قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ
(54)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} قالَ: إِبْراهيمُ ـ علَيْهِ السَّلامُ، في الجوابِ عمَّا طَرَحَهُ، وقومُهُ، مِنْ أَنَّ هَذا الذي هُمْ علَيْهِ مِنْ عِبادَةِ الآلِهَةِ الَّتي يُقدِّسونَ، أَنَّ هَذا هوَ دينُ آبائهم وأجدادِهِمْ، وإِنَّما هُمْ بِهِمْ مُقتدونَ، فقالَ لهُمْ لقدْ كنتم في ضلالٍ مُبينٍ أَنتمْ وآباؤكم، همْ لأنَّهم اتخذوا مِنْ صنمٍ لا يَنْفَعُ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّ شريكًا للهِ الخالقِ القادِرِ على كلِّ شيءٍ، فَعَبَدُوا هذا الصَّنَمَ، وتركوا عبادةَ الإلهِ العظيم، وأنتم لأنَّكم اقتديتمْ بهم في ضلالتِهِمْ هذِهِ دونَ تفكُّرٍ ولا تدَبُّرٍ. فقدْ آمنتمْ بِجَمَادٍ مِنْ ذهبٍ أَوْ حجرٍ أَوْ حديدٍ، والإيمانُ لَا يَكونُ بالوِراثةِ والتَّبَعِيَّةِ وَالتَّقْلِيدِ.
وَمِنَ العَجِيبِ أَنْ يُقَلِّدُوهم في هَذِهِ المَسْأَلَةِ دُونَ غَيْرِهَا، لأَنَّ المَعْهُودَ في الجيلِ الجديد أَنْهُ يُحاولُ التمَلُّصِ مِنْ إِرْثِ الأجدادِ لاسيَّما فيما يَخُصُّ العاداتِ والتقاليدَ والمفاهيمَ.
قولُهُ تَعَالَى: {قَالَ} فعلٌ مَاٍض مبنيٌّ على الفَتْحِ، وفاعِلُهُ ضَمِيرٌ مُسْتترٌ فِيهِ جوازًا تقديرُهُ (هوَ) يَعُود عَلَى سيِدِنا إِبْراهِيمَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، والجملةُ مُسْتَأْنَفَةٌ لا محلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قولُهُ: {لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} اللامُ: مُوَطِّئَةٌ للقَسَمِ، و "قَدْ" حَرْفٌ للتَّحْقِيقِ. و "كُنْتُمْ" فِعْلٌ ماضٍ ناقِصٌ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضميرِ رفعٍ مُتَحَرِّكٍ هوَ التاءُ، فلمَّا سَكَنَ آخرُهُ حُذِفَتِ الألِفُ مِنْ وَسَطِهِ لالْتِقاءِ السَّاكنينِ، والتَّاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بهِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمًا لَهُ، والميمُ للجمعِ المُذكَّرِ. و "أَنْتُمْ" ضميرُ فصلٍ لجماعةِ المخاطبينَ مُؤَكِّدٌ لِتَاءِ الخِطابِ.
قالَ الزَّمَخْشَرِيُّ في تفسيرِهِ (الكَشَّاف): وَ "أَنْتُمْ" مِنَ التَّأْكِيدِ الذي لا يَصِحُّ الكَلامُ مَعَ الإِخْلَالِ بِهِ؛ لِأَنَّ العَطْفَ عَلَى ضَمِيرٍ هُوَ فِي حُكْمِ بَعْضِ الفِعْلِ مُمْتَنِعٌ. وَنَحْوُهُ {اسْكُن ْأَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} البَقَرَةَ: 35.
قَالَ الشَّيْخُ أَبو حيَّانَ الأَنْدَلُسِيُّ في تَفْسِيرِهِ (البحرُ المُحيطُ): وَلَيْسَ هَذَا حُكْمًا مُجْمَعًا عَلَيْهِ؛ فَلَا يَصِحُّ الكَلامُ مَعَ الإِخْلالِ بِهِ؛ لِأَنَّ الكُوفِيِّينَ يُجيزُونَ العَطْفَ عَلَى الضَّمِيرِ المُتَّصِلِ المَرْفُوعِ مِنْ غَيْرِ تَأْكِيدٍ بالضَّمِيرِ المُنْفَصِلِ بِلَا فَصْلٍ. وَتَنْظيرُ ذَلِكَ بِـ {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ} مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِهِ فِي {اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ} لِأَنَّ مَذْهَبَهُ يَزْعُمُ أَنَّ "وَزَوْجُكَ" لَيْسَ مَعْطوفًا عَلَى الضَّمِيرِ المُسْتَكِنِّ فِي "اسْكُنْ"، بَلْ مَرْفوعٌ بِفِعْلٍ مُضْمَرٍ، أَيْ: وَلْتَسْكُنْ، فَهُوَ عِنْدَهُ مِنْ قَبيلِ عَطْفِ الجُمَلِ، وَقَوْلُهُ هَذَا مُخَالِفٌ لِمَذْهَبِ سِيبَوَيْهِ.
قالَ السَّمينُ الحَلَبِيُّ في تَفْسيرَهِ (الدُّرُّ المَصونُ في علومِ الكِتابِ المَكْنُون): لَا يَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُ خالَفَ مَذْهَبَهُ، إِذْ يَجُوزُ أَنْ يُنَظَّرُ بِذَلِكَ عِنْد مَنْ يَعْتَقِدُ ذَلِكَ، وَإِن لَّمْ يَعْتَقِدْهُ هُوَ.
و "وَآبَاؤُكُمْ" الواوُ: للعطْفِ، وَ "آبَاءُ" مَعْطُوفٌ عَلَى اسْمِ "كان" الذي هوَ التَّاءِ مَرفوعٌ مِثْلُهُ، وهوَ مُضافٌ، وكافُ الخِطابِ ضميرٌ متَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، والميمُ علامةُ تذِكيرِ الجَمعِ. و "فِي" حَرْفُ جَرٍّ متعلِّقٌ بِخَبَرِ "كان"، و "ضَلَالٍ" مَجْرُورٌ بحرفِ الجَرِّ. وَ "مُبِينٍ" صِفَةٌ لِـ "ضَلَالٍ" مجرورَةٌ مِثلُهُ، وَجُمْلَةُ "كانَ" جَوَابُ القَسَمِ لَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ، وَجُمْلَةُ القَسَمِ فِي مَحَلِّ النَّصْبِ بِـ "قَالَ"، مَقُولُ قولٍ لهَا.