وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ
(107)
قولُهُ ـ تَعَالى شَأْنُهُ: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} فَأَمَّا المُسْلِمُونَ فَبِكَ يَنْجُونَ مِنْ عَذابِ الدُنْيا والآخِرَةِ، وَبِكَ يهديهِمُ اللهُ إِلى سَواءِ السَّبيلِ. فقدْ أَخْرَجَ أَبُو نُعَيْمٍ فِي "دَلَائِلِ النُّبوَّةِ" لَهُ، عَنْ أَبي أُمَامَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي رَحْمَةً للْعَالَمِينَ وَهُدًى لِلْمُتَّقِينَ)). وَأَخْرَجَ الْبَيْهَقِيُّ فِي "دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ" لهُ، عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ((إِنَّمَا أَنَا رَحْمَةٌ مُهْدَاةٌ)).
وَأَمَّا الكُفَّارُ وَالمُشْرِكونَ فَلَا يُعَذَّبُونَ في الدُّنيا مَا دُمْتَ فِيهِم ـ كما قالَ مِنْ سورةِ الأَنْفَالِ: {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ، وَمَا كَانَ اللهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ} الآية: 33؛ فَأَنْتَ الرَّحْمَةُ المُهْدَاتُ للعَالَمِينَ.
ولِذَلِكَ لَمْ يدْعُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسلَّمَ، عَلَى قومِهِ ـ كما فعلَ بعضُ الأنبياءُ عليْهِمُ السَّلامُ، وتحمَّلَ مِنْهُمُ الكَثِيرَ ـ حَتَّى لمَّا سَلَّطوا عَلَيْهِ سفهاءهُمْ فرمَوْهُ بالحجارةِ حتَّى أَدْمَوْا كَعْبَيْهِ الشَّريفيْنِ، وجاءَهُ جبريلُ ومعهُ مَلَكُ الجِبالِ، وَقالَ: يا رَسولَ اللهِ إِنَّ ربَّكَ يُقرِئُكَ السَّلامُ، وهذا مَلَكُ الجِبالِ، مُرْهُ فَلْيُطْبِقْ عليهِمُ الأَخْشَبَيْنِ. أبى ذلكَ وقالَ: لعلَّ اللهَ يُخْرِجُ مِنْ أَصْلابِهِمْ مَنْ يقولُ: لَا إِلَهَ إلَّا اللهُ. وَأَخْرَجَ مُسْلِمٌ عَنْ أَبي هُرَيْرَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ يَا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ عَلَى الْمُشْركِينَ. قَالَ: ((إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً)).
وَأَخْرَجَ عَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ عَنْ عِكْرِمَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، قَالَ: قِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ أَلَا تَلْعَنُ قُرَيْشًا بِمَا أَتَوا إِلَيْكَ؟ فَقَالَ: لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا إِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً، يَقُولُ اللهُ ـ تَعَالى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ".
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، وَابْنُ مِرْدُوَيْهِ، وَالطَّبَرَانِيُّ، وَالْبَيْهَقِيُّ، فِي "دَلَائِلِ النُّبوَّةِ"، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: "وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً للْعَالَمِينَ" قَالَ: مَنْ آمَنَ تَمَّتْ لَهُ الرَّحْمَةُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، وَمَن لَّمْ يُؤْمِنْ عُوفِيَ مِمَّا كَانَ يُصِيبُ الْأُمَمَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا مِنَ الْعَذَابِ مِنَ المَسْخِ وَالخَسْفِ وَالْقَذْفِ.
وَأَخْرَجَ أَحْمَدُ وَأَبُو دَاوُدَ، وَالطَّبَرَانِيُّ، عَنْ سَلْمَانَ الفارسيِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالى عَنْهُ: أَنَّ رَسُولَ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قالَ: ((أَيّمَا رَجُلٍ مِنْ أُمَّتِي سَبَبَتُهُ سُبَّةً فِي غَضَبي، أَوْ لَعَنْتُهُ لَعْنَةً، فَإِنَّمَا أَنَا رَجُلٌ مِنْ وَلَدِ آدَمَ، أَغْضَبُ كَمَا تَغْضَبُونَ، وَإِنَّمَا بَعَثَنِي رَحْمَةً للْعَالَمِينَ، وَأَجْعَلُهَا عَلَيْهِ صَلَاةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ)).
فَالخِطابُ لسيِّدِنا رَسولِ اللهِ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وآلِهِ وَسَلَّمَ. أَيْ: وَمَا أَرْسَلْنَاكَ يَا مُحَمَّدُ بِهَذَا القُرْآنِ وَالأَحْكَامِ الشَّرْعِيَّةِ إِلَّا لِرَحْمَةِ النَّاسِ جَميعِهِم، وَهِدَايَتِهِمْ إِلى مَا هُوَ الأصْلَحُ لَهُمْ فِي شُؤُونِ دِينِهِمْ وَدُنْيَاهُمْ، فَمَنْ كانَ مُهَيَّئًا للهِدايةِ اهْتَدَى، وَمَنْ لمْ يكنْ مُهَيَّئًا لَهَا، أَعْرَضَ وأَبَى.
قولُهُ تَعَالى: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ} الواوُ: عَاطِفَةٌ. و "مَا" نَافِيَةٌ. و "أَرْسَلْنَاكَ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلَى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعَظِّمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ، و "نَا" التَّعْظِيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونَ في محلِّ الرَّفْعِ بالفاعِلِيَّةِ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ النَّصِبِ على المَفْعُولِيَّةِ. و "إِلَّا" أَدَاةُ اسْتِثْنَاءٍ مُفَرَّغٍ (أَداةُ حَصْرِ). و "رَحْمَةً" منصوبٌ على أَنَّهُ مَفْعُولٌ لِأَجْلِهِ، أَوْ على الحالِ مُبَالَغَةً فِي أَنْ جَعَلَهُ نَفْسَ الرَّحْمَةِ، أَوْ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ؛ أَيْ: ذَا رَحْمَةٍ. و "لِلْعَالَمِينَ" اللامُ: حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "رحمةً" أَوْ بِصِفَةٍ لها، وَيَجُوزُ أَنْ يَتَعَلَّقَ بـ "أَرْسَلْناك" عِنْدَ مَنْ يَرَى تَعَلُّقَ "مَا" بَعْدَ "إلَّا" بِمَا قَبْلَهَا جائزًا، أَوْ بِمَحْذُوفٍ عِنْدَ مَنْ لَا يَرَى ذَلِكَ. قالَ الشَّيخُ أَبو حَيَّانَ الأندَلُسيُّ في "البحر": وهَذَا إِذَا لَمْ يُفَرَّغِ الفِعْلُ لِمَا بَعْدَهَا، أَمَّا إِذَا فُرِّغَ فَيَجُوزُ، نَحْوَ قولِكَ: مَا مَرَرْتُ إِلَّا بِزَيْدٍ. قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ فِي "الدُّرِّ المَصُونِ": وَفِيهِ نَظَرٌ مِنْ حَيْثُ إِنَّ هَذَا أَيْضًا مُفَرَّغٌ؛ لِأَنَّ المُفَرَّغَ عِبَارَةٌ عَمَّا افْتَقَرَ مَا بَعْدُ "إِلَّا" لِمَا قَبْلَهَا عَلَى جِهَةِ المَعْمُولِيَّةِ لَهُ. وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "إِنَّ" مِنَ الآيَةِ الَّتي قَبْلَها عَلَى كَوْنِها جُمْلَةً مُسْتَأْنَفَةً لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.