ "شهيدٌ" خَبَرُ "إِنَّ" مرفوعٌ. وَالجُمْلَةُ مِنْ "إِنَّ" واسْمِها وخبرِها مُسْتَأْنَفَةٌ اسْتِئْنَافًا ابْتِدَائِيًّا. مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ قَوْلِهِ ـ تَعَالَى: "إِنَّ اللهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ. وَكَأَنَّ قَائِلًا قَالَ: أَهَذَا الفَصْلُ عَنْ عِلْمٍ، أَوْ لَا؟، فَأُجيبَ: "إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٍ".