يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ
(13)
قولُهُ ـ تَعَالى شأْنُهُ: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} مَا زَالَ الحَديثُ عَنْ أُولِئِكَ الَّذينَ يَعبُدونَ اللهَ عَلَى حَرْفٍ، فَالضَّمِيرُ في "يَدْعُو" هُنَا ـ كَالَّذي فِي {يَدْعُو} مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَهَا، عائدٌ عَلَى المَقْصُودِ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ} الآيَةَ: 11، السَّابِقَةِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ هُنَاكَ بَيَانُ مَنْ هُمْ.
وَمَا ذَكَرَهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ، فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ وَالَّتي قَبْلَهَا مِنْ أَنَّ الْأَوْثَانَ لَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا، وَلَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، بَيَّنَهُ ـ سُبْحانَهُ فِي غَيْرِ آيةٍ مِنْ كتابِهِ العَزيزِ، فَقَلَ في الآيَةِ: 18، مِنْ سُورَةِ يُونُسَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ}. وَقَالَ مِنْ سُورَةِ الشُّعَراءِ فِي مَعْرِضِ الحَديثِ عَنْ خَليلِهِ إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: {قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ} الآيات: (72 ـ 74). وَغَيْرِهَا مِنْ آيَاتٍ بَيِّناتٍ مُباركاتِ.
وَإِذًا فَقَدِ اعْتَرَفُوا بِأَنَّ الأَصْنَامَ الَّتي كانُوا يَعْبُدُونَها مِنْ دُونِ اللهِ ـ تَبَاركَ وَتَعَالَى، لَا تَسْمَعُ ولَا تُبْصِرُ، وَلَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَإِنَّما عَبَدُوهُا تَقْلِيدًا لِآبَائِهِمْ وأَجْدَادِهِمْ.
وَقِالَ في الآيَةِ: 12، السَّابِقَةِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} فَجَمَعَ بَيْنَ نَفْيِهِ النَّفْعَ وَالضُّرَّ مَعًا عَنْ أَصْنامِهِمُ الَّتي عْبَدوها مِنْ دُونِ اللهِ، وَقَالَ هُنَا: "يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" فَأَثْبَتَهُمَا لَها: لِأَنَّ صِيغَةَ التَّفْضِيلِ "أَقْرَبُ" دَلَّتْ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ نَفْعًا وَضَرًّا، وَلَكِنَّ الضَّرَّ أَقْرَبُ مِنَ النَّفْعِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: فَإِنْ قُلْتَ: الضَّرُّ وَالنَّفْعُ مَنْفَيَّانِ عَنِ الْأَصْنَامِ، مُثْبَتَانِ لَهَا فِي الْآيَتَيْنِ، وَهَذَا تَنَاقُضٌ. قُلْتُ: إِذَا حَصَلَ الْمَعْنَى ذَهَبَ هَذَا الْوَهْمُ، وَذَلِكَ أَنَّ اللهَ ـ تَعَالَى، سَفَّهَ الْكَافِرَ بِأَنَّهُ يَعْبُدُ جَمَادًا لَا يَمْلِكُ ضَرًّا، وَلَا نَفْعًا، وَهُوَ يَعْتَقِدُ فِيهِ بِجَهْلِهِ وَضَلَالِهِ أَنَّهُ يَسْتَنْفِعُ بِهِ حِينَ يَسْتَشْفِعُ بِهِ، ثُمَّ قَالَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ: يَقُولُ هَذَا الْكَافِرُ بِدُعَاءٍ وَصُرَاخٍ حِينَ يَرَى اسْتِضْرَارَهُ بِالْأَصْنَامِ وَدُخُولَهُ النَّارَ بِعِبَادَتِهَا، وَلَا يَرَى أَثَرَ الشَّفَاعَةِ الَّتِي ادَّعَاهَا لَهَا: "لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ". وَكَرَّرَ "يَدْعُو" كَأَنَّهُ قَالَ: يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ. ثُمَّ قَالَ لِمَنْ ضَرُّهُ بِكَوْنِهِ مَعْبُودًا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِكَوْنِهِ شَفِيعًا: "لَبِئْسَ الْمَوْلَى، وَلَبِئْسَ الْعَشِيرِ". انْتَهَى.
وَقَدْ رَدَّ علَيْه الشَّيْخُ أَبُو حَيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ: (الْبَحْرُ المُحيطُ): وَحَاصِلُهُ: أَنَّ الْآيَةَ الْأَوْلَى فِي الَّذِينَ يَعْبُدُونَ الْأَصْنَامَ، فَالْأَصْنَامُ لَا تَنْفَعُ مَنْ عَبَدَهَا، وَلَا تَضُرُّ مَنْ كَفَرَ بِهَا؛ وَلِذَا قَالَ فِيهَا: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِذَلِكَ الْأَصْنَامُ، هِيَ التَّعْبِيرُ بِلَفْظَةِ "مَا" فِي قَوْلِهِ: {مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ} الآيةَ: 12، لِأَنَّ لَفْظَةَ "مَا" تَأْتِي لِمَا لَا يَعْقِلُ، وَالْأَصْنَامُ لَا تَعْقِلُ.
أَمَّا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي مَنْ عَبَدَ بَعْضَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ مِنْ دُونِ اللهِ، كَفِرْعَوْنَ الْقَائِلِ: {مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي} الآية: 38، مِنْ سورةِ: القَصَص. و {لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ} الآيةَ: 29، مِنْ سُورَةِ الشُّعَرَاءِ. وَ {أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى} الآيَةَ: 24، مِنْ سُورَةِ النَّازِعاتِ. فَإِنَّ فِرْعَوْنَ ـ وَنَحْوَهُ مِنَ الطُّغَاةِ الْمَعْبُودِينَ، قَدْ يُغْدِقُونَ نِعَمَ الدُّنْيَا عَلَى عَابِدِيهِمْ؛ وَلِذَا قَالَ لَهُ الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانُوا سَحَرَةً عنْدَهُ: {أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ} الآيَتَانِ: (41 ـ 42)، مِنْ سُورَةِ الشُّعَراءِ. فَهَذَا النَّفْعُ الدُّنْيَوِيُّ بِالنِّسْبَةِ إِلَى مَا سَيُلَاقُونَهُ مِنَ الْعَذَابِ وَالْخُلُودِ فِي النَّارِ كَلَا شَيْءٍ، فَضَرُّ هَذَا الْمَعْبُودِ بِخُلُودِ عَابِدِهِ فِي النَّارِ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ بِعَرَضٍ قَلِيلٍ زَائِلٍ مِنْ حُطَامِ الدُّنْيَا، وَالْقَرِينَةُ عَلَى أَنَّ الْمَعْبُودَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْأَخِيرَةِ بَعْضُ الطُّغَاةِ الَّذِينَ هُمْ مَنْ جِنْسِ الْعُقَلَاءِ هِيَ التَّعْبِيرُ بِـ "مَنْ" الَّتِي تَأْتِي لِمَنْ يَعْقِلُ فِي قَوْلِهِ: "يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" يَقُولُ: ضَرُّهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ أَجْلِ عِبَادَتِهِ إِيَّاهُ فِي الدُّنْيَا.
قوْلُهُ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} يُخْبِرُ اللهُ تَعَالَى أَنَّ مَنْ كانَ ضَرُّهُ أَقْرَبَ مِنْ نَفْعِهِ فَإِنَّهُ "بِئْسَ المَوْلَى وَبِئْسَ العَشيرُ"، فَهُوَ ذَمٌّ لِلْأَصْنَامِ الَّتِي يَدْعُونَهَا مِنْ دونِ اللهِ بِأَنَّهَا شَرُّ الْمَوَالِي، وَشَرُّ الْعُشَرَاءِ لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْمَوْلَى جَلْبُ النَّفْعِ لِمَنْ توْلَاهُ، وَمِنْ شَأْنَ الْعَشِيرِ جَلْبُ الْخَيْرِ لِعَشِيرِهِ، فَإِذَا تَخَلَّفَ ذَلِكَ مِنْهُمَا ـ وَلَوْ نَادِرًا، كَانَ هذا التَّخلُّفَ مَذَمَّةً لَهُمْ، فَكَيْفَ إذَا كَانَ التَّخَلُّفُ مُطَّرِدًا مِنْهم؟. فَلَا شَكَّ بِأَنَّهُم شَرُّ المَوَالِي وَالعُشَرَاءِ.
وَالمُرادُ بِالْمُوْلَى هُناَ هُوَ "مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ" الَّذِي يَدْعُوهُ المُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ اللهِ. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي حَاتِم عَنِ السُّدِّيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "لَبِئْسَ الْمَوْلَى" يَقُولُ: الصَّنَمُ.
وَقَدْ جَاءَ هُذَا الذَّمُّ لِمُعْبُودِهِمُ الذي يدعونَهُ مِنْ دونِ اللهِ ـ تَعَالَى، بِطَريقَةِ الإِخْبَارِ. وَاللَّامُ فِي قولِهِ: "لَبِئْسَ" هِيَ اللَّامُ الَّتِي يُتَلَقَّى بِهَا الْقَسَمُ، وَهِيَ تَدُلُّ عَلَى يَمِينٍ مَحْذُوفَةٍ، فَكَأَنَّهُ قَالَ: لَلَّذي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ وَاللهِ لَبِئْسَ المَوْلَى وَلَبِئْسَ العَشرُ. فهِيَ كَالَّتي في قَوْلِ امْرِئِ القَيْسِ:
حَلَفْتُ لَهَا بِاللهِ حَلْفَةَ فَاجِرٍ ......... لَنَامُوا، فَمَا إِنْ مِنْ رَقيبٍ وَلَا صَالِي
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ: "وَلَبِئْسَ العَشِيرُ" قَالَ: الصَّاحِبُ.
قوْلُهُ تَعَالى: {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ} يَدْعُو: فِعْلٌ مُضَارِعٌ مَرْفوعٌ لتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رَفْعِه ضمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لِثِقَلِها على الواوِ. وَفَاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتَتِرٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هُوَ) يَعُودُ عَلَى العَابِدِ. و "لَمَنْ" اللَّامُ: حَرْفُ ابْتِدَاءِ. وَ "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ، فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ. و "ضَرُّهُ" مَرفوعٌ بالابْتِداءِ، مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجرِّ بالإِضافةِ إِلَيْهِ. و "أَقْرَبُ" خَبَرُ المُبْتَدَأِ "ضَرُّ". و "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِالخَبَرِ "أَقْرَبُ"، و "نَفْعِهِ"، مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إلَيْهِ، وَهَذِهِ الجُمْلَةُ الاسْمِيَّةُ مِنَ المُبْتَدَأِ الأَخِيرِ وَخَبَرِهِ، صِلَةُ لِـ "مِنْ" الْمَوْصُولَةِ. وَفِي هَذِهِ الجُمَلَةِ عَشرَةُ أَوْجُهٍ ذكَرها السَّمينُ الحلَبيُّ في تَفسيرِهِ "الدُّرُّ المَصُونُ، فقالَ: إِمَّا بِجَعْلِ "يَدْعُو" مُتَسَلِّطًا عَلَى الجُمْلَةِ مِنْ قَوْلِهِ: "لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ" أَوْ لَا. فَإِنْ جَعَلْنَاهُ مُتَسَلِّطًا عَلَيْهَا كانَ فِيهِ سَبْعَةُ أَوْجُهٍ
أَحَدُها: أَنَّ "يَدْعُو" بِمَعْنَى يَقُوْلُ، وَاللَّامُ لِلابْتِدَاءِ، وَ "مَنْ" مَوْصُولَةٌ فِي مَحَلِّ رَفْعٍ بِالِابْتِدَاءِ. وَ "ضَرُّه" مُبْتَدَأٌ ثَانٍ، وَ "أَقْرَبُ" خَبَرُهُ. وَهَذِهِ الجُمْلَةُ صِلَةٌ لِلْمَوْصُولِ، وَخَبَرُ الْمَوْصُولِ مَحْذوفٌ تَقْديرُهُ: يَقُولُ لَلَّذي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِلَهٌ، أَوْ إِلَهِي، أَوْ نَحْوُ ذَلِكَ. وَالْجُمْلَةُ كُلُّهَا فِي مَحَلٍّ نَصْبٍ بِـ "يَدْعُو" لِأَنَّهُ بِمَعْنَى "يَقُولُ"، فَهِيَ مَحْكِيَّةٌ بِهِ. وَهَذَا قَوْلُ أَبِي الحَسَنِ. وَعَلَى هَذَا فَيَكُونُ قَوْلُهُ: "لَبِئْسَ المَوْلَى" مُسْتَأْنَفًا لَيْسَ دَاخِلًا فِي المَحْكيِّ قَبْلَهَ؛ لِأَنَّ الكُفَّارَ لَا يَقُولُونَ فِي أَصْنَامِهِمْ ذَلِكَ. وَقَدْ رَدَّ بَعْضُهُمْ هَذَا القَوْلَ بِأَنَّهُ فَاسِدُ المَعْنَى، وَالكافِرُ لَا يَعْتَقِدُ فِي الأَصْنَامِ أَنَّ ضَرَّهَا أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهَا البَتَّةَ.
الثاني: أَنَّ "يَدْعُو" مُشَبَّهٌ بِأَفْعَالِ القُلوبِ؛ لِأَنَّ الدُّعَاءَ لَا يَصْدُرُ إِلَّا عَنِ اعْتِقَادٍ، وَأَفْعَالُ القُلُوبِ تُعَلَّقُ، فَـ "يَدْعُو" مُعَلَّقٌ أَيْضًا بِاللَّامِ. وَ "مَنْ" مُبْتَدَأٌ مَوْصُولٌ. وَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ صِلَةٌ، وَخَبَرُهُ مَحْذوفٌ عَلَى مَا مَرَّ فِي الوَجْهِ قَبْلَهُ. وَالْجُمْلَةُ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ، كَمَا تَكُونُ كَذَلِكَ بَعْدَ أَفْعَالِ القُلُوبِ.
الثَّالثُ: أَنْ يُضَمَّنَ "يَدْعُو" مَعْنَى "يَزْعُمُ"، فَيُعَلَّقُ كَمَا يُعَلَّقُ، والكَلَامُ فِيهِ كَالْكَلَامِ فِي الوَجْهِ الذي قَبْلَهُ.
الرَّابِعُ: أَنَّ الأَفْعَالَ كُلَّهَا يَجُوزُ أَنْ تُعَلَّقَ، قَلْبِيَّةً كَانَتْ أَوْ غَيْرَهَا، فَاللَّامُ مُعَلِّقَةٌ لِـ "يَدْعوا"، وَهُوَ مَذْهَبُ يُونُسَ بِنِ حَبيبٍ. فَالْجُمْلَةُ بَعْدَهُ الكَلَامُ فِيهَا كَمَا تَقَدَّمَ.
الخامِسُ: أَنَّ "يَدْعُوا" بِمَعْنَى يُسَمِّي، فَتَكونَ اللَّامُ مَزِيدَةً فِي المَفْعُولِ الأَوَّلِ، وَهُوَ المَوْصُولُ وَصِلَتُهُ، وَيَكونُ المَفْعُولُ الثانِي مَحْذوفًا تَقْديرُهُ: يُسَمِّي الذي ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ إِلَهًا وَمَعْبُودًا وَنَحْوَ ذَلِكَ.
السَّادِسُ: أَنَّ اللَّامَ مُزَالَةٌ مِنْ مَوْضِعِهَا. وَالأَصْلُ: يَدْعُو مَنْ لَضَرُّهُ أَقْرَبُ. فقُدِّمَتْ مِنْ تَأْخِيرٍ. وَهَذَا قَوْلُ الفَرَّاءِ. وَقَدْ رَدُّوا هَذَا بِأَنَّ مَا فِي صِلَةِ المَوْصُولِ لَا يَتَقَدَّمُ عَلَى المَوْصُولِ.
السَّابِعُ: أَنَّ اللَّامَ زَائِدَةٌ فِي المَفْعُولِ بِهِ، وَهُوَ "مَنْ". وَالتَّقْديرُ: يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ. فَـ "مَنْ" مَوْصُولٌ، وَالجُمْلَةُ بَعْدَهَا صِلَتُهَا، وَالمَوْصُولُ هُوَ المَفْعُولُ بِـ "يَدْعُو" زِيْدتْ فيهِ اللَّامُ كَزِيَادَتِهَا فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى، مِنْ سُورةِ النَّمْل: {رَدِفَ لَكُم} الآيةَ: 72، فِي أَحَدِ القَوْلَيْنِ. وَقَدْ رُدَّ هَذَا بِأَنَّ زِيَادَةَ اللَّامِ إِنَّمَا تَكونُ إِذَا كانَ العامِلُ فَرْعًا، أَوْ بِتَقْديمِ المَعْمُولِ. وَقَرَأَ عَبْدُ اللهِ "يَدْعُو مَنْ ضَرُّهُ" بِغَيْرِ لَامِ ابْتِدَاءٍ، وَهِيَ مُؤَيِّدَةٌ لِهَذَا الوَجْهِ.
وإِنْ لَّمْ تَجْعَلْهُ مُتَسَلِّطًا عَلى الجُمْلَةِ بَعْدَهُ كَانَ فِيهِ ثَلَاثةُ أَوْجُهٍ،
أَظْهَرُهَا:
أَنَّ "يَدْعُو" الثَّاني تَوْكِيدٌ لـ "يَدْعو" الأَوَّلِ فَلَا مَعْمُولَ لَهُ، كَأَنَّهُ قِيلَ: يَدْعُو يَدْعُو مِنْ دُونِ اللهِ الَّذي لَا يَضُرُّهُ وَلَا يَنْفَعُهُ.
وَعَلَى هَذَا فَتَكونُ الجُمْلَةُ مِنْ قَوْلِهِ {ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ} مُعْتَرِضَةً بَيْنَ المُؤَكَّدِ وَالتَّوْكيدِ؛ لِأَنَّ فِيهَا تَسْديدًا وَتَأْكيدًا لِلْكَلَامِ، وَيَكونُ قَوْلُهُ "لَمَنْ ضَرُّهُ" كَلَامًا مُسْتَأْنَفًا. فَتَكونُ اللَّامُ لِلِابْتِداءِ، وَ "مَنْ" مَوْصُولَةٌ، وَ "ضَرُّه" مُبْتَدَأٌ، وَ "أَقْرَبُ" خَبَرُهُ. وَالجُمْلَةُ صِلَةٌ، وَ "لَبِئْسَ" جَوَابُ قَسَمٍ مُقَدَّرٍ. وَهَذَا القَسَمُ المُقَدَّرُ وَجَوَابُهُ خَبَرُ الْمُبْتَدَأِ الَّذي هُوَ المَوْصُولُ.
الثاني: أَنْ يُجْعَلَ "ذَلِكَ" مَوْصُولًا بِمَعْنَى "الذي". وَ "هُوَ" مَبْتَدَأً، وَ "الضَّلالُ" خَبَرَهُ، وَالجُمْلَةُ صِلَةٌ. وَهَذَا المَوْصُولُ مَعَ صِلَتِهِ فِي مَحَلِّ نَصْبٍ مَفْعُولًا بـ "يَدْعو" أَيْ: يَدْعُو الَّذي هُوَ الضَّلَالُ. وَهَذَا مَنْقُولٌ عَنْ أَبي عَلِي الفَارِسِيِّ، وَلَيْسَ هَذَا بِمَاشٍ عَلَى رَأْيِ البَصْرِيِّينَ؛ إِذْ لَا يَكونُ عِنْدَهُمْ مِنْ أَسْمَاءِ الإِشارَةِ مَوْصُولٌ إِلَّا "ذا" بِشُروطٍ ذَكَرْتُها فيما تَقَدَّمَ.
وأَمَّا الكُوفِيَّونَ فَيُجيزونَ في أَسْمَاءِ الإِشارَةِ مُطْلَقًا أَنْ تَكونَ مَوْصُولَةً، وَعَلى هَذَا فَيَكونُ "لَمَنْ ضَرُّه أَقْرَبُ" مُسْتَأْنَفًا، عَلَى مَا تَقَدَّمَ تَقْريرُهُ قبلُ.
والثالثُ: أَنْ يُجْعَلَ "ذَلِكَ" مُبْتَدَأً. وَ "هو" جَوَّزُوا فِيهِ أَنْ يَكونَ بَدَلًا أَوْ فَصْلًا أَوْ مُبْتَدَأً، وَ "الضَّلالُ" خَبَرُ "ذلك" أَوْ خَبَرُ "هُوَ" عَلَى حَسَبِ الخِلافِ فِي "هُوَ" وَ "يَدْعُو" حالٌ، والعائدُ مِنْهُ مَحْذُوفٌ تَقْديرُهُ: يَدْعُوهُ، وَقَدَّرُوا هَذَا الفِعْلَ الواقِعَ مَوْقِعَ الحَالِ بـ "مَدْعُوًّا"، قَالَ أَبُو البَقَاءِ: وَهُوَ ضَعِيفٌ. وَلَمْ يُبَيِّنْ وَجْهَ ضَعْفِهِ. وَكَأَنَّ وَجْهَهُ أَنَّ "يَدْعُو" مَبْنِيٌّ للفاعِلِ فَلَا يُنَاسِبُ أَنْ تُقَدَّرَ الحالُ الواقعَةُ مَوْقِعَهُ اسْمَ مَفْعُولٍ، بَلِ المُنَاسِبُ أَنْ تُقَدَّرَ اسْمَ فَاعِلٍ، فَكَانَ يَنْبَغي أَنْ يُقَدِّروهُ: دَاعِيًا، وَلَوْ كانَ التَّرْكِيبُ "يُدْعَى" مَبْنِيًّا للْمَفْعُولِ لَحَسُنَ تَقْديرُهم مَدْعُوًّا. أَلَا تَرَى أَنَّكَ إِذَا قُلْتَ: جَاءَ زَيْدٌ يَضْرِبُ. كَيْفَ تُقَدِّرُهُ بـ "ضَارِبٌ" لَا بـ مَضْروب.
قوْلُهُ: {لَبِئْسَ الْمَوْلَى} لَبِئْسَ: اللَّامُ: مُوَطِّئَةٌ لِلْقَسَمِ. و "بِئْسَ" فِعْلٌ مَاضٍ لإِنْشَاءِ الذَّمِّ مبنيٌّ على الفتْحِ. و "الْمَوْلَى" فَاعِلُهُ مرفوعٌ بهِ، وعلامةُ رفعِهِ ضَمَّةٌ مُقدَّرةٌ على آخِرِهِ لتَعَذُّرِ ظهورِها على الألِفِ، وَالمَخْصُوصُ بالذَّمِّ مَحْذُوفٌ، وَتَقْديرُهُ: لَبِئْسَ المَوْلَى ذَلِكَ المَدْعُوُّ، وَهُوَ مَرْفوعٌ بالابْتِدَاءِ، وَخَبَرُهُ جُمْلَةُ "بِئْسَ"، أَوْ خَبَرٌ لِمَحْذوفٍ، وَالْمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ ضميرٌ مُسْتتِرٌ فيهِ جوازًا تَقديرُهُ "هُوَ"، وَجُمْلَةُ "بِئْسَ" جَوَابُ القَسَمِ لا محلَّ لها مِنَ الإِعرابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ مَعَ جَوَابِهِ فِي مَحَلِّ الرَّفْعِ خَبَرٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ؛ أَيْ: يَقُولُ ذَلِكَ العَابِدُ: لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ، لَأُقْسِمُ فيهِ، بِقَوْلِي: بِئْسَ المَوْلَى هُوَ.
قولُهُ: {وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. وَاللَّامُ، مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ. و "بِئْسَ" فِعْلٌ مَاضٍ جَامِدٌ، لِإِنْشَاءِ الذَّمِّ، مبنيٌّ على الفتْحِ. و "الْعَشِيرُ" فَاعِلُهُ مَرْفوعٌ بِهِ، وَالمَخْصُوصُ بِالذَّمِّ مَحْذوفٌ، تَقْديرُهُ "هُوَ" يعودُ على مَعْبُودِهِم، وهو الصَّنَمُ، وَجُمْلَةُ هَذَا القَسَمِ، مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ القَسَمِ في قَوْلِهِ: "لَبِئْسَ الْمَوْلَى".