المَوْسُوعَةُ القُرْآنِيَّةُ
فَيْضُ العَليمِ مِنْ مَعاني الذِّكْرِ الحَكيمِ
تفسير ـ أسباب نزول ـ أحكام ـ إعراب ـ تحليل لغة ـ قراءات
اختيار وتأليف:
عبد القادر الأسود
الجزءُ السابع عَشَرَ ـ المُجَلَّدُ الرابع والثلاثون
سُورَةُ الحَجِّ
(22)
سُورَة الْحَجِّ
عَدَدُ آياتِها ثَمَانٌ وَسَبْعُونَ آيَةً في عَدِّ الكُوفِيِّينَ، وَعِنْدَ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَكَّةَ: سَبْعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الشَّامِ: أَرْبَعًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَّهَا أَهْلُ الْبَصْرَةِ: خَمْسًا وَسَبْعِينَ. وَعَدَدُ كَلِمَاتِها: أَلْفَانِ وَمِئَتَانِ، وإَحِدَى وَتِسْعُونَ كَلِمَةً. أَمَّا عَدَدُ حُرُوفِها: فَخَمْسَةُ آلَافٍ وَخَمْسَةٌ وَسَبْعُونَ حَرْفًا.
وَهَيَ مَكِّيَّةٌ إِلَّا آياتٍ اخْتَلَفَ العُلماءُ في عَدَدِهَا، فَقَالَ عَطَاءُ بْنُ يَسَارٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ: نَزَلَتْ بِمَكَّةَ إِلَّا ثَلاثَ آيَاتٍ مِنْهَا وَهِيَ: {هَذَانِ خَصْمَانِ ..} الآيةَ: 20، واللَّتَانِ بَعْدَهَا حَتَّى نِهايةِ الآيةِ: 22.
وقال أَبُو سُلَيْمَانَ الدِّمَشْقِيِّ: أَوَّلُهَا مَدَنِيٌّ إِلى قَوْلِهِ: {وَبَشِّرِ المُحْسِنِينَ} الآيةَ: 38، وسائرُهَا مَكِيٌّ.
وَقَالَ الإِمَامُ الثَّعْلَبِيُّ، وهو أَحْمَدُ بْنُ مُحَمَّدِ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، أَبُو إِسْحَاقَ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالى: هِيَ مَكِيَّةٌ غَيْرَ سِتِّ آياتٍ منها فإِنَّها نَزَلَتْ بِالْمَدينَةِ، وَهِي قَوْلُهُ ـ تَعَالى: {هَذَانِ خَصْمَانِ ..} الآيَةَ: 20، إِلى قَوْلِهِ في الآيَةَ: 25: {الحَمِيدِ}.
وَقَالَ المُفسِّرُ هِبَةُ اللهِ بْنُ سَلَامَةَ اللَّخْمِيُّ ـ رَحِمَهُ اللهُ ـ تَعَالَى: هِيَ مِنْ أَعَاجِيبِ سُورِ القُرْآنِ، لِأَنَّ فِيهَا مَكِيًّا، وَمَدَنِيًّا، وَحَضَرِيًّا، وَسَفَرِيًّا، وَحَرْبِيًّا، وَسلْمِيًّا، وَلَيْلِيًّا، وَنَهَارِيًّا، وَنَاسِخًا، وَمَنْسُوخًا.
فأَمَّا المَكِيُّ، فَمِنْ رَأْسِ الثَّلاثينَ مِنْها إِلَى آخِرِهَا.
وأَمَّا المَدَنِيُّ، فَمِنْ رَأْسِ خَمْسٍ وَعِشْرينَ إِلَى رَأْسِ ثَلاثِينَ.
وأَمَّا اللَّيْلِيُّ، فَمِنْ أَوَّلِهَا إِلَى آخِرِ خَمْسِ آياتٍ.
وأَمَّا النَّهَارِيُّ، فَمِنْ رَأْسِ خَمْسِ آياتٍ إِلَى رَأْسِ تِسْعٍ.
وَأَمَّا السَّفَرِيُّ، فَمِنْ رَأْسِ تِسْعٍ إِلَى اثْنَتَيْ عَشْرَةَ.
وَأَمَّا الحَضَرِيُّ، فَإِلَى رَأْسِ العَشْرينَ مِنْهَا، وقَدْ نُسِبَ إِلَى الْمَدينَةِ، لِقُرْبِ مُدَّتِهِ.
ورَوَىَ أَبُو صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُما، أَنَّهَا مَكِيَّةٌ كُلُّهَا، غَيْرَ آيَتَيْنِ نَزَلَتَا بِالْمَدينَةِ، هُمَا: قوْلُهُ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللهَ عَلَى حَرْفٍ .. }. وَالَّتي تَلِيهَا.
وَرويَ عَنْ مُجَاهِدٍ وَعَطَاءٍ أَنَّهُنُّ ثلاثُ آياتٍ. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَعَدَّ النَّقَّاشُ مَا نَزَلَ مِنْهَا بِالْمَدِينَةِ عَشْرَ آيَاتٍ.
وَفِي رِوَايَةٍ أُخْرَى ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عنْهُما، أَنَّهُ قَالَ: هِيَ مَدَنِيَّةٌ إِلَّا أَرْبَعُ آيَاتٍ نَزَلَتْ بِمَكَّةَ، وهِيَ ابْتِدَاءً مِنْ قَوْلِهِ: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ ..} الآيةَ: 53، إِلى آخِرِ الآيَةِ: 57. ورُوِيَ مِثْلُهُ عَنِ الضَّحَّاكِ، وَقَتَادَةَ، وَالْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رضِيَ اللهُ عَنْهُمْ. وَرُوِيَ عَنْ مُجَاهِدٍ، عَنِ ابْنِ الزُّبَيْرِ: أَنَّهَا مَدَنِيَّةٌ. وَكذَا رَوَى الْعَوْفِيُّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ ـ تَعَالى عَنْهُمْ أَجْمَعِينَ. وَهُوَ مَا غَلَّبَهُ بَعْضُهُمْ قَالَ لأَنَّ اسْمَها هوَ سُورَةُ الحَجِّ بِسَبَبِ وُرُودِ آياتِ الحَجِّ فِيها، وَالحَجُّ إِنَّمَا فُرِضَ بَعْدَ الهِجْرَةِ إلى المَدينَةِ المُنوَّرةِ.
قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: رُوِيَ عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: (نَزَلَ أَوَّلُ السُّورَةِ فِي السَّفَرِ فَنَادَى رَسُولُ اللهِ بِهَا فَاجْتَمَعَ إِلَيْهِ النَّاسُ). وَسَاقَ الْحَدِيثَ. يُرِيدُ ابْنُ عَطِيَّةَ أَنَّ نُزُولَهَا فِي السَّفَرِ يَقْتَضِي أَنَّهَا نَزَلَتْ بَعْدَ الْهِجْرَةِ. فَقدْ أَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِم، وَابْنُ حِبَّانَ، وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، عَنْ أَنَسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: نَزَلَتْ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَرَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ حَتَّى ثَابَ إِلَيْهِ أَصْحَابُهُ، فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ هَذَا؟. هَذَا يَوْمٌ يَقُولُ اللهُ لِآدَمَ: يَا آدَمُ قُمْ، فَابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِئَة وَتِسْعَةً وَتِسْعينَ)). فَكَبُرَ ذَلِكَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالَ النَّبِيُّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((سَدِّدُوا، وَقَارِبُوا، وابْشِرُوا، فَوَالَّذي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ مَا أَنْتُمْ فِي النَّارِ إِلَّا كَالشَّامَةِ فِي جَنَبِ الْبَعِيرِ، أَوْ كَالرَّقْمَةِ فِي ذِرَاعِ الدَّابَّةِ، وَإِنَّ مَعكُمْ لَخَلِيقَتَيْنِ مَا كَانَتَا فِي شَيْءٍ قَطُّ إِلَّا أَكْثَرَتَاهُ: يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَمَنْ هَلَكَ مِنْ كَفَرَةِ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ)). وَأَخْرَجَ سَعِيدُ بْنُ مَنْصُورٍ، وَأَحْمَدُ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَالتِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَالنَّسَائِيُّ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَالْحَاكِمُ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، مِنْ طُرُقٍ، عَنِ الْحَسَنِ وَغَيْرِهِ عَنْ عُمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ، نحوًا منْهُ.
وَأَخْرَجَ التِّرْمِذِيُّ، وَصَحَّحَهُ، وَابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ عُمْرَانَ ابْنِ حُصَيْنٍ نحوَهُ أَيضًا. وفي روايةٍ أَخْرَجَها ابْنُ جَريرٍ عَنِ الْحَسَنِ البَصْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، حَدَّدَ الحَسَنُ أَيَّ سفَرٍ هو الذي نَزَلَتْ فيهِ هَذِهِ الآياتُ، فَقَالَ: بَلَغَنِي أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لَمَّا قَفَلَ عَنْ غَزْوَةِ الْعُسْرَةِ، وَمَعَهُ أَصْحَابُهُ، بَعْدَ مَا شَارَفَ الْمَدِينَةَ قَرَأَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} فَذَكَرَ نَحْوَهُ إِلَّا أَنَّهُ زَادَ فِيهِ: لَمْ يَكُنْ رَسُولَانِ إِلَّا أَنْ كَانَ بَيْنَهُمَا فَتْرَةٌ مِنَ الْجَاهِلِيَّةِ، فَهُمْ أَهْلُ النَّارِ، وَإِنَّكُمْ بَيْنَ ظَهْرَاني خَلِيقَتَيْنِ لَا يُعَادِهمَا أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الأَرْضِ، إِلَّا كَثَرَتَاهُ، وَهُمْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ، وَهُمْ أَهْلُ النَّارِ، وَتَكْمُلُ الْعِدَّةُ مِنَ الْمُنَافِقينَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الْكَلْبِيِّ عَنْ أَبي صَالِحٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُما، قَالَ: بَيْنَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فِي مَسيرِهِ فِي غَزْوَةِ بَنِي المُصْطَلِقِ، إِذْ أَنْزَلَ اللهُ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُم} إِلَى قَوْلِهِ {وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ} فَلَمَّا أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ، وَقَفَ عَلَى نَاقَتِهِ، ثُمَّ رَفَعَ بِهَا صَوْتَهُ، فَتَلَاهَا عَلَى أَصْحَابِهِ ثُمَّ قَالَ لَهُم: ((أَتَدْرُونَ أَيَّ يَوْمٍ ذَاكَ؟)) قَالُوا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ذَاك يَوْمَ يَقُولُ اللهُ لآدَمَ: يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ مِنْ وَلَدِكَ. فَيَقُولُ: يَا رَبُّ مِنْ كُلِّ كَمْ؟ فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعَمِئَةٍ وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ إِلَى النَّارِ وواحدًا إِلَى الْجَنَّةِ)). فَبَكَى الْمُسلمُونَ بُكاءً شَدِيدًا، وَدَخَلَ عَلَيْهِمْ أَمْرٌ شَدِيدٌ. فَقَالَ ـ صلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((وَالَّذِي نَفُسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ، مَا أَنْتُم فِي الْأُمَمِ إِلَّا كَالشَّعْرَةِ الْبَيْضَاءِ فِي الشَّاةِ السَّوْدَاءِ، وإنِّي لَأَرْجُوا أَنْ تَكُونُوا نَصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، بَلْ أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَيْ أَهْلِ الْجنَّةِ)). وَأَخْرَجَ ابْنُ مِرْدُوَيْهِ عَنْ أَبي مُوسَى الأَشعريِّ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: بَيْنَمَا رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي مَسِيرٍ لَهُ، فَذَكَرَ نَحْوَهُ.
وافْتِتَاحُ هَذهِ السُّورَةِ بِـ {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} جَارٍ عَلَى سَنَنِ فَوَاتِحِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ. فَيُشْبِهُ أَنْ يَكُونَ أَوَّلُهَا قَدْ نَزَلَ بِمَكَّةَ كَمَا أَنَّ أَسَالِيبَ نَظْمِ كَثِيرٍ مِنْ آيَاتِهَا مِمَّا يُلَائِمُ أُسْلُوبَ الْقُرْآنِ الكَريمِ النَّازِلِ بِمَكَّةَ. لكِنَّ هَذَا لَا يَكْفي وَحْدَهُ لِيُحدِّدَ مَكِّيَّتَهَا، خاصَّةً وَأَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، قال: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ} يُرَادُ بِهِ الْمُشْرِكُونَ.
وَلِذَلكَ فَإنَّهُ مِنَ الجائزِ أَنْ يُكونَ هَذَا الْخِطَابُ قدْ تُوُجِّهَ بِهِ إِلَى الْمُشْرِكِينَ فِي الْمَدِينَةِ أَوَّلَ حُلُولِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِهَا، فَإِنَّ قَوْلَهُ ـ تعالى، في الآيةِ: 25، مِنْهَا: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرامِ} يُنَاسِبُ أَنْ يكونَ قد نَزَلَ بِالْمَدِينَةِ حَيْثُ صَدَّ الْمُشْرِكُونَ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْبَقَاءِ مَعَهُمْ بِمَكَّةَ، واضْطَرُّوهمْ إلى الهِجْرَةِ منها. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ بعدَها في الآيَتَيْنِ: (39 ـ 40): {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ}. فَإِنَّهُ صَرِيحٌ فِي أَنَّهُ نَزَلَ فِي شَأْنِ الْهِجْرَةِ مِنْ مَكَّةَ إلى المدينَةِ. رَوَى التِّرْمِذِيُّ بِسَنَدِهِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما، قَالَ: لَمَّا أُخْرِجَ النَّبِيُّ مِنْ مَكَّةَ قَالَ أَبُو بَكْرٍ: "أَخْرَجُوا نَبِيَّهُمْ لِيَهْلِكُنَّ". فَأَنْزَلَ اللهُ: {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللهُ} الْحَج: (39 ـ 40)، وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَالَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللهُ رِزْقًا حَسَنًا} الآيةَ: 58، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، فَفِيهِ ذِكْرُ الْهِجْرَةِ، وَذِكْرُ مَنْ يُقْتَلُ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ، وَذَلِكَ مُؤْذِنٌ بِجِهَادٍ مُتَوَقَّعٍ كَمَا سَيَأْتي في مكانِهِ هناكَ.
وَأَحْسَبُ أَنَّهُ لَمْ تَتَعَيَّنْ طَائِفَةٌ مِنْهَا مُتَوَالِيَةً نَزَلَتْ بِمَكَّةَ وَنَزَلَ مَا بَعْدَهَا بِالْمَدِينَةِ بَلْ نَزَلَتْ آيَاتُهَا مُتَفَرِّقَةً. وَلَعَلَّ تَرْتِيبَهَا كَانَ بِتَوْقِيفٍ مِنَ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمِثْلُ ذَلِكَ كَثِيرٌ في الكتابِ العزيزِ.
وَقَدْ قِيلَ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ} الْآيةَ: 19، أَنَّهُ نَزَلَ فِي مَوْقعَةِ بَدْرٍ، لِمَا جاءَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ عَلِيٍّ وَأَبِي ذَرٍّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهم: أَنَّهَا نَزَلَتْ فِي مُبَارَزَةِ حَمْزَةَ وَعَلِيٍّ وَعُبَيْدَةَ بْنِ الْحَارِثِ مَعَ شَيْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَعُتْبَةَ بْنِ رَبِيعَةَ وَالْوَلِيدِ بْنِ عُتْبَةَ يَوْمَ بَدْرٍ وَكَانَ أَبُو ذَرٍّ يُقْسِمُ عَلَى ذَلِكَ.
وَلِذَلِكَ فَإِنَّ الأَرْجَحَ أَنْ يكونَ بعضُ آياتِ هَذِهِ السُّورَةَ نَزَلَ آخِرَ مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِمَكَّةَ ـ كَمَا يَقْتَضِيهِ افْتِتَاحُهَا بِـ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ}، فَقَدْ تَقَرَّرَ أَنَّ ذَلِكَ الْغَالِبَ فِي أَسَالِيبِ الْقُرْآنِ الْمَكِّيِّ، وَأَنَّ بَقِيَّتَهَا نَزَلَتْ فِي مُدَّةِ مُقَامِ النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بِالْمَدِينَةِ.
وَرَوَى التِّرْمِذِيُّ وَحَسَّنَهُ وَصَحَّحَهُ عَنِ ابْنِ أَبِي عُمَرَ، عَنْ سُفْيَانَ عَنِ ابْنِ جُدْعَانَ، عَنِ الْحَسَنِ، عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ لَمَّا نَزَلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ} إِلَى قَوْلِهِ: {وَلكِنَّ عَذابَ اللهِ شَدِيدٌ} الْآيَتَانِ: (1 ـ 2)، قَالَ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ هَذِهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ فَقَالَ: ((أَتَدْرُونَ ...)) وَسَاقَ حَدِيثًا طَوِيلًا. فَاقْتَضَى قَوْلُهُ: أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ؟ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ أُنْزِلَتْ عَلَى النَّبِيِّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، بَعْدَ الْهِجْرَةِ فَإِنَّ أَسْفَارَهُ كَانَتْ فِي الْغَزَوَاتِ وَنَحْوِهَا بَعْدَ الْهِجْرَةِ.
وَفِي رِوَايَةٍ عَنْهُ أَنَّ ذَلِكَ السّفر فِي غزْوَةِ بَنِي الْمُصْطَلِقِ مِنْ خُزَاعَةَ ـ كما تقدَّمَ، وَتِلْكَ الْغَزْوَةُ فِي سَنَةِ أَرْبَعٍ أَوْ خَمْسٍ، فَالظَّاهِرُ مِنْ قَوْلِهِ: (أُنْزِلَتْ وَهُوَ فِي سَفَرٍ). أَنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، لَمْ يَسْمَعِ الْآيَةَ إِلَّا يَوْمَئِذٍ فَظَنَّهَا أُنْزِلَتْ يَوْمَئِذٍ فَإِنَّ عِمْرَانَ بْنَ حُصَيْنٍ مَا أَسْلَمَ إِلَّا عَامَ خَيْبَرَ وَهُوَ عَامُ سَبْعَةٍ، أَوْ أَنَّ أَحَدَ رُوَاةِ الْحَدِيثِ أَدْرَجَ كَلِمَةَ "أُنْزِلَتْ عَلَيْهِ وَهُوَ فِي سَفَرٍ" فِي كَلَامِ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ وَلَمْ يَقُلْهُ عِمْرَانُ.
وَقَدْ عُدَّتِ السُّورَةَ الْخَامِسَةَ وَالْمِئَةَ فِي عِدَادِ نُزُولِ سُوَرِ الْقُرْآنِ فِي رِوَايَةِ جَابِرِ بْنِ زَيْدٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: نَزَلَتْ بَعْدَ سُورَةِ النُّورِ وَقَبْلَ سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ. وَهَذَا يَقْتَضِي أَنَّهَا عِنْدَهُ مَدَنِيَّةٌ كُلُّهَا لِأَنَّ سُورَةَ النُّورِ وَسُورَةَ الْمُنَافِقِينَ مَدَنِيَّتَانِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُتَوَقَّفَ فِي اعْتِمَادِ هَذَا فِيهَا.
ولذلكَ قَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: وَالْأَصَحُّ ما قَالَهُ الْجُمْهُورُ مِنْ أَنَّ هَذِهِ السُّورَةَ بَعْضُهَا مَكِّيٌّ وَبَعْضُهَا مَدَّنِيٌّ، وَهِيَ مُخْتَلِطَةٌ، أَيْ: لَا يُعْرَفُ الْمَكِّيُّ مِنْهَا بِعَيْنِهِ، وَالْمَدَنِيُّ بِعَيْنِهِ. واللهُ أَعْلَمُ.
وَقَدْ سُمِّيَتْ سُورَةَ الحَجِّ لِإِعْلَانِ فَريضَةِ الحَجِّ فِيهَا عَلَى النَّاسِ، عَلَى لَسَانِ سَيِّدِنا إِبْرَاهِيمَ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ ـ عَزَّ وَجَلَّ: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ} الآيَةَ: 27، مِنْ هذِهِ السُّورةِ المُباركةِ، وذلكَ بَعْدَ أَنْ بَنَى الكعْبَةَ المُشَرَّفةَ، فَأَذَّنَ ـ علَيْهِ السَّلامُ، فَبَلَغَ صَوْتُهُ جميعَ أَرجاءِ الأَرْضِ، فَأَسْمَعَ النُّطَفَ فِي أَصْلَابِ الرِّجالِ، وَالأَجِنَّةَ فِي أَرْحامِ النِّساءِ إِلَى أَنْ تقومَ السَّاعَةُ، فَأَجَابَ نِدَاءَهُ كُلُّ أَسْمَعَهُ اللهُ هَذا النِّداءَ، وَلَبَّى قائلًا: (لَبَّيْكَ اللَّهُمَّ لَبَّيْكَ).
وَمُنَاسَبَةُ هَذِهِ السُّورةِ المُبارَكَةِ لِمَا قَبْلَهَا: أَنَّ السُّورَةَ الَّتي قَبْلَها وَهِيَ سُورةُ "الأَنْبِيَاءِ" كانتْ حَدِيثًا مُتَّصِلًا عَنِ الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِينَ ـ صَلَوَاتُ ربِّي وسلامُهُ عَلَيْهِمُ أَجْمعينَ، وَمَا ابْتَلاهُمْ بِهِ رَبُّ العالمينَ ـ جَلَّ جلالُهُ العظيمُ، مِنْ سَرَّاءَ وَضَرَّاءَ، ثُمَّ كَانَتِ العافِيَةُ عَاقِبَتَهُمْ فِي الدُّنْيَا، ورِضَا اللهِ ـ تعالى، وَرِضُوَانُهُ عاقبتَهُم فِي الآخِرَةِ، ثُمَّ انتهى الحديثُ إِلَى التَذكيرِ بَيَوْمِ القِيَامَةِ فَقَالَ ـ جَلَّ وعَلَا: {وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِين} الآيةَ: 97، ثُمَّ قالَ ـ سُبْحانَهُ وتَعاَلَى، بعدَ ذلكَ فِي الآيةِ: 109، منها: {وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ}، ثمَّ افْتَتَحَ هَنَا بِقَوْلِهِ: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ}. فجاءَ الحديثُ عَنْ قِيَامِ السَّاعَةِ مُتَّصِلًا في السُّورتَيْنِ، والحمدُ للهِ رَبِّ العالَمينَ.
أَمَّا فضلُ هَذِه السُّورةِ المُباركةِ ومِيزَتُها، فَهِيَ أَنَّها السُّورَةُ الوَحيدَةُ في القرآنِ الكريمِ الَّتي تشتمِلُ عَلَى سَجْدَتَيْنِ. فقد أَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ، وَابْنُ مَاجَهْ عَنْ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أَقْرَأَهُ خَمْسَ عَشْرَةَ سَجْدَةً فِي الْقُرْآنِ، مِنْهَا ثَلَاثٌ فِي الْمُفَصَّلِ، وَفِي سُورَةِ الْحَجِّ سَجْدَتَانِ.
وأَخْرَجَ أَبُو دَاوُدَ ـ أَيضًا، وَالتِّرْمِذِيُّ عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَفُضِّلَتْ سُورَةُ الْحَجِّ عَلَى سَائِرِ الْقُرْآنِ بِسَجْدَتَيْنِ؟. قَالَ: ((نَعَم)).