وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ
( قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللهِ} النَّاسُ: ـ هُنَا، هُمُ المُشْرِكونَ، وَالْمُرَادُ بِـ "مِنَ النَّاسِ": فَرِيقٌ مِنْهُمْ، وَهُمُ الْمُعَانِدونَ الْمُكَابِرونَ الَّذِينَ ما فَتِئُوا يُجَادِلُونَ فِي اللهِ وَصِفاتِهِ، بَعْدَ أَنْ بَلَغَهُمُ الْإِنْذَارُ بالزَلْزَلَةِ وَالسَّاعَةِ، وغيرِ ذلكَ ممَّا تَوَعَّدَهُمُ اللهُ بِهِ مِنْ أَلْوَانِ التَّخْويفِ بالعَذابِ، وَمعَ ذَلِكَ فَهُمْ ما زَالُوا يُجَادِلُونَ فِي اللهِ ومقدِرتِهِ عَلى إِحْيَاءِ المَوْتَى بَعْدَ أَنْ وُضِّحَتْ لَهُمُ الْأَدِلَّةُ عَلَى الْبَعْثِ بَعْدَ المَوْتِ.
والمُجَادَلةُ: مَنَ الجَدْلِ وَهُوَ شِدَّةُ الفَتْلِ وإِحْكَامُهُ، وَالجَدْلاَءُ هي المَجْدُولةُ مِنَ الدُّرُوعِ أَيْ المَنْسُوجةُ بإحكامٍ. قَالَ الحُطَيْئَةُ:
فيهِ الرِّمَاحُ وَفِيهِ كُلُّ سَابِغَةٍ .............. جَدْلَاءَ مُحْكَمَةٍ مِنْ نَسْجِ سَلَّامِ
أَرَادَ أَنْ يقولَ: وَفِيهِ كُلُّ سَابِغَةٍ جَدْلَاءَ مُحْكَمَةٍ مِنْ نَسْجِ أَبي سُلَيْمَانَ دَاوُدَ ـ عَلَيْهِمَا السَّلامُ، فَلَمْ يَسْتَقِمْ لَهُ الشِّعرُ.
وَجُدِلَتْ الدُّروعً: أَيْ أُحْكِمَ نَسْجُهَا، وَ الْـ "جَدْلاءُ" صِفَتُهَا، وَالجَمْعُ "جُدْلٌ".
وَقَدْ سُمِّيَتِ الدُّرُوعُ "جَدْلاَءَ" وَ "مَجْدُولَةً" لِإِحْكَامِ حَلَقِهَا، كَمَا يُقَالُ: حَبْلٌ مَجْدُولٌ: إِذَا فُتِلَ بِقُوَّةٍ، وَجُدِلَ جَدْلًا، أَيْ: أُحْكِمَ إِحْكَامًا.
وَ "الجَدِلُ" وَ "المِجْدَالُ" مِنَ الناسِ: هُوَ شَدِيدُ الْخِصَام، وَجادَلَ جِدالًا، ومُجَادَلَةً: خَاصَمَ بشِدَّةٍ.
والجَدَالَةُ: اسْمٌ مِنْ أَسْماءِ الْأَرْضِ. وَالجُدُولُ: هي الْأَعْضَاءُ، وَاحِدُهَا: جَدْلٌ.
وَالجَدْلُ ـ أَيْضًا: القَتْلُ وَالصَّرْعُ، يُقَال: جَدَلْتُهُ فَانْجَدَلَ صَرِيعًا، وَهُوَ مَجْدُولٌ، أَيْ مَصْرُوعٌ، وَأَكْثَرُ مَا يُأْتي مُشَدَّدًا، فَتَقُولُ: جَدَّلْتُهُ تَجْدِيلًا فهوَ مُجَدَّلٌ: إِذَا صَرَعْتَهُ صَرْعًا، ذَلِكَ لِأَنَّهُ إنَّما يُصْرَعُ بالجَدَالَةِ، يُقَالُ: طعَنَهُ فجَدَّلَهُ (بِالتَّشْدِيدِ). كمَا قَالَ العَجَّاجُ الرَّاجِزُ:
قَدْ أَرْكَبُ الْآلَةَ بَعْدَ الآلَهْ ...................... وَأَتْرُكُ العاجِزَ بالجَدَالَهْ
مُنْعَفِرًا لَيْسَتْ لَهُ مَحَالَهْ
قوْلُ الشَّاعِرِ: "الآلَةُ: يعني بِهِ الحَالَةُ وَالشِّدَّةُ، وقولُهُ الجَدَالَةُ: المرادُ
بِهِ الأَرْضُ.
وَجُدُولُ الْإِنْسَانِ: قَصَبُ الْيَدَيْنِ وَالرِّجْلَيْنِ، يقولونَ: رَجُلٌ مَجْدُولُ الْخَلْقِ: أَيْ لَطِيفُ الْقَصَبِ، واللهُ أَعْلَمُ.
قولُهُ: {بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} إِذًا هُمْ يجادلونَ في رَبِّهم العظيمِ وصفاتِهِ المُقدَّساتِ، ما يَسْتطيعُ فعلُهُ وما لا يستطيعُ، وما يقْدِرُ عَلَيْهِ وما لا يَقْدِرُ، دونَ إثارةٍ مِنْ عِلْمٍ نَقْليٍّ وَصَلَتْهُمْ عَنْهُ ـ سُبْحانَهَ، بوِساطَةِ أَنْبِيائِهِ المُرْسَلِينَ، ولا هُدًى مِنْ رِبِّ العالمينَ لأَنَّ هذا العلمَ إِنَّما يُعْطيهِ لِعَبَادِهِ المُتَّقينَ، كَمَا قالَ في الآيةِ: 282، مِنْ سُورةِ البقرة: {وَاتَّقُوا اللهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللهُ وَاللهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}، كالْعِلْمِ الذي أُوتِيهِ الخَضِرُ عليْهِ السَّلامُ، الذي قالَ ربُّهُ فِيهِ: {آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا} الآيةَ: 65، مِنْ سُورةِ الكَهْفِ، ولَمْ يَسْبقْ أَنْ اطَّلعوا عليهِ في تابٍ سماويٍّ ينيرُ لهُمْ الأمورَ ويشْرحُ لهُمُ الصدورَ، وَدَافِعُهُمْ إِلَى الْجِدَالِ فِي اللهِ عِنْدَ سَمَاعِ الْإِنْذَارِ بِالسَّاعَةِ، عَدَمُ إيمانِهِمْ بِربِّهم، وَاتِّبَاعُهُمْ وَسْوَاسَ شَيَاطِينِهم، وخوفُ عاقبةِ الحِسابِ، وعقابَ ربِّ الأَربابُ، فهم النَّعامةِ التي تَدفُنُ رأْسَها في الرَّمْلِ والترابِ، كي لا تَرَى الخَطَرَ المُحْدِقَ بِهَا، سارِحَةً مَعَ أَوْهَامِها والأَحْلام، أَنَّها بِعَافِيَةِ وأَمْنٍ وأَمانٍ، وَسَلَامَةٍ وَسَلَامٍ. بالرَّغمِ مِنْ وُضُوحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى الْبَعْثِ يومَ القيامةِ، التي ساقها اللهُ ـ تَعَالى، في هَذِ الّسُّورَةِ وغَيْرِها مِنْ آياتٍ باهراتٍ وِحُجَجٍ واضحاتٍ.
قولُهُ تَعَالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ} الوَاوُ: للاسْتِئْنافِ، وَجَعَلَ ابْنُ عَطِيَّةَ هَذِهِ الوَاوَ واوَ الْحَالِ، قَالَ: وَكَأَنَّهُ يَقُولُ: هَذِهِ الأَمْثَالُ فِي غَايَةِ الوُضُوحِ، وَمِنَ النَّاسِ مَعَ ذَلِكَ مِنْ يُجادِلُ في اللهِ بغيرِ عِلْمٍ .. . وَ "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلّقٌ بِخَبَرٍ مُقَدَّمٍ. و "النَّاسِ" مَجْرُورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "مَنْ" اسْمٌ مَوْصُولٌ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالابْتِدَاءِ مُؤَخَّرٌ، وَالجُمْلَةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قولُهُ: {يُجَادِلُ فِي اللهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ} يُجَادِلُ: فِعْلٌ مُضارعٌ مَرْفُوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ الناصِبِ والجازِمِ، وَفَاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتَتِرٌ فيهِ جوازًا تَقْديرُهُ (هوَ) يَعُودُ عَلَى "مَنْ" المَوْصولةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يُجَادِلُ" ولَفْظُ الجَلَالَةِ "اللهِ" في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ. و "بِغَيْرِ" الباءُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "يُجادِلُ" أَوْ بِحالٍ مِنْ فَاعِلِهِ، و "غَيْرِ" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ، وهُوَ مُضافٌ، وَ "عِلْمٍ" مَجْرُورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ. و "وَلَا" الواوُ: للعَطْفِ، و "لا" لتأكيدِ النَّفيِ، و "هُدًى" مَعْطُوفٌ عَلَى "عِلْمٍ" مجرورٌ مِثْلُهُ، وعلامةُ جَرِّهِ كَسْرَةٌ مُقَدَّرةٌ عَلَى آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظُهُورِهَا عَلَى الأَلِفِ. و "وَلَا" الواوُ للعَطْفِ، وَ "لَا" لِتَأْكِيدِ النَّفْيِ أَيْضًا، وَ "كِتَابٍ" مَعْطُوفٌ عَلَى "عِلْمٍ" مَجْرُورٌ مِثْلُهُ. وَ "مُنِيرٍ" صِفَةٌ لِـ "كِتَابٍ" مَجْرُورَةٌ مِثْلُهُ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ صِلَةٌ لِـ "مَنْ" المَوْصُولَةِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابَ.