وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ
(78)
قولُهُ ـ تَعالى شَأْنُهُ: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} أَيْ: واذْكُرْ يا مُحَمَّدُ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، نبَأَ دَاودَ وَسُلَيْمانَ ـ عَلَيْهِما السَّلامُ، وَدَاوُودُ هُوَ بْنُ إِيشَا ابْنِ عوبرَ بْنِ باعِرِ بْنِ سَلمونَ بْنِ يَخْشُونَ بْنِ عَمَى بْنِ يَارِبَ بْنِ حَضْرونَ ابْنِ فَارِضَ بْنِ يَهُوذَا بِنْ يَعْقُوبَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ. وَكانَ كما وصَفهُ كعْبُ الأحبارِ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُ: أَحْمَرَ الوَجْهِ، سَبْطَ شَعْرِ الرَّأْسِ، أَبْيَضَ الجِسْمِ، طَويلَ اللِّحْيَةِ في جُعُودَةٍ، حَسَنَ الصَّوْتِ. وَأَخْرَجَ الْحَاكِمُ عَنْ وَهْبِ بْنِ مُنَبِّهٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: هَوَ دَاوُدُ بْنُ إِيشَا بْنِ عُوَيْدِ بْنِ عَابِرٍ مِنْ وَلَدِ يَهْوذَا بْنِ يَعْقُوبَ، وَكَانَ قَصِيرًا، أَزْرَقَ، قَلِيلَ الشَّعْرِ، طَاهِرَ الْقَلْبِ.
وقد جَمَعَ اللهُ لَهُ بَيْنَ النُّبُوَّةِ وَالمُلْكِ، وَنَقَلَ الإمامُ النَّوَوِيُّ ـ رَضِيَ اللهُ تعالى عَنْهُ، عَنْ المؤَرِّخينَ أَنَّهُ عاشَ مِئَةَ سَنَةٍ، وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُمَا، أَنَّ النَّبِيَّ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: كَانَ عُمْرُ آدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ، وَكَانَ عُمْرُ دَاوُدَ سِتِّينَ سَنَةً. فَقَالَ آدَمُ: أَيْ رَبُّ زِدْهُ مِنْ عُمْرِي أَرْبَعِينَ سَنَةً، فَأَكْمَلَ لِآدَمَ أَلْفَ سَنَةٍ وَأَكْمَلَ لِداوُدَ مِئَةَ سَنَةٍ. وأَخْرَجَهُ أَيْضًا أَبو بَكْرٍ الدَّيْنَوَرِيُّ فِي "المُجالَسَةُ وَجَوَاهِرُ العِلْمِ". وَكَانَتْ مُدَّةُ مُلْكِهِ مِنْهَا أَرْبَعُونَ سنةً. وَأَخْرَجَ ابْنُ أَبي شَيْبَةَ فِي مُصَنَّفِهِ، وَابْنُ أَبي الدُّنْيَا فِي "ذِكْرُ الْمَوْتِ" وَالْحَاكِمُ في مُسْتدركِهِ وَصَحَّحَهُ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُمُا، قَالَ: مَاتَ دَاوُدُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَوْمَ السِّتِّ فَجْأَةً فَعَكَفَتِ الطَّيْرُ عَلَيْهِ تُظِلُّهُ.
وَقدْ رزِقَ اثْنَا عَشَرَ ابْنًا مِنْهُمْ سُلَيْمَانُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، ذَكَرَ ذلك كَعْبُ الأَحْبَارِ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، وقالَ: كانَ سُليمانُ أَبْيَضَ اللَّونِ، جَسيمًا، وَسِيمًا، وَضِيئًا، خاشِعًا، مُتَواضِعًا، وقالَ المُؤَرِّخُونَ بأَنَّهُ مَلَكَ وَهُوَ ابْنُ ثَلاثَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَمَاتَ وَلَهُ ثَلاثٌ وَخَمْسُونَ سَنَةً، وَاللهُ أَعْلَمُ.
وَكَانَ دَاودُ يُشَاوِرُ ابْنَهُ سُلَيمانَ ـ عَلَى نَبيِّنا وعَلَيْهِما الصَّلاةُ والسَّلامُ، في كَثِيرٍ مِنْ أُمُورِهِ ـ مَعَ صِغَرِ سِنِّهِ، وَذَلِكَ لِتُقاهُ، وَذَكائِهِ، وَرَجاحَةِ عَقْلِهِ، وَنَقَاءِ فكْرِهِ، وَوَفْرَةِ عِلْمِهِ.
قولُهُ: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} اختُلِفَ في الحَرْثِ، ما هوَ؟ فقيلَ هوَ الزُّروُعُ مِنْ بَقْلٍ، وَقَمْحٍ، وشعيرٍ، وأَشْبَاهِهِ، وأَكْثَرُ المُفسِّرينَ عَلَى أَنَّ الحَرْثَ كانَ كُرُومًا تتَدلَّى مِنْها عَنَاقِيدُ الأَعْنَابِ رواهُ الطَبَرِيُّ في تفسيرِهِ: (17/51)، والحاكِمُ في مُسْتَدْرَكِهِ: (2/885)، والبَيْهَقِيُّ في سُنَنِهِ "الكُبْرَى" (10/118)، وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرِّ المَنْثُور" (5/546)، عنِ ابْنِ مَسْعُودٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، وَالبَغَوِيُّ في تفسيرِهِ: (5/331)، عنْ حَبْرِ الأُمَّةِ عبدِ اللهِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنهُما في رِوَايَةِ عَطاءٍ عَنْهُ. وَرَوَاهُ أيْضًا سُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ فِي "تَفْسِيرِهِ": (ص: 205)، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي "تَفْسِيرِهِ: (2/26)، عَنْ مَسْرُوقٌ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ. وَذَكَرَهُ السُّيُوطِيُّ فِي "الدُّرِّ المَنْثُورٍ": (5/546)، وَعَزَاهُ لِعَبْدِ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدِ بٍنِ حُمَيْدٍ، وابْنِ المُنْذِرِ، وابْنِ أَبي حاتِمٍ. ورواهُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنْعانيُّ فِي "تَفْسيرِهِ" (2/26)، عنْ شَيْخِ الإِسْلاَمِ، الحَافِظِ، الإِمَامِ، مَعْمَرِ بْنِ رَاشِدٍ أَبُو عُرْوَةَ الأَزْدِيُّ مَوْلاَهُم، وَالإمامُ الطَّبَرِيُّ في "تَفْسيرِهِ": (17/51)، عَنِ القَاضِي شُرَيْحٍ بْنِ أُمَيَّةَ بْنِ الحَارِثِ الكِنْدِيِّ، وَذَكَرَهُ عَنْهُ الثَّعْلَبِيُّ في تفسيرِهِ: "الكَشْفُ وَالبَيَانِ": (3/33 أ). وَرَوى عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ في "تَفْسيرِهِ" (2/26)، والطَّبَرِيُّ أَيْضًا: (17/50). عنْ قَتَادَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، أَنَّهُ قالَ: كانَ زَرْعًا. وَذَكَرَهُ أَيْضًا الثَّعْلَبِيَّ فِي تفسيرِهِ "الكَشْفُ والبَيَانُ": (3/33 أ).
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ في: (17/51) مِنْ تفسيرِهِ: (وَأَوْلَى الأَقْوَالِ فِي ذَلِكَ بِالصَّوابِ مَا قَالَ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: "إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ"، وَالحَرْثُ: إِنَّمَا هُوَ حَرْثُ الأَرْضِ. وَجَائزٌ أَنْ يَكونَ ذَلِكَ زَرْعًا، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ غَرْسًا، وَغَيْرُ ضَائِرٍ الجَهْلُ بِأَيِّ ذَلِكَ كَانَ). وأَقُولُ وَبِاللهِ السَّدَادُ: يَجُوزُ أَنْ يَكونَ الحَرْثُ مِنْهُمَا مَعًا فلا يَمْنَعُ أَنْ يشْتَملَ "الحَرْث" على اللَّوْنَيْنِ معًا.
قوْلُهُ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} نَفَشَتْ: أَيْ انْتَشَرَتْ فيهِ غَنَمُ القومِ وَتَفَرَّقَتْ ليْلًا دُونَ راعٍ يَرْعَاهَا فَرَعَتِ الحَرْثَ وَأَفْسَدَتْهُ، ويُقالُ لِرَعِيِ الماشيةِ لَيْلًا "نَفَشٌ"، أَمَّا نَهَارًا فَيُقالُ لَهُ: "هَمَلٌ". نَفَشَتِ الماشِيَةُ َنْفِشُ وتَنْفُشُ نُفُوشًا، وَأَنْفَشْتُهَا: أَيْ: تَرَكْتُهَا تَرْعَى لَيْلًا بِلَا رَاعٍ يرعاها. وَلَا يَكونُ النَفَشُ إِلَّا بِاللَّيْلِ، أَمَّا الهَمَلُ فيَكُونُ لَيْلًا وَنَهَارًا. قالَ الراجزُ:
أَجْرِسْ لَهَا يَا ابْنَ أَبي كِبَاشِ .................. فَمَا لَهَا اللَّيْلَةَ مِنْ إِنْفَاشِ
نُسِبَ لِمَسْعُودٍ عَبْدِ بَنِي الحَارِثِ بْنِ حِجْرٍ الفِزَارِيِّ.
قولُهُ: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} أَيْ: وَكُنْتُ حاضِرًا معهم بِعِلْمِي بِمَا وقعَ منهم فَلَمْ يَغِبْ عَنِّي شيْءٌ مِنْ أَمْرِهِمْ. فَقَدْ ذَكَرَ المُفَسِّرونَ: أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى نَبِيِّ اللهِ دَاوُدَ ـ علَيْهِ السَّلامُ، أَحَدُهُما صَاحِبُ حَرْثٍ، والآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الحَرْثِ: إِنَّ هَذَا انْفَلَتَتْ غَنَمُهُ لَيْلًا فَوَقَعَتْ فِي حَرْثي، وَلَمْ تُبْقِ مِنْه شَيْئًا، فَقَالَ: لَكَ رِقَابُ الغَنَمِ، وَكانَ عِنْدَهُ سُلَيْمَانُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، فَقَالَ: أَوَ غَيْرُ ذَلِكَ؟ يَنْطَلِقُ أَصْحابُ الكَرْمِ بِالْغَنَمِ فَيُصِيبُوا مِنْ أَلْبانِهَا وَمَنَافِعِهَا، وَيَقُومُ أَصْحَابُ الغَنَمِ عَلَى الكَرْمِ، حَتَّى إِذَا كانَ كَلَيْلَةِ نَفَشَتْ فِيهِ، دَفَعَ هَؤُلاءِ إِلى هَؤُلاءِ غَنَمَهُمْ، وَدَفَعَ هَؤُلاءِ إِلَى هَؤُلاءِ كَرْمَهُمْ. فَقَالَ دَاوُدُ: القَضَاءُ مَا قَضَيْتَ، وَحَكُمَ بِذَلِكَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، وَعَبْدُ الرَّزَّاقِ، عَنْ مُجَاهِدٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، فِي الْآيَةِ قَالَ: أَعْطَاهُمْ دَاوُدُ رِقَابَ الْغَنَمِ بِالحَرْثِ، وَحَكَمَ سُلَيْمَانُ بِجُزَّةِ الْغَنَمِ وَأَلْبَانِهَا لِأَهْلِ الْحَرْثِ، وَعَلَيْهِم رعاؤها ويَحْرُثُ لَهُمْ أَهْلُ الْغَنَمِ حَتَّى يَكونَ الْحَرْثُ كَهَيْئَتَهِ يَوْمَ أُكِلَ، ثُمَّ يَدْفَعونَهُ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَأْخُذُونَ غَنَمَهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنْ قَتَادَةَ وَالزهْرِيِّ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما فِي الْآيَةِ قَالَا: نَفَشَتْ غَنَمٌ فِي حَرْثِ قَومٍ فَقَضَى دَاوُدُ أَنْ يَأْخُذُوا الْغَنَمَ، فَفَهَّمَهَا اللهُ سُلَيْمَانَ، فَلَمَّا أُخْبِرَ بِقَضَاءِ دَاوُدَ قَالَ: لَا وَلَكِنْ خُذُوا الْغنَمَ وَلَكُمْ مَا خَرَجَ مِنْ رسلِها وَأَوْلَادِهَا وأَصْوافَها إِلَى الْحَوْلِ.
وأَخْرَجَ عَبْدُ الرَّزَّاقِ، وَعَبْدُ بْنُ حُمَيْدٍ، وَابْنُ الْمُنْذِرِ، وَابْنُ أَبي حَاتِمٍ، عَنْ مَسْرُوقٍ ـ رَضِيَ اللهُ عنْهُ، قَالَ: الْحَرْثُ الَّذِي "نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ" إِنَّمَا كَانَ كَرْمًا نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ فَلَمْ تَدَعْ فِيهِ وَرَقَةً وَلَا عُنْقُودًا مِنْ عِنَبٍ إِلَّا أَكَلَتْهُ، فَأَتَوْا دَاوُدَ فَأَعْطَاهُمْ رِقابَهَا، فَقَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ صَاحِبَ الْكَرْمِ قَدْ بَقِيَ لَهُ أَصْلُ كَرْمِهِ وَأَصْلُ أَرْضِهِ، بَلْ تُؤْخَذُ الْغَنَمُ فَيُعْطاهَا أَهْلُ الْكَرْمِ، فَيَكون لَهُم لَبَنُهَا وَصُوفُهَا وَنَفْعُهَا، وَيُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ الْكَرْمَ، فيَعْمُرُونَهُ وَيُصْلِحُونَهُ حَتَّى يَعُودَ كَالَّذي كَانَ لَيْلَةَ نَفَشَتْ فِيهِ الْغَنَمُ، ثُمَّ يُعْطَى أَهْلُ الْغَنَمِ غَنَمَهُمْ، وَأَهْلُ الْكَرْمِ كَرْمَهُمْ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا، فِي قَوْلِهِ ـ تَعَالى: "وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ" إِلَى قَوْلِهِ: "وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدينَ"، يَقُول: كُنَّا لِمَا حَكَمَا شَاهِدينَ، وَذَلِكَ أَنَّ رَجُلَيْنِ دَخَلَا عَلَى دَاوُدَ: أَحدُهمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، وَالْآخَرُ صَاحِبُ غَنَمٍ، فَقَالَ صَاحِبُ الْحَرْثِ: إِنَّ هَذَا أَرْسَلَ غَنَمَهُ فِي حَرْثي، فَلَمْ تُبْقِ مِنْ حَرْثِي شَيْئًا. فَقَالَ لَهُ دَاوُدُ: اذْهَبْ فَإِنَّ الْغَنَمَ كُلَّهَا لَكَ. فَقَضَى بِذَلِكَ دَاوُدُ. وَمَرَّ صَاحِبُ الْغَنَمِ بِسُلَيْمَانَ ـ علَيْهِ السَّلامُ، فَأَخْبَرَهُ بِالَّذِي قَضَى بِهِ دَاوُدُ، فَدَخَلَ سُلَيْمَانُ عَلى دَاوُدَ، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللهِ إِنَّ الْقَضَاءَ سِوَى الَّذِي قَضَيْتَ. فَقَالَ: كَيفَ؟ قَالَ سُلَيْمَانُ: إِنَّ الْحَرْثَ لَا يَخْفَى عَلى صَاحِبِهِ مَا يَخْرُجُ مِنْهُ فِي كُلِّ عَامٍ، فَلَهُ مِنْ صَاحِبِ الْغَنَمِ أَنْ يَنْتَفِعَ مِنْ أَوْلَادِهَا، وَأَصْوافِها، وَأَشْعَارِهَا، حَتَّى يَسْتَوْفِي ثَمَنَ الْحَرْثِ، فَإِنَّ الْغَنَمَ لَهَا نَسْلٌ كُلَّ عَامٍ. فَقَالَ دَاوُدُ: قَدْ أَصَبْتَ الْقَضَاءَ كَمَا قَضَيْتَ. فَفَهَّمَهَا اللهُ سُلَيْمَانَ.
وَأَخْرَجَ ابْنُ جَريرٍ عَنِ التَّابِعِي الإمامِ الْحَسَنِ البَصْريِّ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، قَالَ: كَانَ الحُكْمُ بِمَا قَضَى بِهِ سُلَيْمَانُ، وَلَمْ يُعَبْ دَاوُدُ ـ عليْهِما السَّلامُ، فِي حُكْمِهِ.
وقَدْ حَذَرَ رَسولُ اللهِ ـ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وسَلَّمَ، رُعاةَ الماشيةِ مِنَ الإضرارِ بالمَزْرُوعَاتِ، وأَمَرَ بإبعادِ الماشيَةِ عَنْهَا وعدَمِ الاقترابِ منها فقالَ: ((إِنَّ أَهْونَ أَهْلِ النَّارِ عذَابًا رَجُلٌ يَطَأُ جَمْرَةً يَغْلِي مِنْهَا دِمَاغُهُ)). فَقَالَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ وأَرْضَاهُ: وَمَا جُرْمُهُ يَا رَسُولَ اللهِ؟. قَالَ: كَانَتْ لَهُ مَاشِيَةٌ يَغْشَى بِهَا الزَّرْعَ وَيُؤْذيهِ، وَحَرَّمَ اللهُ الزَّرْعَ، وَمَا حَوْلَهُ غَلْوَةَ سَهْمٍ ـ وَرُبَّمَا قَالَ رَمْيَةً بِحَجَرٍ، فاحْذَرُوا أَنْ لَا يَسْتَحِبَّ الرَّجُلُ مَا لَهُ فِي الدُّنْيَا، وَيُهْلِكَ نَفْسَهُ فِي الْآخِرَةِ)). أَخْرَجَهُ الإمامُ عَبْدُ الرَّزَّاقِ الصَّنعانيُّ: (10/84، برقم: 18447). عَنْ عِكْرِمَةَ مَوْلَى عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُما، وَغَلْوَةُ السَّهْمِ: مِقَدارُ رَمْيَتِهِ، أَي: يَجِبُ على الراعي أَنْ يبتعدَ عنِ الزُّروعِ بِمِقْدارِ المَسَافَةِ الَّتي يُمْكِنُ أَنْ يبلُغها السَّهْمُ.
قولُهُ تَعالى: {وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ} الواوُ: حَرْفُ للعَطْفٍ، أَوِ للاسْتِئنافٍ، وَ "داودَ" مَفْعُولٌ بِهِ لِفِعْلٍ مَحْذوفٍ والتَّقْديرُ: واذْكُرْ عبْدَنا دَاوُدَ. وَ "وَسُلَيْمَانَ" الواوُ: حرفُ عطْفٍ، أَيْضًا، وَ "سُلَيْمَانَ" مَعْطوفٌ عَلَى "داودَ" مَنْصُوبٌ بِمِثْلِ مَا نُصِبَ بِهِ. والجملةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مُسْتَأْنَفَةٌ لا مَحَلَّ لها مِنَ الإعرابِ.
قَوْلُهُ: {إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ} إِذْ: ظَرْفُ زَمَانٍ مَضَى مُتَعلِّقٌ بالْمُضافِ المُقَدَّرِ، وَالتَّقْديرُ: اذْكُرْ خَبَرَهُمَا إِذْ يَحْكُمَانِ، أَيْ: إِذْ تَحَاكَمَ إِلَيْهِمَا صَاحِبُ حَرْثٍ، نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القَوْمِ الآخَرِينَ، أَيْ: رَعَتْهُ لَيْلًا فَأَكَلَتْ مَا فِيهِ مِنْ ثمارِ أَشْجارهِ، وَرَعَتْ زَرْعَهُ. أوْ اذْكُرْ "إِذْ" وَ "يَحْكُمَانِ" فِعْلٌ مُضارعٌ مرفوعٌ لِتَجَرُّدِهِ مِنَ النَّاصِبِ والجازِمِ، وعلامةُ رفعِهِ ثباتُ النُّونِ في آخِرِهِ لأَنَّهُ مِنَ الأَفعالِ الخمسةِ، وأَلِفُ التَّثْنِيَةِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "فِي" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "يَحْكُمُ"، و "الحرثِ" مجرورٌ بحرفِ الجَرِّ، والجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلَّ الجَرِّ بإضافةِ "إِذْ" إلَيْها.
قولُهُ: {إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ} إِذْ: ظَرْفُ زَمَانٍ للحُكْمِ، بَدَلٌ مِنْ "إذ" الأُولَى، عَلَى كَوْنِهِ مُتَعَلِّقًا بِالمُضَافِ المَحْذُوفِ. و "نَفَشَتْ" فِعْلٌ مَاضٍ مبنيٌّ عَلَى الفَتْحِ، والتاءُ لتأْنيثِ الفاعِلِ. و "فِيهِ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "نفش"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجَرِّ بحرفِ الجَرِّ. و "غَنَمُ" فاعِلُهُ مرفوعٌ بِهِ، مُضافٌ، و "الْقَوْمِ" مَجرورٌ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وَالجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ فِي مَحَلَّ الجَرِّ بإضافَةِ "إِذْ" إِلَيْها.
قوْلُهُ: {وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ} الواوُ: هيَ اعْتِرَاضِيَّةٌ، أَوْ حاليَّةٌ. وَ "كُنَّا" فِعْلٌ ماضٍ ناقصٌ، مَبْنيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هو "نا" المُعَظِّمِ نفسَهُ ـ سُبْحانَهُ وَتَعَالى، وَقَدْ حُذِفَتِ أَلِف "كانَ" مِنْ وَسَطِهَا لِالْتِقاءِ السَّاكِنَيْنِ. وَ "نا" التَّعْظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ اسْمُ "كانَ". و "لِحُكْمِهِمْ" اللامُ: حَرْفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِالخبرِ "شَاهِدِينَ"، و "حُكْمِهِم" مجرورٌ بِحَرْفِ الجَرِّ مُضافٌ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في محلِّ الجرِّ بالإضافةِ إِلَيْهِ، وفي هَذا الضَّميرِ أَوْجُهٌ هِيَ:
أَحَدُها: أَنَّهُ ضَمِيرٌ يُرادُ بِهِ المُثَنَّى، وَإِنَّما وَقَعَ الجَمْعُ مَوْقِعَ التَّثْنِيَةِ مَجَازًا، أَوْ لِأَنَّ التَّثْنِيَةَ جَمْعٌ، وَأَقَلُّ الجَمْعِ اثْنَانِ. وَيَدُلُّ عَلى ذلكَ قِرَاءَةُ حَبْرِ هَذِهِ الأمَّةِ عبْدِاللهِ بْنِ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُما: "لِحُكْمِهِمَا" بِصِيغَةِ التَثْنِيَةِ.
الثاني: أَنَّ المَصْدَرَ مُضافٌ للحاكِمَيْنِ وَهُمَا دَاوُدُ وَسُلَيْمَانُ ـ عليْهِما السَّلامُ، وَالمَحْكومِ عَلَيْهِ، والمَحْكومِ لَهُ، وَعَلَيْهِ فَهَؤُلاءِ جَمَاعَةٌ. وَ يَلْزَمُ مِنْ هَذَا إِضافَةُ المَصْدَرِ لِفَاعِلِهِ وَمَفْعُولِهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً، وَهُوَ إِنَّمَا يُضافُ لِأَحَدِهِمَا فَقَطْ. وَفِيهِ الجَمْعُ بَيْنَ الحَقِيقَةِ والمَجَازِ، فإِنَّ الحَقِيقَةَ إِضَافَةُ المَصْدَرِ لِفَاعِلِهِ، والمَجَازَ إِضَافَتُهُ لِمَفْعُولِهِ.
الثالثُ: أَنَّ هَذَا مَصْدَرٌ لَا يُرادُ بِهِ الدَّلالَةُ عَلى عِلَاجٍ، بَلْ جِيْءَ بِهِ للدَّلالَةِ عَلَى أَنَّ هَذَا الحَدَثَ وَقَعَ وَصَدَرَ وانْتَهَى، وهو كَقَوْلِهِمْ: لَهُ ذَكاءٌ ذَكاءَ الحُكَمَاءِ، وَفَهْمٌ فَهْمَ الأَذْكِياءِ، فَلَا يَنْحَلُّ لِحَرْفٍ مَصْدَرِيٍّ وَفِعْلٍ، وَإِذَا كانَ الأمرُ كَذَلِكَ فَهُوَ مُضَافٌ فِي المَعْنَى للحَاكمِ، وَالمَحْكومِ لَهُ، والمَحْكُومِ عَلَيْهِ مَعًا. وَيَنْدَفِعُ المَحْذُورانِ المَذْكُوران. والمِيمُ: عَلامَةُ تَذْكيرِ الجَمْعِ. وَ "شاهدينَ" هو خَبَرُ "كانَ" مَنْصُوبٌ بِهَا، وَعَلامَةُ نَصْبِهِ الياءُ لأَنَّهُ جَمْعُ المُذَكَّرِ السَّالمُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ جُمْلَةٌ حَاليَّةٌ فهي في مَحَلِّ النَّصِبِ، ويَجُوزُ أَنْ تكونَ هَذِه الجُمْلَةُ جملةً اعْتِرَاضِيَّةً فَلَا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرَابِ.