إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ
(14)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} وَعْدٌ مِنَ اللهِ ـ تَعَالَى، لِمَنْ عَبَدَهُ على كُلِّ الأَحوالِ، لَا مَنْ عَبَدَهُ عَلَى حَرْفٍ، وهوَ في مُقَابِلِ قَوْلِهِ في الآيةِ: 9، السَّابقةِ: {وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ}، وَقَوْلِهِ في الآيةِ: 11، منها: {خَسِرَ الدُّنْيا وَالْآخِرَةَ}. فَهذِهِ الْجُمْلَةُ مُعْتَرِضَةٌ، لأَنَّهُ لَمَّا ذَكَرَ ـ تَعَالى، هناكَ الشَّاكَّ فِي الدِّينِ، ووَصَفَهُ بِالْحِيرَةِ وَالرُّجُوعِ إِلَى الكُفْرِ وَعِبادَةِ مَا لَا يَنْفَعُهُ فِي الدُنْيَا وَالآخِرَةِ مِنَ الأَصْنامِ وَالأَوْثَانِ، وَذَمَّهُ بالخُسْرَانِ، ذَكَرَ هنا ثَوَابَ المُؤْمِنِينَ فَقَالَ: "إِنَّ اللهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا" الآيَةَ.
وَقَدِ اقْتُصَرَ هُنَا عَلَى ذِكْرِ مَا لِهؤُلاءِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ ثَوَابٍ في الْآخِرَةِ، دُونَ ذِكْرِ حَالِهِمْ وما كانوا عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا ـ كَمَا ذَكَرَ حالَ أُولئكَ، لِعَدَمِ أَهَمِّيَّةِ ذَلِكَ، لَا بالنِّسْبةِ إلَيْهِمْ، وَلَا فِي نَظَرِ الدِّينِ، لأَنَّهُ ـ سُبْحانَهُ، إِنَّما يُدْخِلُهُمُ الجَنَّةَ، ويُنْعِمُ عَلَيْهِمْ بِمَا شَاءَ مِنْ نَعِيمٍ، بِمَحْضِ كَرَمِهِ وَفَضْلِهِ، لَا باسْتِحقاقٍ مِنْهُمْ، وَقَدْ أَشَرنا إِلَى هَذَا المَعْنَى وَبَيَّنَّاهُ فِي غَيْرِ مَوْضِعٍ مِنْ هَذا السِّفرِ الكَريمِ.
قولُهُ: {إِنَّ اللهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ} تَذْيِيلٌ لِلْكَلَامِ الْمُتَقَدِّمِ مِنْ قَوْلِهِ في الآيةِ: 8، السَّابقةِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ}، إِلَى هُنَا، وَهُوَ أَيْضًا اعْتِرَاضٌ بَيْنَ الْجُمَلِ الْمُلْتَئِمِ مِنْهَا الْغَرَضُ. وَفِيهَا مَعْنَى التَّعْلِيلِ الْإِجْمَالِيِّ لِاخْتِلَافِ أَحْوَالِ النَّاسِ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ.
وَفِعْلُ اللهِ مَا يُرِيدُ هُوَ إِيجَادُ أَسْبَابِ أَفْعَالِ الْعِبَادِ فِي سُنَّةِ نِظَامِ هَذَا الْعَالَمِ، وَتَبْيِينُهُ الْخَيْرَ وَالشَّرَّ، وَتَرْتِيبِهِ الثَّوَابَ وَالْعِقَابَ عَلَى ما يَظْهَرَ مِنْ أَفعالِهِمْ، الأمْرُ الذي لَا يُحِيطُ بِتَفَاصِيلِهِ إِلَّا اللهُ ـ تَعَالَى.
وقالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: يُريدُ أَوْلِيَاءَهُ وأَهْلَ طَاعَتِهِ. وَقالَ غَيْرُهُ: "يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ" فَيُنْزِلُ على مَنْ يَشَاءَ مِنْ أَهْلِ مَعْصِيَتِهِ، مَا شَاءَ مِنْ ذلٍّ وَهَوَانٍ، وَمَا قَدَّرَهُ عَليهِمْ مِنْ مَظَاهِرِ سُخْطِهِ وغَضَبِهِ. وَيُعْطِي مَنْ شَاءَ مِنْ أَهْلِ طَاعَتِهِ مَا شَاءَ مِنْ كَرَامَتِهِ.
وَقَدْ أَكَّدَ وُقُوعَ ذَلِكَ وَحُصُولَهُ للفَريقَيْنِ، فريقِ المُؤمنينَ، وفريقِ المُشْرِكِينَ أَهْلِ الشَّكِّ، بِـ "إِنَّ"، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
قولُهُ تَعَالى: {إِنَّ اللهَ} إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ. وَلفظُ الجَلَالةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَخبَرُ "إِنَّ" جُمْلَةُ "يُدْخِلُ" وَهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا} يُدْخِلُ: فعلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لتَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالَى. و "الَّذِينَ" اسمٌ مَوْصولٌ مَبْنِيٌّ على الفَتْحِ في مَحَلِّ النَّصْبِ عَلى المَفْعُوليَّةِ. وَالْجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرُ "إِنَّ".
قَوْلُهُ: {آمَنُوا} فِعْلٌ ماضٍ مَبنيٌّ على الضَّمِّ لاتِّصالِهِ بَوَاوِ الجَمَاعَةِ، وَواوُ الجَمَاعَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والأَلِفُ فارقةٌ، والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ للاسْمِ المَوْصُولِ "الَّذينَ" لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قوْلُهُ: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ} الوَاوُ: للعَطْفِ، و "عَمِلُوا" مِثْلُ "آمَنُوا" معطوفٌ عَليْهِ وَلَهُ مِثْلُ إِعْرابِهِ. وَ "الصَّالِحَاتِ" مَفْعولُهُ منصوبٌ بِهِ، وعلامةُ نَصْبِهِ الكسرَةُ نِيابةً عَنِ الفتحةِ لأَنَّهُ جمعُ المُؤنَّثِ السَّالمُ وفاعل ومفعول، وَ "جَنَّاتٍ" مَفْعُولٌ بِهِ ثَانٍ عَلَى السَّعَةِ، أَوْ مَنْصوبٌ بِنَزْعِ الخَافِضَ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "آمَنُوا" عَلَى كونِها صلَةَ الموصولِ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قوْلُهُ: {تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ} تَجْرِي: فعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الياءِ. وَ "مِنْ" حرفُ جرِّ مُتَعلِّقٌ بِـ "تَجْرِي"، و "تَحْتِهَا" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ، وهوَ مُضافٌ، وَ "هَا" ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "الْأَنْهَارُ" فاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ. والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ على كونِها صِفَةً لِـ "جَنَّاتٍ".
قَوْلُهُ: {إِنَّ اللهَ} إِنَّ: إِنَّ: حرفٌ ناصِبٌ، ناسِخٌ، مُشَبَّهٌ بالفِعْلِ للتَّوكيدِ. وَلفظُ الجَلَالةِ "اللهَ" اسْمُهُ مَنْصوبٌ بِهِ، وَخبَرُ "إِنَّ" جُمْلَةُ "يُفْعَلُ" وَهَذِهِ الجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ مَسُوقَةٌ لِتَعْلِيلِ مَا تَقَدَّمَ، لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.
قولُهُ: {يَفْعَلُ مَا} يَفْعَلُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، وَ "مَا" اسْمٌ مَوْصولٌ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ النَّصْبِ عَلَى المَفْعُولِيَّةِ، وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الرَّفعِ عَلى كَوْنِها خَبَرًا لـ "إنَّ".
وَقَوْلُهُ: {يُرِيدُ} فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فِيْهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى اللهِ ـ تَعَالى، والجُمْلَةُ الفعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَا" المَوْصُولَةِ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعْرابِ، والعائدُ مَحْذُوفٌ، والتقديرُ: يُريدُهُ.