وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76)
قولُهُ ـ تَعَالَى شَأْنُهُ: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} المُرادُ بالنِّدَاءِ هُنَا: دُعَاؤُهُ عَلَى قَوْمِهِ بِالْعَذَابِ، وَيُؤَكِّدُهُ حِكَايَةُ الله تَعَالَى عَنْهُ ذَلِكَ تَارَةً عَلَى الْإِجْمَالِ كَقولِهِ ـ تَعَالَى مِنْ سُورةِ القَمَرِ: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} الْآيةَ: 10، وَتَارَةً أُخرى عَلَى التَّفْصِيلِ كَقولِهِ منْ سورةِ نوحٍ: {وَقالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّارًا} الآيةَ: 26، وَأَيْضًا فإنَّ قَوْلَهُ تَعَالى هُنَا: :فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ" يَدُلُّ عَلَى أَنَّ اللهَ أَجَابَ دُعاءَهُ وَهَذَا الْجَوَابُ يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مَطْلُوبَهُ فِي سُّؤَالِهِ كانَ النَّجاةَ وأَنَّ التَّلْبِيَةَ مِنَ اللهِ كانَتْ فَوريَّةً وسريعةً لقولِهِ تَعَالَى: "فاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيناهُ". هَذَا عَلَى أَنَّ نِدَاءَهُ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، وَدُعَاءَهُ، كَانَ بِأَنْ وَأَنْ يُهْلِكَهُمْ ويُنْجِيَهُ مِمَّا قدْ يَلْحِقُهُ مِنْ أَذَاهمْ أَوْ هَلَاكِهِم، وَأَنْ يَنْصُرَهُ عَلَيْهِمْ. قالَ تَعَالَى: {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ} الآيةَ: 10، مِنْ سورةِ القمر.
وَلِذَلِكَ قَالَ تعالى في الآيةِ التي بعدَ هَذِهِ الآيةِ: {وَنَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا} الآيةَ: 78، مِنْ هَذِهِ السُّورةِ المُباركةِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: نِداؤهُ هوَ قَوْلُهُ: {رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا * فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا} الآيتَانِ: (5 و 6)، مِنْ سورةِ نوحٍ. وَقالَ آخَرونَ هُوَ قَوْلُهُ في الآيةِ: 26، مِنْها: {رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا}، وَقالَ غيرُهُم هو قَوْلُهُ في الآيَةِ: 28، مِنْ ذاتِ السُّورَةِ: {رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وللمُؤُمنينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا}.
وقد أَجْمَعَ العلَماءُ والعارفونَ الْمُحَقِّقُونَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ النِّدَاءَ الذي دعا فيهِ عليْهِم، كَانَ بِأَمْرِ الله ـ تَعَالَى، لِأَنَّهُ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِأَمْرِهِ لَمْ يُؤْمَنْ أَنْ يَكُونَ الأَصْلَحُ أَنْ لَا يُجَابَ إِلَى دُعائهِ فَيَكونُ في ذَلِكَ سَبٌ لِنُقْصَانِ حَالِ الْأَنْبِيَاءِ، وَلِأَنَّ الْإِقْدَامَ عَلَى أَمْثَالِ هَذِهِ الْمَطَالِبِ لَوْ لَمْ يَكُنْ بِالْأَمْرِ الإلهِيِّ لَكَانَ ذَلِكَ مُبَالَغَةً فِي الْإِضْرَارِ، وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّهُ ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، لَمْ يَكُنْ مَأْذُونًا لَهُ فِي ذَلِكَ. وَقَالَ أَبُو أُمَامَةَ: لَمْ يَتَحَسَّرْ أَحَدٌ مِنْ خَلْقِ الله تَعَالَى كَحَسْرَةِ آدَمَ وَنُوحٍ، فَحَسْرَةُ آدَمَ عَلَى قَبُولِ وَسُوسَةِ إِبْلِيسَ، وَحَسْرَةُ نُوحٍ عَلَى دُعَائِهِ عَلَى قَوْمِهِ. فَأَوْحَى اللهُ تَعَالَى إِلَيْهِ أَنْ لَا تَتَحَسَّرَ فَإِنَّ دَعْوَتَكَ وَافَقَتْ قَدَرِي.
قوْلُهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا: إِنَّ الكَرْبَ العَظِيمَ الذي نَجَّى اللهُ مِنْهُ نَبِيَّهُ نوحًا هُوَ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ إِيَّاهُ، وَمَا كانَ يَتَلَقاهُ مِنَ تكذيبٍ وإِيذَاءٍ. وَمِنَ الْعَذَابِ النَّازِلِ بِالْكُفَّارِ والمكَذِّبينَ لهُ مِنْ قَوْمِهِ بِمَوْتِهِمْ غَرَقًا.
وَقالَ بَعْضُهم إِنَّ الكَربَ الذي نَجَّاهُ اللهُ مِنْهُ هُوَ تَكْذِيبُ قَوْمِهِ إِيَّاهُ وَمَا لَقِيَ مِنَ هُزْئهم بِهِ وَأَذَاهم. وَأَكْثَرُ الْمُفَسِّرِينَ عَلى أَنَّ الكَربَ الذي نَجَّاهُ اللهُ مِنْهُ هُوَ مَوْتُهم غَرَقًا فِي مِياهِ الطُّوفانِ الذي عَمَّ الأَرْضَ فَأَغْرَقَ كُلَّ كائنٍ حيٍّ كانَ عَلَى ظَهْرِهَا آنَذَاكَ إِلَّا نُوحًا وَمَنْ رَكِبَ مَعَهُ سَفِينَتَهُ الَّتي صَنَعَها بِيَدِهِ، فقد كانَ ـ عَلَيْهِ السَّلامُ، نجَّارًا. وَالقولُ الأَوَّلُ أَقْرَبُ لِأَنَّ نوحًا ـ عَلَيْهِ السَّلَامُ، كَانَ قَدْ دَعَاهُمْ إِلَى اللهِ تَعَالَى مُدَّةً طَوِيلَةً تَقْرْبُ مِنْ أَلْفِ سَنَةٍ، نَالَهُ خِلَالَها مِنْهُمْ كُلُّ مَكْرُوهٍ، وَكَانَ غَمُّهُ وضيقُ نفسِهِ يَتَزَايَدُ عَلَيْهِ يومًا بعدَ يومٍ، بِسَبَبِ ذَلِكَ.
وَعِنْدَما أَعْلَمَهُ اللهُ تَعَالَى بِأَنَّهُ سَيُغْرِقُهُمْ، وَأَمَرَهُ أنْ يَتَّخِذِ لهُ فُلكًا يَرْكَبُهُ هوَ وَمَنْ آمَنَ مَعَهُ لِيُنَجِّيهِمُ اللهُ وَيُغْرِقَ الباقينَ، كانَ أَيْضًا عَلَى تَخَوُّفٍ وَغَمٍّ لِأَنَّهُ لَمْ يكُنْ يَعْلَمْ مَنِ الَّذِي سَيَنْجُو مَعَهُ مِنَ الْغَرَقِ مِنْ أَهْلِهِ وَخَاصَّتِهِ، وَمَنِ الَّذِي سَيَغْرَقُ، لِأَنَّ اللهَ قالَ في الآيَةِ: 27، مِنْ سُورَةِ المُؤْمِنُونَ: {فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ}. وَأَهْلُهُ هُمْ أَهْلُ بَيْتِهِ عَدَا أَحَدِ بَنِيهِ لأنَّهُ كانَ كَافَرًا بِهِ. فَقَدْ أَزَالَ اللهُ ـ تَعَالَى، عَنْ نَبِيِّهِ نُوحٍ ـ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامُ، الْكَرْبَ الْعَظِيمَ بِأَنْ نَجَّاهُ مِنْ جَمِيعِ ذَلِكَ، هُوَ وَمَنْ آمَنَ بِهِ، وَرَكِبَ السَّفينةَ مَعَهُ، وَأَغْرَقَ اللهُ الباقِينَ.
قَوْلُهُ تَعَالَى: {وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ} الواوُ: للاسْتِئْنافِ أَوْ للعَطْفِ، وَ "نوحًا" مَفْعُولٌ بِهِ مَنْصُوبٌ بِفِعلٍ مَحْذوفٍ مُقَدَّرٍ وُجُوبًا يُفَسِّرِهُ الظَّاهِرُ بَعْدَهُ، وَهُوَ عَلَى حَذْفِ مُضَافٍ، والتَّقْديرُ: واذْكُرْ خَبَرَ نُوحٍ، وَيَجوزُ أَنْ يكونَ مَعْطُوفًا عَلَى قولِهِ: {لُوطًا} مِنَ الجُمْلَةِ: 74 السَّابقةِ، فَيَكونُ مُشْتَرِكًا مَعَهُ فِي عَامِلِهِ، الذي هوَ {آتَيْنَا} المُفَسَّرِ بِـ {آتَيْنَاهُ}، وَالتَّقْديرُ: وَنُوحًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا. وَ "إِذْ" ظَرْفٌ للزَّمَنِ المَاضِي مُتَعَلِّقٌ بمُضافٍ مُقَدَّرٍ خَبَرًا لِنُوحٍ، أَوْ بَدَلَ اشْتِمَالٍ مِنْهُ، و "نادى" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى الفَتْحَةِ المُقَدَرةِ على آخِرِهِ لِتَعَذُّرِ ظهورِها عَلَى الأَلِفِ، وَفاعِلُهُ ضميرٌ مُسْتترٌ فيهِ جوزًا تَقديرُهُ "هوَ" يَعُودُ عَلَى سيِّدِنا نوحٍ ـ على نبيِّنا وعَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلامً، وَ "مِنْ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بـ "نادى"، وَ "قَبْلُ" مَبْنِيٌ عَلَى الضَّمِّ في مَحَلِّ الجَرِّ بِحَرْفِ الجَرِّ، وَبِنَاءُ "قبلُ" عَلَى الضَّمِّ يَدُلُّ عَلَى مُضَافٍ إِلَيْهِ مُقَدَّرٍ، أَيْ مِنْ قَبْلِ هَؤُلَاءِ، أَيْ قَبْلَ الْأَنْبِيَاءِ الْمَذْكُورِينَ. وَالجُمْلَةُ الفِعْلِيَّةُ هَذِهِ في مَحَلِّ الجَرِّ بإِضَافَةِ "إذْ" إِلَيْها. وجملةُ "اذكُرْ" المُقدَّرةُ مُسْتَأْنَفةٌ لا مَحَلَّ لَهَا مِنَ الإِعْرابِ.
قوْلُهُ: {فَاسْتَجَبْنَا لَهُ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "اسْتَجَبْنَا" فِعْلٌ ماضٍ مبنيٌّ على السُّكونِ لاتِّصالِهِ بضميرِ رفعٍ متَحَرِّكٍ هوَ "نا" المُعظِمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَ "نا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ. و "لَهُ" اللامُ حرفُ جَرٍّ مُتَعَلِّقٌ بِـ "اسْتَجَبْنَا"، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مبنيٌّ على السُّكونِ في محلِّ الرَّفعِ بالفاعِلِيَّةِ، والجُمْلَةُ مَعْطُوفَةٌ عَلَى جُمْلَةِ "نَادَى" عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ الجَرِّ عطْفًا عَلى جملةٍ مَحَلُّها الجَرُّ بالإِضافَةِ.
قولُهُ: {فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ} الفاءُ: عَاطِفَةٌ، و "نَجَبْنَاهُ" فِعْلٌ ماضٍ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ لاتِّصالِهِ بِضَمِيرِ رَفْعٍ مُتَحَرِّكٍ هُوَ "نَا" المُعظِمِ نَفْسَهُ ـ سُبْحانَهُ وتَعَالى، وَ "نَا" التَّعظيمِ هَذِهِ ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ مَبْنِيٌّ عَلى السُّكونِ في مَحَلِّ الرَّفْعِ بالفَاعِلِيَّةِ، والهاءُ: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مفعولٌ بِهِ. وَ "وأَهْلَهَ" الواوُ: حرفُ عَطْفٍ، و "أَهْلَهَ" معطوفٌ عَلَى ضميرِ المفعولِ بِهِ في "نَجَبْنَاهُ"، وهوَ مُضافٌ، والهاء: ضميرٌ مُتَّصِلٌ بِهِ في مَحَلِّ النَّصْبِ مَفْعولٌ بهِ، أيْ ونجَّيْنا أَهْلَهَ. و "مِنَ" حرفُ جَرٍّ مُتَعَلَّقٌ بِـ "نَجَّيْنَا"، و "الكَرْبِ" مجرورٌ بحَرْفِ الجَرِّ. و "الْعَظِيمِ" صِفَةٌ لِـ "الكربِ" مجرورةٌ مِثْلُهُ، والجُمْلَةُ الفعليَّةُ هَذِهِ مَعْطُوفةٌ عَلَى جُمْلَةِ قولِهِ: "فاستجَبْنا لهُ" عَلَى كَوْنِها في مَحَلِّ الجَرِّ بالإِضافةِ.